مجد ولين
13-05-06, 07:31 PM
عــــارية ..
<O
لم يخالج صاحبه شك في أنه يهذي أو يمزح حينما ضغط على يده في عرض الطريق وناداه : <O
= ألم أقل لك : إنني سألقاها الآن ؟ ها هي ذي يا سيدي أمامك لتصدقني !
<O
ونظر صاحبه فإذا فتاة مبهوتة مقيدة الخطوات ، تتوالى على سيماها في لحظة شتى الانفعالات . <O
<O
أما هو فقد تابع سيره ويده في يد صاحبه ، يضغط عليها كما ضغط عليها كما ضغط أول مرة . وإنه ليترنح فيتظاهر بالتماسك ، وتتلاحق أنفاسه فيتظاهر بالابتسام ، حتى يصلا إلى مفرق الطريق فإذا هما يقفان ! <O
<O
لم يكن أحدهما بأقدر من الآخر على تحديد الاتجاه . فأما صاحبه فكان ما يزال في دهشة المفاجأة : المفاجأة من تحقق النبوءة على هذا النحو الذي لا يعهد إلا في عالم الأساطير . وأما هو فكان ما يزال في هزة المفاجأة : المفاجأة التي تنبأ بها منذ لحظة ، ثم هو يتلقاها كمن لا ينتظرها بحال ! <O
<O
وحينما طال بهما الانتظار ، صحا صاحبه قبله من دهشته ، وحسب أنه يسدي إليه خيراً إذا هو عاد به أدراجهما في الطريق ليواجهها مرة أخرى ! <O
<O
ولم يكن هو زاهدا في محاولة هذا اللقاء ، ولكنه كان في هذه اللحظة يستطيع أن يواجه الشيطان ، ولا يواجه الفتاة التي تهتف به كل ذرة في كيانه أن يلقاها الآن ! <O
<O
لقد تنبهت فيه غريزة الخوف من الخطر حينما رأى نفسه يكاد يستسلم لمحاولة صاحبه ، فيمثل دور الفراشة التي تتهافت حتى تحترق على نور المصباح . فإذا هو يمرق بصاحبه إلى ممر يؤدي إلى شارع آخر نواز للشارع الخطر ، وهو يزعم لصاحبه أنه يقصد إلى مشرب هنالك خاص ، حتى إذا صارا في الشارع الأخير ، أحس انه يلتقط أنفاسه ، وأنه في مأمن من جاذبية التيار .... فوقفا يستريحان . <O
<O
*** <O
<O
كان صاحبه يعلم قصته منذ نشأتها . بل كان يعيش معه القصة في كل فصولها ، وكان يعلم أنه قد مضى على آخر لقاء لهما عام كامل بعد أن وقع بينهما ما وقع ، مما يؤذن بانفصال لا رجعة فيه ، وبعد أن انتهى بينهما كل شيء ولم يبق إلا الذكريات .<O
<O
وكان صاحبه يعلم مرارة الذكريات وحلاوتها ، تلك المرارة وهذه الحلاوة اللتان يمزجهما في كأس واحدة ، يخشاها أبدا ، ويحن إليها أبدا ، ولا يفتأ يتشهاها مرة ، ويجفل من مسها مرة ، ويصوغ ذلك كله في قصائده وأغانيه ، بل يتخذ من ذلك كله مادة حياة . <O
<O
كان كل شيء قد انتهى ، وانتهى بالصورة التي يعييه أن يحاول بعدها وصل ما انقطع ، أو رجع ما فات ، كانت كبرياؤه تأبى عليه أن يعود ، وكانت مرارة الذكرى تطغى على حلاوتها في معظم الأحيان ، وكانت تجربته تذكره دائماً بالآلام . <O
<O
ولكن هذه التجربة وتلك الكبرياء لم تكن واحدة منها بمستطيعة أن تصرف طيفها عنه ، أو تمحو صورتها من نفسه ، أو تصرفه إلى حياة أخرى غير الحياة التي رسمها خياله معها . كانت قد استحالت في حياته إلى أسطورة خرافية تسيطر على هذه الحياة . <O
<O
وكان يزعم لنفسه أو تزعم له نفسه – حينما يسترجع مرارة الكأس المسمومة – أنه قد انصرف عنها ، وأن الأسطورة الخرافية قد تنحت عن مجرى حياته ، فهو يصرف هذه الحياة كيفما يشاء ! <O
