منتديات قصيمي نت

منتديات قصيمي نت (http://www.qassimy.com/vb/index.php)
-   قسم القصص والروايات (http://www.qassimy.com/vb/forumdisplay.php?f=71)
-   -   رواية ذاكرة الجسد - الجزء الثاني (http://www.qassimy.com/vb/showthread.php?t=219224)

حسن خليل 17-11-08 02:23 PM

رواية ذاكرة الجسد - الجزء الثاني
 
ذاكرة الجسد

للكاتبة أحلام مستغماني

نكمل الرواية بجزء ثاني وذلك لعدم تمكني من الوصول للصفحة الأخيرة من الجزء الأول:

الفهرس:
الفصل الرابع - من الصفحة الأولى حتى الخامسة
الفصل الخامس - من الخامسة حتى الحادية عشرة
الفصل السادس - من الحادية عشرة حتى الصفحة الخامسة عشر





تكملة الفصل الرابع

على مَنْ.. وأنتما ذاكرتي وأحبّتي.

على مَنْ.. وأنت مدينتي وقلعتي.

فلِمَ الخجل؟

هل هناك ملك عربي واحد.. حاكم عربي واحد، لم يبكِ منذ أبي عبد الله مدينة ما؟

فاسقطي قسنطينة.. هذا زمن السقوط السريع!

هل سقطت حقاً يومها.. هذا ما لن أعرفه أبداً.

ولكن أعرف فقط تاريخ سقوطك الأخير، سقوطك النهائي الذي كنت شاهداً عليه بعد ذلك.
فأيّ جنون كان أن تزيد المسافات من حبّك، وأن تأخذي ملامح تلك المدينة أيضاً. وإذا بي كمجنون أجلس كلّ ليلة لأكتب لك رسائل كانت تولد من دهشتي وشوقي وغيرتي عليك. كنت أقصّ لك فيها تفاصيل يومي وانطباعاتي في مدينة تشبهك حد الدهشة.

كتبت لك مرة:

"أريد أن أحبك هنا. في بيتٍ كجسدك، مرسوم على طراز أندلسي.

أريد أن أهرب بك من المدن المعلّبة، وأُسكن حبّك بيتاً يشبهك في تعاريج أنوثتك العربية.
بيتاً تختفي وراء أقواسه ونقوشه واستداراته ذاكرتي الأولى. تظلّل حديقة شجرة ليمون كبيرة، كتلك التي يزرعها العرب في حدائق بيوتهم بالأندلس.

أريد أن أجلس إلى جوارك، كما أجلس هنا على حافة بركة ماء تسبح فيها سمكات حمراء، وأتأملك مدهوشاً.

أستنشق جسدك، كما أستنشق رائحة الليمون البلدي الأخضر قبل أن ينضج.

أيتها الفاكهة المحرّمة.. أمام كلّ شجرة أمرّ بها، أشتهيك.."

كم من الرسائل كتبت لك.. هل يمكن لكاتبة أن تقاوم الكلمات؟ كنت أريد أن أطوقك بالحروف، أن أستعيدك بها، أن أدخل معكما حلقة الكلمات المغلقة في وجهي بتهمة الرسم فقط، فرحت أخترع من أجلك رسائل لم تكتب قبلك لامرأة. رسائل انفجرت في ذهني فجأة بعد خمسين سنة من الصمت.

تراني بدأت يومها أكتب كتابي هذا دون أن أدري، بعد أن انتقل عشقي لك إلى هذه اللغة التي كنت أكتب بها رسائل لأول مرة. قبلك كتبت لنساء عبرن حياتي أيام الشباب والمراهقة.

حسن خليل 17-11-08 02:33 PM

لم أكن أجهد نفسي آنذاك في البحث عن الكلمات.

كانت اللغة الفرنسية تستدرجني تلقائياً بحريتها للقول دون عقد.. ولا خجل.

معك رحت أكتشف العربية من جديد. أتعلم التحايل على هيبتها، أستسلم لإغرائها السري، لإيحاءاتها.

رحت أنحاز للحروف التي تشبهك.. لتاء الأنوثة.. لحاء الحرقة.. لهاء النشوة.. لألف الكبرياء.. للنقاط المبعثرة على جسدها خال أسمر..

