المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العارية


مجد ولين
13-05-06, 07:31 PM
عــــارية ..
<O
لم يخالج صاحبه شك في أنه يهذي أو يمزح حينما ضغط على يده في عرض الطريق وناداه : <O
= ألم أقل لك : إنني سألقاها الآن ؟ ها هي ذي يا سيدي أمامك لتصدقني !

<O
ونظر صاحبه فإذا فتاة مبهوتة مقيدة الخطوات ، تتوالى على سيماها في لحظة شتى الانفعالات . <O
<O
أما هو فقد تابع سيره ويده في يد صاحبه ، يضغط عليها كما ضغط عليها كما ضغط أول مرة . وإنه ليترنح فيتظاهر بالتماسك ، وتتلاحق أنفاسه فيتظاهر بالابتسام ، حتى يصلا إلى مفرق الطريق فإذا هما يقفان ! <O
<O
لم يكن أحدهما بأقدر من الآخر على تحديد الاتجاه . فأما صاحبه فكان ما يزال في دهشة المفاجأة : المفاجأة من تحقق النبوءة على هذا النحو الذي لا يعهد إلا في عالم الأساطير . وأما هو فكان ما يزال في هزة المفاجأة : المفاجأة التي تنبأ بها منذ لحظة ، ثم هو يتلقاها كمن لا ينتظرها بحال ! <O
<O
وحينما طال بهما الانتظار ، صحا صاحبه قبله من دهشته ، وحسب أنه يسدي إليه خيراً إذا هو عاد به أدراجهما في الطريق ليواجهها مرة أخرى ! <O
<O
ولم يكن هو زاهدا في محاولة هذا اللقاء ، ولكنه كان في هذه اللحظة يستطيع أن يواجه الشيطان ، ولا يواجه الفتاة التي تهتف به كل ذرة في كيانه أن يلقاها الآن ! <O
<O
لقد تنبهت فيه غريزة الخوف من الخطر حينما رأى نفسه يكاد يستسلم لمحاولة صاحبه ، فيمثل دور الفراشة التي تتهافت حتى تحترق على نور المصباح . فإذا هو يمرق بصاحبه إلى ممر يؤدي إلى شارع آخر نواز للشارع الخطر ، وهو يزعم لصاحبه أنه يقصد إلى مشرب هنالك خاص ، حتى إذا صارا في الشارع الأخير ، أحس انه يلتقط أنفاسه ، وأنه في مأمن من جاذبية التيار .... فوقفا يستريحان . <O


<O
*** <O


<O
كان صاحبه يعلم قصته منذ نشأتها . بل كان يعيش معه القصة في كل فصولها ، وكان يعلم أنه قد مضى على آخر لقاء لهما عام كامل بعد أن وقع بينهما ما وقع ، مما يؤذن بانفصال لا رجعة فيه ، وبعد أن انتهى بينهما كل شيء ولم يبق إلا الذكريات .<O
<O
وكان صاحبه يعلم مرارة الذكريات وحلاوتها ، تلك المرارة وهذه الحلاوة اللتان يمزجهما في كأس واحدة ، يخشاها أبدا ، ويحن إليها أبدا ، ولا يفتأ يتشهاها مرة ، ويجفل من مسها مرة ، ويصوغ ذلك كله في قصائده وأغانيه ، بل يتخذ من ذلك كله مادة حياة . <O
<O
كان كل شيء قد انتهى ، وانتهى بالصورة التي يعييه أن يحاول بعدها وصل ما انقطع ، أو رجع ما فات ، كانت كبرياؤه تأبى عليه أن يعود ، وكانت مرارة الذكرى تطغى على حلاوتها في معظم الأحيان ، وكانت تجربته تذكره دائماً بالآلام . <O