<O
وتحدث بهذا الزعم لنفسه مرة ، وتحدث به لصاحبه مرات . ولكنه كان يحس في أعماقه ، وهن هذا الزعم وتهالكه ، فيزيده هذا الإحساس توكيداً لما يزعم ، ومجاهرة بما يدعي ! ، كالخائف يهتف بالقوة والتحدي ليتشجع في وجه أشباح الظلام ! <O
<O
وكثيراً ما راوده صاحبه على أن يحاول العودة والاتصال – وهو يعلم من دخيلة نفسه ما يعلم – فكان هذا يزيده إصرارا على كبريائه ، واستعادة لمرارة الذكرى ، وادعاء بأنها لم تعد شيئاً في حياته . وإن كان يتخاذل في بعض الأحيان ، فيعترف له بأنها أعمق في نفسه من هذا الادعاء ومن تلك الكبرياء ، وأن الذي يعصمه من محاولة العودة إنما هو مرارة الذكرى ووخز الأشكواك . <O
<O
ثم تلت ذلك فترة أحس فيها حقيقة بأن عالمه قد خلا من تلك الاسطورة اللعينة ، ولكنه لم يسترح لهذا الإحساس . <O
<O
لقد شعر بالفراغ والجفاف ، وانتابه ما ينتاب المؤمن بعد الإلحاد ، وما يصيب الصوفي بعد الضلال !
<O
لقد خلا الهيكل من الصنم المعبود ، واستوحش الصوفي من سبحات الشهود ، وران على نفسه وعلى العالم كله ظلام وخمود
<O
لقد عادت الحياة تكلفا لا يطاق ، وراح يقطعها كما يقطع الأجير المسخر أيامه ولياليه في العمل المجهد الكريه ، وليس له منه إلا أجره الزهيد ! <O
<O
ألا ما أشقى الملحدين الحيارى الشاردين عن الهيكل ، ولو كانت تعمره الأصنام ! <O
<O
*** <O
<O
واليوم – بعدما انقضى عام كامل – كان قد تناول الغداء مع صاحبه هذا وصديق ثالث لهما . وهم ثلاثتهم من أصدقاء الصبا ، ولكل منهم قصة في حياته تنتهي بالحرمان على نحو من الأنحاء ، ولكل منهم موسم يتحدث فيه عن قصته حينما تبدع يد القدر فيها فصلا جديداً ، فحيثما ضمهم مجلس تسللت إلى أحاديثهم قصة من قصصهم الثلاث ! <O
<O
وبعد الغداء ذهب الصديق الثالث لبعض شأنه ، بعدما قص على صديقيه فصلا من فصوله ، هاج صاحبه لأن يقص عليه بدوره فصلا من قصته : وما يكاد صاحبه ينتهي من هذا الفصل الأخير حتى تنبض في نفسه لهفة خاطفة ، وحتى ينسى كبرياءه وادعاءه ، وينسى مرارة تجاربه وذكرياته ، وحتى يفضي إلى صاحبه بهذه اللهفة العارمة : <O
= كم أنا مشتاق إليها ! إن المصادفات التي كانت تبيح لي لقاءها مرة ومرة – أيام أن لم يكن لقاؤنا رهن المصادفات – عادت تضن بها اليوم على مدار العام ! <O
قال له صاحبه : <O
= إن الأقدار لحريصة على حبكة الرواية ! <O
فمضى هو في لهفة حديثه : ترى كيف هي الآن ؟ أريد أن أعلم أي خبر عنها ، بل أريد فقط أن ألمحها من بعيد . ترى تغيرت ؟ أم ماتزال كعهدي بها منذ آخر لقاء ؟ <O
<O
ثم ينتفض واقفا من المقهى الذي كانا يستريحان فيه ، ويأخذ بيد صاحبه ، وإنه ليكاد يدفعه دفعا إلى السير في الطريق العام . <O
وقال له صاحبه – بعد مسيرة خطوات : <O
= إنني اهم أن أفترق عنك لشأن خاص <O
فتمسك به وهو يقول : <O
= كلا ! لن تتركني . فسنتسكع هنا ! <O
ويسكت لحظة ليقول – وكأنما يستشرف لرؤيا من بعيد : <O
= أحس انني سألقاها الآن .