هل اللغة أنثى أيضاً؟ امرأة ننحاز إليها دون غيرها، نتعلم البكاء والضحك.. والحب على طريقتها. وعندما تهجرنا نشعر بالبرد وباليتم دونها؟

تراك قرأت تلك الرسائل؟. هل شعرت بعقدة يتمي وخوفي من مواسم الصقيع؟

أأدهشتك أم تراها جاءت في غير وقتها؟

كان لا بد أن أكتبها لك قبل أن يتسلل زياد إليك من كل المسام، ويصبح لغتك.

فهل تفيد رسائل الحب عندما تأتي متأخرة عن الحب؟

ألم يحب سلفادور دالي وبول إيلوار المرأة نفسها؟

وعبثاً راح بول إيلوار يكتب لها أجمل الرسائل.. وأروع الأشعار.. ليستعيدها من دالي الذي خطفها منه. ولكنها فضّلت جنون دالي المجهول آنذاك.. على قوافي بول إيلوار. وظلّت حتى موتها منحازة لريشة دالي فقط الذي تزوجها أكثر من مرة بأكثر من طقس، ولم يرسم امرأة غيرها طوال حياته.

الواقع أن الحب لا يكرر نفسه كل مرة، وأن الرسامين لا يهزمون الشعراء دائماً.. حتى عندما يحاولون التنكّر في ثياب الكلمات.

حسن خليل 17-11-08 02:35 PM

عندما عدت بعد ذلك إلى باريس، كان في الحلق غصّة لازمتني طوال تلك الأيام، وأفسدت عليّ متعة نجاح ذلك المعرض. واللقاءات الجميلة أو المفيدة التي تمّت لي أثناءه.

كان هناك شيء داخلي ينزف دون توقّف. عاطفة جديدة للغيرة والحقد الغامض الذي لا يفارقني ويذكّرني كلّ لحظة أن شيئاً ما يحدث هناك.

استقبلني زياد بشوق. (أكان حقاً سعيداً بعودتي؟). أمدّني بالبريد الذي وصل أثناء غيابي وبورقة سجّل عليها أسماء الذين طلبوني هاتفياً خلال تلك الأيام.

أمسكتها دون أن ألقي عليها نظرة. كنت أدري أنني لن أجد اسمك فيها.

ثم راح يسألني عن المعرض.. عن سفرتي وأخباري العامة، ويحدثني عن آخر التطورات السياسية بشيء من القلق، الذي فسّرته بارتباكه لحظتها أمامي لسبب أو لآخر.

كنت أستمع إليه وأنا أتفقد بحواسي ذلك البيت كما في خرافة الغول الذي كان كلما عاد إلى بيته، راح يتشمّم الأجواء بحثاً عن إنسان قد يكون تسلّل إلى مغارته أثناء غيابه..

كنت أشعر أنك مررت بهذا البيت. إحساس غامض كان يؤكد لي ذلك، دون أن أجد في الواقع حجة تثبت لي شكوكي.

ولكن هل تهم الحجّّة؟.. هل يعقل أن تمر عشرة أيام دون أن تلتقيا.. وأين يمكن أن تلتقيا في مكان غير هذا؟ وإذا التقيتما هل ستكتفيان بالحديث؟

كنتِ منجماً للكبريت.. وكان زياد عاشقاً مجوسياً يعبد اللّهب!

فهل كان يمكن أن يصمد طويلاً في وجه نيرانك.. أنت المرأة التي يحلم الرجال أن يحترقوا بها ولو وهماً؟

رحت أبحث في ملامح زياد عن فرحٍ ما، عن سعادةٍ ما أجد فيها الحجة القاطعة على أنك كنت له.

ولكن لم يبدُ على وجهه أي شعور خاص، غير القلق.

فجأة حدثني عنك قال:

- لقد طلبت منها أن تأتي غداً لنتناول معاً غداءنا الأخير..

صحت بشيء من الدهشة:

- لماذا الأخير؟

قال:

- لأنني سأسافر الأحد..