<O
ولكن هذه التجربة وتلك الكبرياء لم تكن واحدة منها بمستطيعة أن تصرف طيفها عنه ، أو تمحو صورتها من نفسه ، أو تصرفه إلى حياة أخرى غير الحياة التي رسمها خياله معها . كانت قد استحالت في حياته إلى أسطورة خرافية تسيطر على هذه الحياة . <O
<O
وكان يزعم لنفسه أو تزعم له نفسه – حينما يسترجع مرارة الكأس المسمومة – أنه قد انصرف عنها ، وأن الأسطورة الخرافية قد تنحت عن مجرى حياته ، فهو يصرف هذه الحياة كيفما يشاء ! <O
<O
وتحدث بهذا الزعم لنفسه مرة ، وتحدث به لصاحبه مرات . ولكنه كان يحس في أعماقه ، وهن هذا الزعم وتهالكه ، فيزيده هذا الإحساس توكيداً لما يزعم ، ومجاهرة بما يدعي ! ، كالخائف يهتف بالقوة والتحدي ليتشجع في وجه أشباح الظلام ! <O
<O
وكثيراً ما راوده صاحبه على أن يحاول العودة والاتصال – وهو يعلم من دخيلة نفسه ما يعلم – فكان هذا يزيده إصرارا على كبريائه ، واستعادة لمرارة الذكرى ، وادعاء بأنها لم تعد شيئاً في حياته . وإن كان يتخاذل في بعض الأحيان ، فيعترف له بأنها أعمق في نفسه من هذا الادعاء ومن تلك الكبرياء ، وأن الذي يعصمه من محاولة العودة إنما هو مرارة الذكرى ووخز الأشكواك . <O
<O
ثم تلت ذلك فترة أحس فيها حقيقة بأن عالمه قد خلا من تلك الاسطورة اللعينة ، ولكنه لم يسترح لهذا الإحساس . <O
<O
لقد شعر بالفراغ والجفاف ، وانتابه ما ينتاب المؤمن بعد الإلحاد ، وما يصيب الصوفي بعد الضلال !

<O
لقد خلا الهيكل من الصنم المعبود ، واستوحش الصوفي من سبحات الشهود ، وران على نفسه وعلى العالم كله ظلام وخمود

<O
لقد عادت الحياة تكلفا لا يطاق ، وراح يقطعها كما يقطع الأجير المسخر أيامه ولياليه في العمل المجهد الكريه ، وليس له منه إلا أجره الزهيد ! <O
<O
ألا ما أشقى الملحدين الحيارى الشاردين عن الهيكل ، ولو كانت تعمره الأصنام ! <O


<O
*** <O


<O
واليوم – بعدما انقضى عام كامل – كان قد تناول الغداء مع صاحبه هذا وصديق ثالث لهما . وهم ثلاثتهم من أصدقاء الصبا ، ولكل منهم قصة في حياته تنتهي بالحرمان على نحو من الأنحاء ، ولكل منهم موسم يتحدث فيه عن قصته حينما تبدع يد القدر فيها فصلا جديداً ، فحيثما ضمهم مجلس تسللت إلى أحاديثهم قصة من قصصهم الثلاث ! <O

<O
وبعد الغداء ذهب الصديق الثالث لبعض شأنه ، بعدما قص على صديقيه فصلا من فصوله ، هاج صاحبه لأن يقص عليه بدوره فصلا من قصته : وما يكاد صاحبه ينتهي من هذا الفصل الأخير حتى تنبض في نفسه لهفة خاطفة ، وحتى ينسى كبرياءه وادعاءه ، وينسى مرارة تجاربه وذكرياته ، وحتى يفضي إلى صاحبه بهذه اللهفة العارمة : <O
= كم أنا مشتاق إليها ! إن المصادفات التي كانت تبيح لي لقاءها مرة ومرة – أيام أن لم يكن لقاؤنا رهن المصادفات – عادت تضن بها اليوم على مدار العام ! <O
قال له صاحبه : <O
= إن الأقدار لحريصة على حبكة الرواية ! <O
فمضى هو في لهفة حديثه : ترى كيف هي الآن ؟ أريد أن أعلم أي خبر عنها ، بل أريد فقط أن ألمحها من بعيد . ترى تغيرت ؟ أم ماتزال كعهدي بها منذ آخر لقاء ؟ <O