فيتهكم صاحبه ويجيبه مداعبا :<O
= إذن أتركك تستمتع بهذا اللقاء ! <O
وإنه ليخشى أن ينفذ صاحبه وعيده ، وأنه ليحس برعشة في كيانه كمن يواجه الخطر ، فيقول : <O
= كلا ! لن تتركني . فإنني لأفضل إذا لقيتها أن تكون معي ، كما يحسن أن تكون معي لو كانت صدمة قطار أو صعقة تيار ، ثم يتلو أبياتا من إحدى قصائده في هذا السياق .
وإنه ليمد بصره ، فإذا المفاجأة المنظورة ، وإذا الخطر المرتقب على بعد خطوات . <O
يا للسماء ! بل يا للشيطان ! <O
إنها الأسطورة الخالدة في صورة من صورها الكثيرة . وهل كانت القصة كلها إلا أسطورة في عالم الخرافات . <O
<O
*** <O
<O
حينما هدأ روعه ، واستقرت قدماه في الشارع الموازي للشارع الخطر ، كان في حاجة ماسة إلى الوحدة والانفراد ، كان يحمل في وطابه ثروة مفاجئة ، يريد أن يستعرضها وحده في خفية عن الأنظار ! <O
قال له صاحبه : <O
= والآن إلى أين ؟<O
قال : <O
= إلى الضاحية <O
قال الصاحب : <O
= وهو كذلك لتستريح ! <O
<O
وسار به مرة أخرى إلى الشارع ليركبه الترام ، فلم يحس هذه المرة بالرهبة من الشارع الخطر ، ولم يحس باللهفة عليه أيضا . <O
لقد كان في وطابه من الثروة ما بشغله عن الرهبة واللهفة جميعاً . <O
<O
وحينما انفرد في الترام كان في غيبوبة حالمة . كانت الأشياء والمناظر والأشخاص تتوالى على عينه المفتوحة كما تتوالى الأطياف الغامضة والرؤى اللطيفة ، فلا تترك في حسه إلا ظلالا خفيفة . ومع هذا فقد كان يود الخلاص من هذه الظلال . كان يضم جوانحه في رفق على ومضة من عالم الخلود ، لا يجوز أن تخشاها ظلال الزحمة الفارغة في عالم الهالكين . <O
<O
ثم ركب قطار الضاحية ، وإنه ليركبه كل يوم في الصباح والمساء ، وإنه ليضيق به في الأيام الأخيرة وبما يثيره من الضجيج والغبار ، ولكنه اليوم لا يشعر بهذا الضجيج ، ولا يلتفت لهذا الغبار . <O ></O >
وإن القطار ليخرج من العمار إلى الصحارى في ساعة الغروب ، وإنه ليرسل ببصره كالحالم في هذا الفضاء الجميل ، وكأنما يراه أول مرة في هذا الأوان ! <O
<O
***<O
<O
في هذا المساء كان كالحالم المخدور ، فإذا صحا فليستعيد في خياله موكب الصور المتزاحمة في تلك اللحظة المليئة ، وليحاول أن يتخيل كيف كانت سحنته وملامحه بعدما لمح كالبرق سحنتها وملامحها وليسأل نفسه كالأطفال : <O
أكان يبدو علي التماسك وعدم المبالاة ؟
أم كنت خائراً مضعضع القوى ؟ <O
أكنت منفرج الملامح باش السمات ؟ <O
أم كنت مقطب الوجه مغضن الجبين ؟ <O
ترى أسأت إليها بجمودي وقلة مبالاتي ؟ <O
أم ترى استشفت خواطري وانفعالاتي ؟ <O
ما الذي كانت تفعله لو لم يكن معي صاحبي ؟ <O
ما الذي كنت أفعل لو لاقيتها منفرداً ؟
<O
وهكذا وهكذا من هذه الأسئلة الطفولية الساذجة ، التي لا يطمئن فيها إلى جواب ، والتي كانت تخطر له ببال ، لولا الأسطورة التي تظلل حياته ، وترده في كثير من الأحيان إلى خواطر الأطفال ، ولكنه مع هذا كله لم يكن قلقا ولا مهتاجا ، كان هادئ القلب ، رضي النفس ، نشوان الخيال . لقد أرضاه أنها لاتزال بعد هذا العهد الطويل تضطرب هذا الاضطراب حين تلقاه ، وأنه يستطيع أن يتظاهر بالتماسك في وجه هذا الاضطراب !