حسن خليل 17-11-08 02:52 PM

- ولماذا الأحد؟

قلتها وأنا أشعر بشيء من الحزن والفرح معاً.

أجاب زياد:

- لأنني يجب أن أعود.. كنت أنتظر فقط عودتك لأسافر. لم يكن مقرراً أن أبقى هنا أكثر من أسبوعين. لقد قضيت شهراً كاملاً ولا بدّ أن أعود..

ثم أضاف بشيء من السخرية:

- قبل أن أتعود على الحياة الباريسية.

تراك أنتِ الحياة الباريسية التي كان يخاف أن يتعود عليها؟ تراه كان يهرب مرة أخرى من حبٍ آخر أم أن مهمته قد انتهت أخيراً فلم يعد أمامه غير الرحيل؟

مر يوم السبت وسط مشاغل عودتي، وانشغال زياد بترتيب تفاصيل سفره.

حاولت أن أتحاشى الجلوس إليه ذلك المساء. ولكن كان يوم الأحد يتربص بنا ويضعنا أخيراً وجهاً لوجه نحن الثلاثة في ذلك الغداء الحاسم.

يومها قابلتني بحرارة لم أتوقعها. فسّرتها على طريقتي بأنها شعور بالذنب، (أو ربما بالامتنان). ألم أقدم لك حباً على طبق من شعر على طاولة هي.. بيتي؟!

ثم شكرتني على رسائلي، وأبديت إعجابك بأسلوبي.. وكأنك أستاذة قدم لها تلميذ نصّاً إنشائياً.
أزعجني شكرك العلني، وشعرت أنك حدّثت زياد عنها وربما أريته إياها أيضاً.

كنت على وشك أن أقول شيئاً عندما واصلت:

- تمنيت لو كنت معك هناك.. هل غرناطة جميلة حقاً إلى هذا الحد؟ وهل زرت حقاً بيت غارسيا
لوركا في (خوانتا فاكيروس).. أليس هذا اسم ضيعته كما قلت؟ حدّثني عنه..

وجدت في طريقتك في بدء الحديث معي من الهوامش، شيئاً مثيراً للدهشة، وربما للتفكير أيضاً.
أهذا كل ما وجدت قوله بعد كل الزوابع التي مرّت بنا، وبعد عشرة أيام من الجحيم الذي عشته وحدي؟

لا أدري كيف خطر عندئذٍ في ذهني شهد لفيلم شاهدته يوماً عن حياة لوركا..

حسن خليل 17-11-08 02:55 PM

قلت لك:

- أتدرين كيف مات لوركا؟

قلتِ:

- بالإعدام..

قلت:

- لا.. وضعوه أمام سهل شاسع وقالوا له امشِ.. وكان يمشي عندما أطلقوا خلفه الرصاص، فسقط ميتاً دون أن يفهم تماماً ما الذي حدث له.

إنه أحزن ما في موته. فلم يكن لوركا يخاف الموت، كان يتوقّعه، ويذهب إليه مشياً على الأقدام كما نذهب لموعدٍ مع صديق.. ولكن كان يكره فقط أن تأتيه الرصاصة من الظهر!

شعرت آنذاك أن زياد تلقي كلماتي كرصاصة في الصدر. رفع عينيه نحوي، أحسسته على وشك أن يقول شيئاً ولكنه صمت.

كنا نفهم بعضنا دون كثير من الكلام.

ندمت بعدها على إيلامي المتعمد له. فقد كان إيلامه يعزّ عليّ أكثر من ألمك. ولكن كان هذا أقل ما يمكن أن أقوله له بعد كل ما عشته من عذاب بسببه.

وربما كان أكثره أيضاً.

تحول غداؤنا فجأة إلى وجبة صمت مربك تتخلله أحيانا أحاديث مفتعلة، كنتِ تخترعينها أنتِ بفطرةٍ نسائية لترطيب الجو.. وربما للمراوغة. ولكن عبثاً.

كان هناك شيء من البلّور قد انكسر بيننا. ولم يعد هناك من أمل لترميمه.