<O
ثم ينتفض واقفا من المقهى الذي كانا يستريحان فيه ، ويأخذ بيد صاحبه ، وإنه ليكاد يدفعه دفعا إلى السير في الطريق العام . <O
وقال له صاحبه – بعد مسيرة خطوات : <O
= إنني اهم أن أفترق عنك لشأن خاص <O
فتمسك به وهو يقول : <O
= كلا ! لن تتركني . فسنتسكع هنا ! <O
ويسكت لحظة ليقول – وكأنما يستشرف لرؤيا من بعيد : <O
= أحس انني سألقاها الآن .
فيتهكم صاحبه ويجيبه مداعبا :<O
= إذن أتركك تستمتع بهذا اللقاء ! <O
وإنه ليخشى أن ينفذ صاحبه وعيده ، وأنه ليحس برعشة في كيانه كمن يواجه الخطر ، فيقول : <O
= كلا ! لن تتركني . فإنني لأفضل إذا لقيتها أن تكون معي ، كما يحسن أن تكون معي لو كانت صدمة قطار أو صعقة تيار ، ثم يتلو أبياتا من إحدى قصائده في هذا السياق .
وإنه ليمد بصره ، فإذا المفاجأة المنظورة ، وإذا الخطر المرتقب على بعد خطوات . <O
يا للسماء ! بل يا للشيطان ! <O
إنها الأسطورة الخالدة في صورة من صورها الكثيرة . وهل كانت القصة كلها إلا أسطورة في عالم الخرافات . <O



<O
*** <O


<O
حينما هدأ روعه ، واستقرت قدماه في الشارع الموازي للشارع الخطر ، كان في حاجة ماسة إلى الوحدة والانفراد ، كان يحمل في وطابه ثروة مفاجئة ، يريد أن يستعرضها وحده في خفية عن الأنظار ! <O
قال له صاحبه : <O
= والآن إلى أين ؟<O
قال : <O
= إلى الضاحية <O
قال الصاحب : <O
= وهو كذلك لتستريح ! <O

<O
وسار به مرة أخرى إلى الشارع ليركبه الترام ، فلم يحس هذه المرة بالرهبة من الشارع الخطر ، ولم يحس باللهفة عليه أيضا . <O
لقد كان في وطابه من الثروة ما بشغله عن الرهبة واللهفة جميعاً . <O
<O
وحينما انفرد في الترام كان في غيبوبة حالمة . كانت الأشياء والمناظر والأشخاص تتوالى على عينه المفتوحة كما تتوالى الأطياف الغامضة والرؤى اللطيفة ، فلا تترك في حسه إلا ظلالا خفيفة . ومع هذا فقد كان يود الخلاص من هذه الظلال . كان يضم جوانحه في رفق على ومضة من عالم الخلود ، لا يجوز أن تخشاها ظلال الزحمة الفارغة في عالم الهالكين . <O

<O
ثم ركب قطار الضاحية ، وإنه ليركبه كل يوم في الصباح والمساء ، وإنه ليضيق به في الأيام الأخيرة وبما يثيره من الضجيج والغبار ، ولكنه اليوم لا يشعر بهذا الضجيج ، ولا يلتفت لهذا الغبار . <O ></O >
وإن القطار ليخرج من العمار إلى الصحارى في ساعة الغروب ، وإنه ليرسل ببصره كالحالم في هذا الفضاء الجميل ، وكأنما يراه أول مرة في هذا الأوان ! <O
<O