<O
ولقد أرضاه أنه لا يزال يحمل الشعلة المقدسة بين جنبيه ، ويملك هذا السر الذي كان يحسبه قد تاه : سر التوجه إلى الصنم بمثل هذه الحرارة ومثل هذا الاختلاج ! <O
ولقد طمأنه أن صاحبه يقرر – وقد رأى منهما ما راى – أن الستار لم يسدل بعد ، وأن الرواية لم تتم فصولا ، وأن في الجعبة مخبآت . لقد استمع إلى نبوءة صاحبه هذه في لهفة واشتياق كما يستمع إلى أسعد البشريات ! <O
<O
*** <O
<O
وكان في الأيام الأخيرة قد ضاق بالعاصمة في حر الصيف ، وبرم بالعمل في وقدة الحر ، وتجاوز الضيق دائرة العمل ودائرة القاهرة ، فشمل الحياة كلها ، وشمل الناس والأشياء ، وكان قد اعتزم أن يرحل عن العاصمة الكريهة إلى جهة ما ، وأن ينجو بنفسه من هذا الضيق المحطم للأعصاب . ولو لبضعة أيام .<O
<O
فأين صارت منه العزيمة بعد ساعات ؟ <O
<O
إن القاهرة لحبيبة ، وإن الحياة في هذه الدنيا لجميلة ، وإن في الكون الواسع لفسحة للآمال ، وإنه لن يبرح القاهرة ، ولو لبضعة أيام . <O
<O
أبيس في القاهرة هذا الطريق العام ؟ <O
<O
أولم يلقها مصادفة في هذا الطريق العام ؟! ...............
<O
لم يخالج صاحبه شك في أنه يهذي أو يمزح حينما ضغط على يده في عرض الطريق وناداه : <O
= ألم أقل لك : إنني سألقاها الآن ؟ ها هي ذي يا سيدي أمامك لتصدقني !
<O
ونظر صاحبه فإذا فتاة مبهوتة مقيدة الخطوات ، تتوالى على سيماها في لحظة شتى الانفعالات . <O
<O
أما هو فقد تابع سيره ويده في يد صاحبه ، يضغط عليها كما ضغط عليها كما ضغط أول مرة . وإنه ليترنح فيتظاهر بالتماسك ، وتتلاحق أنفاسه فيتظاهر بالابتسام ، حتى يصلا إلى مفرق الطريق فإذا هما يقفان ! <O
<O
لم يكن أحدهما بأقدر من الآخر على تحديد الاتجاه . فأما صاحبه فكان ما يزال في دهشة المفاجأة : المفاجأة من تحقق النبوءة على هذا النحو الذي لا يعهد إلا في عالم الأساطير . وأما هو فكان ما يزال في هزة المفاجأة : المفاجأة التي تنبأ بها منذ لحظة ، ثم هو يتلقاها كمن لا ينتظرها بحال ! <O
<O
وحينما طال بهما الانتظار ، صحا صاحبه قبله من دهشته ، وحسب أنه يسدي إليه خيراً إذا هو عاد به أدراجهما في الطريق ليواجهها مرة أخرى ! <O
<O
ولم يكن هو زاهدا في محاولة هذا اللقاء ، ولكنه كان في هذه اللحظة يستطيع أن يواجه الشيطان ، ولا يواجه الفتاة التي تهتف به كل ذرة في كيانه أن يلقاها الآن ! <O
<O