سألتكِ بعدها:

- هل ستأتين معي لنرافق زياد إلى المطار؟

أجبتِ:

حسن خليل 17-11-08 03:05 PM

- لا.. لا يمكن أن أذهب إلى المطار.. قد ألتقي بعمي هناك، إذ أنه يحدث أن يمر بمكتب الخطوط الجوية الجزائرية. ثم إنني أكره المطارات.. وأكره مراسيم الوداع. الذين نحبهم لا نودعهم، لأننا في الحقيقة لا نفارقهم. لقد خلق الوداع للغرباء.. وليس للأحبة.

كانت تلك إحدى طلعاتك العجيبة المدهشة كقولك السابق مثلاً "نحن لا نكتب إهداءً سوى للغرباء وأما الذين نحبهم فهم جزء من الكتاب وليسوا في حاجة إلى توقيع في الصفحة الأولى.."

ولماذا الوداع؟

هل هناك من ضرورة لوداع آخر؟

كنت أراك طوال وجبة الغداء تلتهمينه بنظراتك ولا تأكلين شياً سواه.

كانت عيناك تودّعان جسده قطعة قطعة. تتوقّفان طويلاً عند كلّ شيء فيه، وكأنك تختزنين منه صوراً عدة.. لزمن لن يبقى لك فيه سوى الصور.

وكان هو يتحاشى نظراتك، ربما مراعاة لي، أو لأن كلماتي الموجعة أفقدته رغبة الحب.. ورغبة الأكل كذلك. وجعلته يحوّل نظراته الحزينة إلى أعماقه وإلى ما بعد السفر.

وكنت أنا لا أقل حزناً عنكما، ولكن حزني كان فريداً وفرديّاً كخيبتي. متشعّب الأسباب غامضاً كموقفي من قصّتكما العجيبة.

وربما زاده رفضك مرافقتي إلى المطار توتراً. فقد كنت أطمع في عودتك معي على انفراد لأخلو أخيراً بك. لأفهم منك دون كثير من الأسئلة، إلى أيّ مدى كنت قادرة على محو تلك الأيام من ذاكرتك، والعودة إليّ دون جروح أو خدوش..

كنت أدري أن قلبك قد أصبح منحازاً إليه. وربما جسدك أيضاً. ولكنني كنت أثق بمنطق الأيام. وأعتقد أنك في النهاية ستعودين إليّ، لأنه لن يكون هناك سواي.. ولأنني ذاكرتك الأولى.. وحنينك الأول لأبوة كنت أنا نسخة أخرى عنها.

فرحت أراهن على المنطق وأنتظرك.

هنالك مدن كالنساء، تهزمك أسماؤها مسبقاً. تغريك وتربكك، تملأك وتفرغك، وتجرّدك ذاكرتها من كل مشاريعك، ليصبح الحب كل برنامجك.

هنالك مدن.. لم تخلق لتزورها بمفردك. لتتجول وتنام وتقوم فيها.. وتتناول فطور الصباح وحيداً.

هنالك مدن جميلة كذكرى، قريبة كدمعة، موجعة كحسرة..

حسن خليل 17-11-08 03:18 PM

هنالك مدن.. كم تشبهك!

فهل يمكن أن أنساك في مدينة اسمها.. غرناطة؟

كان حبّك يأتي مع المنازل البيضاء الواطئة، بسقوفها القرميدية الحمراء.. مع عرائش العنب.. مع أشجار الياسمين الثقيلة.. مع الجداول التي تعبر غرناطة.. مع المياه.. مع الشمس.. مع ذاكرة العرب.

كان حبك يأتي مع العطور والأصوات والوجوه، مع سمرة الأندلسيات وشعرهن الحالك.

مع فساتين الفرح.. مع قيثارة محمومة كجسدك.. مع قصائد لوركا الذي تحبينه.. مع حزن أبي فراس الحمداني الذي أحبه.

كنت أشعر أنك جزء من تلك المدينة أيضاً.. فهل كل المدن العربية أنت.. وكل ذاكرة عربية أنت؟

مر الزمان وأنت مازلت كمياه غرناطة، رقراقة الحنين.. تحملين طعماً مميزاً لا علاقة له بالمياه القادمة من الأنابيب والحنفيات.