***<O


<O
في هذا المساء كان كالحالم المخدور ، فإذا صحا فليستعيد في خياله موكب الصور المتزاحمة في تلك اللحظة المليئة ، وليحاول أن يتخيل كيف كانت سحنته وملامحه بعدما لمح كالبرق سحنتها وملامحها وليسأل نفسه كالأطفال : <O
أكان يبدو علي التماسك وعدم المبالاة ؟
أم كنت خائراً مضعضع القوى ؟ <O
أكنت منفرج الملامح باش السمات ؟ <O
أم كنت مقطب الوجه مغضن الجبين ؟ <O
ترى أسأت إليها بجمودي وقلة مبالاتي ؟ <O
أم ترى استشفت خواطري وانفعالاتي ؟ <O
ما الذي كانت تفعله لو لم يكن معي صاحبي ؟ <O
ما الذي كنت أفعل لو لاقيتها منفرداً ؟
<O
وهكذا وهكذا من هذه الأسئلة الطفولية الساذجة ، التي لا يطمئن فيها إلى جواب ، والتي كانت تخطر له ببال ، لولا الأسطورة التي تظلل حياته ، وترده في كثير من الأحيان إلى خواطر الأطفال ، ولكنه مع هذا كله لم يكن قلقا ولا مهتاجا ، كان هادئ القلب ، رضي النفس ، نشوان الخيال . لقد أرضاه أنها لاتزال بعد هذا العهد الطويل تضطرب هذا الاضطراب حين تلقاه ، وأنه يستطيع أن يتظاهر بالتماسك في وجه هذا الاضطراب !
<O
ولقد أرضاه أنه لا يزال يحمل الشعلة المقدسة بين جنبيه ، ويملك هذا السر الذي كان يحسبه قد تاه : سر التوجه إلى الصنم بمثل هذه الحرارة ومثل هذا الاختلاج ! <O
ولقد طمأنه أن صاحبه يقرر – وقد رأى منهما ما راى – أن الستار لم يسدل بعد ، وأن الرواية لم تتم فصولا ، وأن في الجعبة مخبآت . لقد استمع إلى نبوءة صاحبه هذه في لهفة واشتياق كما يستمع إلى أسعد البشريات ! <O


<O
*** <O


<O
وكان في الأيام الأخيرة قد ضاق بالعاصمة في حر الصيف ، وبرم بالعمل في وقدة الحر ، وتجاوز الضيق دائرة العمل ودائرة القاهرة ، فشمل الحياة كلها ، وشمل الناس والأشياء ، وكان قد اعتزم أن يرحل عن العاصمة الكريهة إلى جهة ما ، وأن ينجو بنفسه من هذا الضيق المحطم للأعصاب . ولو لبضعة أيام .<O
<O
فأين صارت منه العزيمة بعد ساعات ؟ <O

<O
إن القاهرة لحبيبة ، وإن الحياة في هذه الدنيا لجميلة ، وإن في الكون الواسع لفسحة للآمال ، وإنه لن يبرح القاهرة ، ولو لبضعة أيام . <O
<O
أبيس في القاهرة هذا الطريق العام ؟ <O
<O
أولم يلقها مصادفة في هذا الطريق العام ؟! ...............

مجد ولين
13-05-06, 07:35 PM
أشم رائحتك وأميزها من بين ألف فتاة في الظلام ! وكان هذا يسرها ويستخفها ، فتحاول أن تخفي سرورها وخفتها بالتهكم وبالدعابة ، فتقول : (( إن حاسة الشم قوية جداً عند بعض المخلوقات )) فيضربها على يدها ويتضاحكان . <O