لقد تنبهت فيه غريزة الخوف من الخطر حينما رأى نفسه يكاد يستسلم لمحاولة صاحبه ، فيمثل دور الفراشة التي تتهافت حتى تحترق على نور المصباح . فإذا هو يمرق بصاحبه إلى ممر يؤدي إلى شارع آخر نواز للشارع الخطر ، وهو يزعم لصاحبه أنه يقصد إلى مشرب هنالك خاص ، حتى إذا صارا في الشارع الأخير ، أحس انه يلتقط أنفاسه ، وأنه في مأمن من جاذبية التيار .... فوقفا يستريحان . <O
<O
*** <O
<O
كان صاحبه يعلم قصته منذ نشأتها . بل كان يعيش معه القصة في كل فصولها ، وكان يعلم أنه قد مضى على آخر لقاء لهما عام كامل بعد أن وقع بينهما ما وقع ، مما يؤذن بانفصال لا رجعة فيه ، وبعد أن انتهى بينهما كل شيء ولم يبق إلا الذكريات .<O
<O
وكان صاحبه يعلم مرارة الذكريات وحلاوتها ، تلك المرارة وهذه الحلاوة اللتان يمزجهما في كأس واحدة ، يخشاها أبدا ، ويحن إليها أبدا ، ولا يفتأ يتشهاها مرة ، ويجفل من مسها مرة ، ويصوغ ذلك كله في قصائده وأغانيه ، بل يتخذ من ذلك كله مادة حياة . <O
<O
كان كل شيء قد انتهى ، وانتهى بالصورة التي يعييه أن يحاول بعدها وصل ما انقطع ، أو رجع ما فات ، كانت كبرياؤه تأبى عليه أن يعود ، وكانت مرارة الذكرى تطغى على حلاوتها في معظم الأحيان ، وكانت تجربته تذكره دائماً بالآلام . <O
<O
ولكن هذه التجربة وتلك الكبرياء لم تكن واحدة منها بمستطيعة أن تصرف طيفها عنه ، أو تمحو صورتها من نفسه ، أو تصرفه إلى حياة أخرى غير الحياة التي رسمها خياله معها . كانت قد استحالت في حياته إلى أسطورة خرافية تسيطر على هذه الحياة . <O
<O
وكان يزعم لنفسه أو تزعم له نفسه – حينما يسترجع مرارة الكأس المسمومة – أنه قد انصرف عنها ، وأن الأسطورة الخرافية قد تنحت عن مجرى حياته ، فهو يصرف هذه الحياة كيفما يشاء ! <O
<O
وتحدث بهذا الزعم لنفسه مرة ، وتحدث به لصاحبه مرات . ولكنه كان يحس في أعماقه ، وهن هذا الزعم وتهالكه ، فيزيده هذا الإحساس توكيداً لما يزعم ، ومجاهرة بما يدعي ! ، كالخائف يهتف بالقوة والتحدي ليتشجع في وجه أشباح الظلام ! <O
<O
وكثيراً ما راوده صاحبه على أن يحاول العودة والاتصال – وهو يعلم من دخيلة نفسه ما يعلم – فكان هذا يزيده إصرارا على كبريائه ، واستعادة لمرارة الذكرى ، وادعاء بأنها لم تعد شيئاً في حياته . وإن كان يتخاذل في بعض الأحيان ، فيعترف له بأنها أعمق في نفسه من هذا الادعاء ومن تلك الكبرياء ، وأن الذي يعصمه من محاولة العودة إنما هو مرارة الذكرى ووخز الأشكواك . <O
<O
ثم تلت ذلك فترة أحس فيها حقيقة بأن عالمه قد خلا من تلك الاسطورة اللعينة ، ولكنه لم يسترح لهذا الإحساس . <O
<O
لقد شعر بالفراغ والجفاف ، وانتابه ما ينتاب المؤمن بعد الإلحاد ، وما يصيب الصوفي بعد الضلال !