مر الزمن، وصوتك مازال يأتي كصدى نوافير المياه وقت السّحر، في ذاكرة القصور العربية المهجورة، عندما يفاجئ المساء غرناطة، وتفاجئ غرناطة نفسها عاشقة لملك عربي غادرها لتوه..

كان اسمه "أبا عبد الله". وكان آخر عاشق عربي قبّلها!

تراني كنت ذلك الملك الذي لم يعرف كيف يحافظ على عرشه؟

تراني أضعتك بحماقة أبي عبد الله، وسأبكيك يوماً مثله؟

كانت أمه قد قالت له يوماً وغرناظة تسقط في غفلة منه: "ابك مثل النساء مُلكاً مُضاعاً، لم تحافظ عليه مثل الرجال.."

فهل حقاً لم أحافظ عليك؟. وعلى من أُعلن الحرب.. أسألك؟

على مَنْ.. وأنتما ذاكرتي وأحبّتي.

على مَنْ.. وأنت مدينتي وقلعتي.

حسن خليل 17-11-08 04:14 PM

فلِمَ الخجل؟

هل هناك ملك عربي واحد.. حاكم عربي واحد، لم يبكِ منذ أبي عبد الله مدينة ما؟

فاسقطي قسنطينة.. هذا زمن السقوط السريع!

هل سقطت حقاً يومها.. هذا ما لن أعرفه أبداً.

ولكن أعرف فقط تاريخ سقوطك الأخير، سقوطك النهائي الذي كنت شاهداً عليه بعد ذلك.

فأيّ جنون كان أن تزيد المسافات من حبّك، وأن تأخذي ملامح تلك المدينة أيضاً. وإذا بي كمجنون أجلس كلّ ليلة لأكتب لك رسائل كانت تولد من دهشتي وشوقي وغيرتي عليك. كنت أقصّ لك فيها تفاصيل يومي وانطباعاتي في مدينة تشبهك حد الدهشة.

كتبت لك مرة:

"أريد أن أحبك هنا. في بيتٍ كجسدك، مرسوم على طراز أندلسي.

أريد أن أهرب بك من المدن المعلّبة، وأُسكن حبّك بيتاً يشبهك في تعاريج أنوثتك العربية.

بيتاً تختفي وراء أقواسه ونقوشه واستداراته ذاكرتي الأولى. تظلّل حديقة شجرة ليمون كبيرة، كتلك التي يزرعها العرب في حدائق بيوتهم بالأندلس.

أريد أن أجلس إلى جوارك، كما أجلس هنا على حافة بركة ماء تسبح فيها سمكات حمراء، وأتأملك مدهوشاً.

أستنشق جسدك، كما أستنشق رائحة الليمون البلدي الأخضر قبل أن ينضج.

أيتها الفاكهة المحرّمة.. أمام كلّ شجرة أمرّ بها، أشتهيك.."

كم من الرسائل كتبت لك.. هل يمكن لكاتبة أن تقاوم الكلمات؟ كنت أريد أن أطوقك بالحروف، أن أستعيدك بها، أن أدخل معكما حلقة الكلمات المغلقة في وجهي بتهمة الرسم فقط، فرحت أخترع من أجلك رسائل لم تكتب قبلك لامرأة. رسائل انفجرت في ذهني فجأة بعد خمسين سنة من الصمت.

تراني بدأت يومها أكتب كتابي هذا دون أن أدري، بعد أن انتقل عشقي لك إلى هذه اللغة التي كنت أكتب بها رسائل لأول مرة. قبلك كتبت لنساء عبرن حياتي أيام الشباب والمراهقة.

لم أكن أجهد نفسي آنذاك في البحث عن الكلمات.

حسن خليل 17-11-08 04:24 PM

كانت اللغة الفرنسية تستدرجني تلقائياً بحريتها للقول دون عقد.. ولا خجل.

معك رحت أكتشف العربية من جديد. أتعلم التحايل على هيبتها، أستسلم لإغرائها السري، لإيحاءاتها.

رحت أنحاز للحروف التي تشبهك.. لتاء الأنوثة.. لحاء الحرقة.. لهاء النشوة.. لألف الكبرياء.. للنقاط المبعثرة على جسدها خال أسمر..