<O ... أحــلام .. .
*** <O


<O
ولم يدر في ذات يوم – وهو يسير في شارع سليمان باشا نحو شارع فؤاد – ما الذي جعل هذه الذكرى تقفز إلى خاطره بعد اعوام .. <O
ولكنه يدري أنه اندفع على الأثر يشق زحام الخارجين من السينما القريبة وهو يفتش في الزحام عن شيء لا يتبينه في ذهنه على وجه التحقيق .. ثم كانت المفاجأة عندما استدار احد هذه الوجوه ، وحين نظرت إليه – كما نظر إليها – وفمها مفغور وحدقتاها متسعتان ، وهي تقول في دهشة : <O
= اوه .. أهذا أنت يا سامي ! <O
قال في ابتسامة بلهاء : <O
= نعم أنا !
<O
ومدت إليه يدها في اندفاع وصافحته بحرارة ، وهو مستسلم لا يكاد يحرك أصابعه ، وحانت منها التفاتة خاطفة إلى أصابعه في كفها فراحت تقول : <O
= ألا تزال وحيداً كما أنت ؟ <O
قال : <O
= هذا لا يهم على كل حال .. وأنت ؟
<O
ثم التفت إلى الطفل الصغير الذي يمسك بطرف ثوبها وينط وهو يسير بخطوات قافزة صغيرة ، وقال : <O
= أهذا ابنك ؟ <O
قالت : <O
= نعم ! <O
وقبل أن تنطق لفظتها كان قد انحنى على الطفل فرفعه بين يديه وتفرس في وجهه ، ثم أهوى عليه بقبلة في أنس وألفة ، وفي حنان ولهفة .. إنه يعرف هذا الوجه ، يعرفه جيدا ، وإن لم يكن رآه قبل الآن
وتابع حديثه معها : <O
= أهو وحيد ؟<O
قالت : <O
= نعم لم يأت سواه <O
وما اسمه ؟ <O
قالت : ( سمير )
<O
كاد يصيح من الدهشة ولكنه تماسك ، وتظاهر بالسكون ورددت شفتاه في شبه همس : <O
= سمير ؟ غريبة ! <O
قالت : <O
= أليس هو هذا اسمك المختار
قال :
= أي نعم ، ولكن ....
<O
ثم نظر إليها فإذا هي تنكس بصرها ، وتبدو في عينيها ظلال معركة ، فماتت على شفتيه الكلمات ، ومد يده فأخذ بيد الطفل الأخرى .. وساروا ثلاثتهم ، لا يشك أحد ممن يراهم في أنهم طفل ووالدان . <O