<O
لقد خلا الهيكل من الصنم المعبود ، واستوحش الصوفي من سبحات الشهود ، وران على نفسه وعلى العالم كله ظلام وخمود
<O
لقد عادت الحياة تكلفا لا يطاق ، وراح يقطعها كما يقطع الأجير المسخر أيامه ولياليه في العمل المجهد الكريه ، وليس له منه إلا أجره الزهيد ! <O
<O
ألا ما أشقى الملحدين الحيارى الشاردين عن الهيكل ، ولو كانت تعمره الأصنام ! <O
<O
*** <O
<O
واليوم – بعدما انقضى عام كامل – كان قد تناول الغداء مع صاحبه هذا وصديق ثالث لهما . وهم ثلاثتهم من أصدقاء الصبا ، ولكل منهم قصة في حياته تنتهي بالحرمان على نحو من الأنحاء ، ولكل منهم موسم يتحدث فيه عن قصته حينما تبدع يد القدر فيها فصلا جديداً ، فحيثما ضمهم مجلس تسللت إلى أحاديثهم قصة من قصصهم الثلاث ! <O
<O
وبعد الغداء ذهب الصديق الثالث لبعض شأنه ، بعدما قص على صديقيه فصلا من فصوله ، هاج صاحبه لأن يقص عليه بدوره فصلا من قصته : وما يكاد صاحبه ينتهي من هذا الفصل الأخير حتى تنبض في نفسه لهفة خاطفة ، وحتى ينسى كبرياءه وادعاءه ، وينسى مرارة تجاربه وذكرياته ، وحتى يفضي إلى صاحبه بهذه اللهفة العارمة : <O
= كم أنا مشتاق إليها ! إن المصادفات التي كانت تبيح لي لقاءها مرة ومرة – أيام أن لم يكن لقاؤنا رهن المصادفات – عادت تضن بها اليوم على مدار العام ! <O
قال له صاحبه : <O
= إن الأقدار لحريصة على حبكة الرواية ! <O
فمضى هو في لهفة حديثه : ترى كيف هي الآن ؟ أريد أن أعلم أي خبر عنها ، بل أريد فقط أن ألمحها من بعيد . ترى تغيرت ؟ أم ماتزال كعهدي بها منذ آخر لقاء ؟ <O
<O
ثم ينتفض واقفا من المقهى الذي كانا يستريحان فيه ، ويأخذ بيد صاحبه ، وإنه ليكاد يدفعه دفعا إلى السير في الطريق العام . <O
وقال له صاحبه – بعد مسيرة خطوات : <O
= إنني اهم أن أفترق عنك لشأن خاص <O
فتمسك به وهو يقول : <O
= كلا ! لن تتركني . فسنتسكع هنا ! <O
ويسكت لحظة ليقول – وكأنما يستشرف لرؤيا من بعيد : <O
= أحس انني سألقاها الآن .
فيتهكم صاحبه ويجيبه مداعبا :<O
= إذن أتركك تستمتع بهذا اللقاء ! <O
وإنه ليخشى أن ينفذ صاحبه وعيده ، وأنه ليحس برعشة في كيانه كمن يواجه الخطر ، فيقول : <O
= كلا ! لن تتركني . فإنني لأفضل إذا لقيتها أن تكون معي ، كما يحسن أن تكون معي لو كانت صدمة قطار أو صعقة تيار ، ثم يتلو أبياتا من إحدى قصائده في هذا السياق .
وإنه ليمد بصره ، فإذا المفاجأة المنظورة ، وإذا الخطر المرتقب على بعد خطوات . <O
يا للسماء ! بل يا للشيطان ! <O
إنها الأسطورة الخالدة في صورة من صورها الكثيرة . وهل كانت القصة كلها إلا أسطورة في عالم الخرافات . <O
<O
*** <O
<O
حينما هدأ روعه ، واستقرت قدماه في الشارع الموازي للشارع الخطر ، كان في حاجة ماسة إلى الوحدة والانفراد ، كان يحمل في وطابه ثروة مفاجئة ، يريد أن يستعرضها وحده في خفية عن الأنظار ! <O
قال له صاحبه : <O
= والآن إلى أين ؟<O
قال : <O
= إلى الضاحية <O
قال الصاحب : <O
= وهو كذلك لتستريح ! <O
<O
وسار به مرة أخرى إلى الشارع ليركبه الترام ، فلم يحس هذه المرة بالرهبة من الشارع الخطر ، ولم يحس باللهفة عليه أيضا . <O