هل اللغة أنثى أيضاً؟ امرأة ننحاز إليها دون غيرها، نتعلم البكاء والضحك.. والحب على طريقتها. وعندما تهجرنا نشعر بالبرد وباليتم دونها؟

تراك قرأت تلك الرسائل؟. هل شعرت بعقدة يتمي وخوفي من مواسم الصقيع؟

أأدهشتك أم تراها جاءت في غير وقتها؟

كان لا بد أن أكتبها لك قبل أن يتسلل زياد إليك من كل المسام، ويصبح لغتك.

فهل تفيد رسائل الحب عندما تأتي متأخرة عن الحب؟

ألم يحب سلفادور دالي وبول إيلوار المرأة نفسها؟

وعبثاً راح بول إيلوار يكتب لها أجمل الرسائل.. وأروع الأشعار.. ليستعيدها من دالي الذي خطفها منه. ولكنها فضّلت جنون دالي المجهول آنذاك.. على قوافي بول إيلوار. وظلّت حتى موتها منحازة لريشة دالي فقط الذي تزوجها أكثر من مرة بأكثر من طقس، ولم يرسم امرأة غيرها طوال حياته.

الواقع أن الحب لا يكرر نفسه كل مرة، وأن الرسامين لا يهزمون الشعراء دائماً.. حتى عندما يحاولون التنكّر في ثياب الكلمات.
***


حسن خليل 17-11-08 04:48 PM

عندما عدت بعد ذلك إلى باريس، كان في الحلق غصّة لازمتني طوال تلك الأيام، وأفسدت عليّ متعة نجاح ذلك المعرض. واللقاءات الجميلة أو المفيدة التي تمّت لي أثناءه.

كان هناك شيء داخلي ينزف دون توقّف. عاطفة جديدة للغيرة والحقد الغامض الذي لا يفارقني ويذكّرني كلّ لحظة أن شيئاً ما يحدث هناك.

استقبلني زياد بشوق. (أكان حقاً سعيداً بعودتي؟). أمدّني بالبريد الذي وصل أثناء غيابي وبورقة سجّل عليها أسماء الذين طلبوني هاتفياً خلال تلك الأيام.

أمسكتها دون أن ألقي عليها نظرة. كنت أدري أنني لن أجد اسمك فيها.

ثم راح يسألني عن المعرض.. عن سفرتي وأخباري العامة، ويحدثني عن آخر التطورات السياسية بشيء من القلق، الذي فسّرته بارتباكه لحظتها أمامي لسبب أو لآخر.

كنت أستمع إليه وأنا أتفقد بحواسي ذلك البيت كما في خرافة الغول الذي كان كلما عاد إلى بيته، راح يتشمّم الأجواء بحثاً عن إنسان قد يكون تسلّل إلى مغارته أثناء غيابه..

كنت أشعر أنك مررت بهذا البيت. إحساس غامض كان يؤكد لي ذلك، دون أن أجد في الواقع حجة تثبت لي شكوكي.

ولكن هل تهم الحجّّة؟.. هل يعقل أن تمر عشرة أيام دون أن تلتقيا.. وأين يمكن أن تلتقيا في مكان غير هذا؟ وإذا التقيتما هل ستكتفيان بالحديث؟

كنتِ منجماً للكبريت.. وكان زياد عاشقاً مجوسياً يعبد اللّهب!

فهل كان يمكن أن يصمد طويلاً في وجه نيرانك.. أنت المرأة التي يحلم الرجال أن يحترقوا بها ولو وهماً؟

رحت أبحث في ملامح زياد عن فرحٍ ما، عن سعادةٍ ما أجد فيها الحجة القاطعة على أنك كنت له.

ولكن لم يبدُ على وجهه أي شعور خاص، غير القلق.

فجأة حدثني عنك قال:

- لقد طلبت منها أن تأتي غداً لنتناول معاً غداءنا الأخير..

صحت بشيء من الدهشة:

- لماذا الأخير؟

قال:

- لأنني سأسافر الأحد..


الساعة الآن 08:10 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. , Designed & TranZ By Almuhajir