<O
*** <O


<O
كان قد جرب مرة ومرة – في أيام الفراغ – أن بعض الوجوه تلفته إليها . ثم كشف مرة أن في كل وجه يلفته شبها قريبا أو بعيدا بالوجه الخالد في ضميره ، فعرف سر هذا الالتفات ! <O
<O
وكان قد استيقظ لنفسه وميوله ، فعرف أنه يحب من الألوان ما رآه يوما عليها ، ويحب من السمات ما يقرب من سماتها ، ويحب من الطرقات ما سارت مرة فيه ، ويحب من الأماكن ما التقيا مرة هناك ، فآمن أنه مقيد مقود ، وأنه لا يستطيع أن يتجه إلى وجه جديد . <O
<O
ولم يحاول في أول الأمر أن يعرف من اخبارها شيئاً ، فاللقاء الأخير كان ينذر بالنهاية الأخيرة . وكان يرى في اهتمامه بها بعد ذلك نوعا من الضعف يستكبر عليه ولا يرضاه . <O
<O
ثم انقضت فترة أخرى ، فانقلب هذا الشعور ، وبات ملهوفا على خبر من أخبارها ، أو أثر من آثارها ، وكم مرة بعد مرة دافعته يده إلى القلم ليكتب إليها أو لأحد من أهلها . <O
ولكنه كان يمسك نفسه من تلبيه هذا الخطر الداهم حتى يثوب إليه هدوؤه ، وحتى تذهب عنه سورته ، فبسكن إلى أن يعتاده هذا الخاطر بعد أيام . <O
<O
ثم انقضت هذه الفترة أيضاً . وعاد لا يريد أن يعلم من أخبارها شيئاً ، لا لأنه لا يريد أن يعلم ، ولا لأنه يستكبر على أن يعلم ، ولكن لأنه يشفق من شيء يتوقعه . ولا يتصور كيف يكون وقعه على نفسه إذا كان ! <O
<O
وكان له في كل يوم لقاء معها ، ولكن في الخيال ، وحوار يدور بينهما ، ولكن في الخيال . وكثيرا ما استيقظ لنفسه ، وهو يبسم أو يتجهم ، ويشير بيديه وقسماته ، بينما هو منفرد في البيت أو في الطريق ! <O
<O
كان يحس أنها له وحده ، ولا يمكن أن تكون لأحد سواه . وكان يشعر أنها اعطته وحده مالا تستطيع أن تعطيه أحدا سواه . وكان يتصور أنه ترك عليها ظله فلم تعد تصلح لأحد سواه . وكان يعتقد أنها ملكه وحده ، ولو لم يكونا رفيقي حياة , <O
<O
لقد بنى في أحلامه عشها المنتظر ، ولقد مضى بخياله يطوي الأيام ، ولقد عاش في هذه الأحلام عيشة الواقع ، واستغرق في هذا الخيال حتى لم يعد يفرق بينه وبين الحقيقة ! <O
<O
وما الفرق بين الخيال والواقع ، إذا كان كلاهما يستجيب له القلب والذهن ، ويترك آثاره في النفس والحياة ؟ <O
<O
وما الفرق بين الحلم والحقيقة ، وكلاهما طيف عابر ، يلقي ظله على النفس ثم يختفي منه من عالم الحس بعد لحظات ؟ <O
<O
على أية حال ، لقد عاش أحلامه ، وجسم خياله ، فكانت هذه المخلوقة رفيقة حياته ، ومعها عاش في العش الدافئ ، ومنها بلا شك كان له طفل ! <O
<O
طفل وحيد .... فما كان يتصور أن تلد له أكثر من طفل واسمه (( سمير )) ، فما كان يتصور أن يكون اسمه غير سمير . وهو طفل من لحم ودم ، حدثها عن شكله وسمته ، فهو طفل معروف السحنة واضح السمات !

<O هو سمير .. هذا بعينه الذي يراه الآن ! <O


<O
*** <O


<O
مر هذا الشريط كله في ذهنه ، وهما يدلفان إلى محطة الترام ، في غير انتباه . وجاء الترام ، فصعدت إليه في حركة آلية ، وهو يساعدها ، ويُصعد إليها (( سمير )) <O
<O
وعندما تحرك الترام أدركته صحوة مفاجئة ، ونظر فإذا هي كذلك تلوح له بمنديلها ، ثم تجفف به قطرات من الدموع ! <O
وفيما يشبه الذهول وجد نفسه يعدو خلف الترام .. ثم ثقف فجأة كأنما سمر في مكانه : <O
= ماذا ؟ إلى أين ؟ إنها ليست لك الآن ! إنها ذاهبة إلى هناك ! <O
وأحس بالدوار ..

ولكنه أفاق : <O
= سمير ؟ غريبة ! ... أليس هذا هو اسمك المختار ؟ <O
= كلا ! إنها لك . لك أنت وحدك برغم كل ما كان . لقد ألقيت عليها ظلك ، لقد طبعتها بطابعك ، لقد وسمت طفلها باسمك الذي اخترته ، إنها لك ، ولن تصلح لحد سواك ! <O
= أحلام ! <O
= أحلام ؟ وما الفرق بين الحلم والحقيقة إذا كان كلاهما يستجيب له القلب والذهن ويترك آثاره في النفس والحياة ؟ <O
= خيالات ! <O
= خيالات ! وما الفرق بين الخيال والواقع ، وكلاهما طيف عابر يلقي ظله على النفس ثم يختفي من عالم الحس بعد لحظات ؟ ............. <O