لقد كان في وطابه من الثروة ما بشغله عن الرهبة واللهفة جميعاً . <O
<O
وحينما انفرد في الترام كان في غيبوبة حالمة . كانت الأشياء والمناظر والأشخاص تتوالى على عينه المفتوحة كما تتوالى الأطياف الغامضة والرؤى اللطيفة ، فلا تترك في حسه إلا ظلالا خفيفة . ومع هذا فقد كان يود الخلاص من هذه الظلال . كان يضم جوانحه في رفق على ومضة من عالم الخلود ، لا يجوز أن تخشاها ظلال الزحمة الفارغة في عالم الهالكين . <O
<O
ثم ركب قطار الضاحية ، وإنه ليركبه كل يوم في الصباح والمساء ، وإنه ليضيق به في الأيام الأخيرة وبما يثيره من الضجيج والغبار ، ولكنه اليوم لا يشعر بهذا الضجيج ، ولا يلتفت لهذا الغبار . <O ></O >
وإن القطار ليخرج من العمار إلى الصحارى في ساعة الغروب ، وإنه ليرسل ببصره كالحالم في هذا الفضاء الجميل ، وكأنما يراه أول مرة في هذا الأوان ! <O
<O
***<O
<O
في هذا المساء كان كالحالم المخدور ، فإذا صحا فليستعيد في خياله موكب الصور المتزاحمة في تلك اللحظة المليئة ، وليحاول أن يتخيل كيف كانت سحنته وملامحه بعدما لمح كالبرق سحنتها وملامحها وليسأل نفسه كالأطفال : <O
أكان يبدو علي التماسك وعدم المبالاة ؟
أم كنت خائراً مضعضع القوى ؟ <O
أكنت منفرج الملامح باش السمات ؟ <O
أم كنت مقطب الوجه مغضن الجبين ؟ <O
ترى أسأت إليها بجمودي وقلة مبالاتي ؟ <O
أم ترى استشفت خواطري وانفعالاتي ؟ <O
ما الذي كانت تفعله لو لم يكن معي صاحبي ؟ <O
ما الذي كنت أفعل لو لاقيتها منفرداً ؟
<O
وهكذا وهكذا من هذه الأسئلة الطفولية الساذجة ، التي لا يطمئن فيها إلى جواب ، والتي كانت تخطر له ببال ، لولا الأسطورة التي تظلل حياته ، وترده في كثير من الأحيان إلى خواطر الأطفال ، ولكنه مع هذا كله لم يكن قلقا ولا مهتاجا ، كان هادئ القلب ، رضي النفس ، نشوان الخيال . لقد أرضاه أنها لاتزال بعد هذا العهد الطويل تضطرب هذا الاضطراب حين تلقاه ، وأنه يستطيع أن يتظاهر بالتماسك في وجه هذا الاضطراب !
<O
ولقد أرضاه أنه لا يزال يحمل الشعلة المقدسة بين جنبيه ، ويملك هذا السر الذي كان يحسبه قد تاه : سر التوجه إلى الصنم بمثل هذه الحرارة ومثل هذا الاختلاج ! <O
ولقد طمأنه أن صاحبه يقرر – وقد رأى منهما ما راى – أن الستار لم يسدل بعد ، وأن الرواية لم تتم فصولا ، وأن في الجعبة مخبآت . لقد استمع إلى نبوءة صاحبه هذه في لهفة واشتياق كما يستمع إلى أسعد البشريات ! <O
<O
*** <O
<O
وكان في الأيام الأخيرة قد ضاق بالعاصمة في حر الصيف ، وبرم بالعمل في وقدة الحر ، وتجاوز الضيق دائرة العمل ودائرة القاهرة ، فشمل الحياة كلها ، وشمل الناس والأشياء ، وكان قد اعتزم أن يرحل عن العاصمة الكريهة إلى جهة ما ، وأن ينجو بنفسه من هذا الضيق المحطم للأعصاب . ولو لبضعة أيام .<O
<O
فأين صارت منه العزيمة بعد ساعات ؟ <O
<O
إن القاهرة لحبيبة ، وإن الحياة في هذه الدنيا لجميلة ، وإن في الكون الواسع لفسحة للآمال ، وإنه لن يبرح القاهرة ، ولو لبضعة أيام . <O
<O
أبيس في القاهرة هذا الطريق العام ؟ <O
<O
أولم يلقها مصادفة في هذا الطريق العام ؟! ...............