المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : يوميــات ليبرالـي من بريـدة إلى بيـروت عبر كـابول _الحلقة الأخيرة_


أبو زياد الصالح
04-01-06, 03:22 PM
الزملاء الرائعون هل يمكنني أن أعتذر لكم مرة أخرى عن التأخير ....والسبب أنني أملك الصمت فاقرؤا أنتم ماوراء الصمت ...
لكن هذه المرة جئتكم ...بالذاكرة كلها بين أيديكم
مساؤكم ورد ...


يوميات ليبرالي من بريدة إلى بيروت عبر كابول _الحلقة الأولى (http://www.qassimy.com/vb/showthread.php?t=51589)

يوميات ليبرالي من بريدة إلى بيروت عبر كابول _الحلقة الثانية_ (http://www.qassimy.com/vb/showthread.php?t=51607)


ـــــــــــ
ـــ 10 ـــ

لم تكن هذه المدينة إلا لوحة سريالية رسمها القادمون من بطحاء مكة وساماً هناك لمطلع الشمس.. مشى عليها قطار الشهداء والخونة.. ولكل وجهة هو موليها...
دكاكين صغيرة وصخب الشوارع ملء السمع... وأشعة الشمس تجوب تلك الأزقة الباردة.. وتشوهات مدينة تنبئك عن حضارة كانت ذات يوم هنا..
وأين من ذلك كله.. أين (مسيطيح)؟! كان هذا سؤال وجّهه فيصل لأحمد.. بحثا عنه هنا وهناك فلم يجداه.. سألا عنه.. وأخيراً وجداه في أحد المتاجر أمام البائعة وهو يساومها على منظر للكعبة.. ولا أدري ما السر وراء ذلك..!!
طبعاً كانت كنية صاحبنا (أبا عميرة) والكنية هناك شيء أساس.. ُيستغنى بها عن الاسم الحقيقي..
عربات وأحصنة.. وجبال شاهقة.. وعينا (أبي عميرة) تجوب تلك المواخير وأعمدة الإضاءة في الشوارع كأنه لم يرها من قبل.. تضايق فيصل من هذا الاستطلاع الغبي فغمزه بيده...
بدأ (مسيطيح) يشرح لأحمد أنواع الحمير التي يراها أمامه، ويشير بيده (هذا حمار هذه حمارة).. (هذا جحش.. هذه جحشة).. سرح صاحبنا بفكره وعلامة الألم بادية في عينه.. عندها التفت إلى فيصل من الناحية الأخرى، وقال: آه كم تمنيت أني بعت حماري الأشهب هنا.. لكنت كسبت فيه أضعاف سعره.. إنه تاريخ طويل يحفره (مسيطيح) في ذاكرته..
...
أدار المذياع صاحب السيارة وكان الصوت صوت (BBC) من لندن وأخبار الغزو تصدح بها جنبات المركبة، وأنظار العالم كلها هنا نحو الخليج.. ماذا فعل صدام..؟ وألف تساؤل في ذهن صاحبنا، وهو يتناول قطعة من (السنكرز).. التفت من كان في المقدمة نحو الثلاثة، وقال: الطريق أمامنا طويل والوجهة نحو بيشاور، بادره (مسيطيح) قائلاً: لا بأس، ويا ليت نريح في أي حديقة في الطريقة.. التفت أحمد نحو اليسار وفيصل نحو اليمين خجلاً من هذا الاقتراح.. حديقة يستريح بها..!!

الوقت ظهراً.. وحَمَامَات بيضاء على تلك المئذنة الشاهقة البعيدة، والتي تنبئك عن وصولك لبيشاور..
تزحزح (مسيطيح) قليلاً من مقعده ثم وجه سؤالاً لقائد المركبة: ما أفضل المطاعم عندكم والتي تختص برز البيشاور..؟ تنهد قليلاً صاحب السيارة وقال: لا شيء....تعرج (علي أكبر) بسيارته من هنا وهناك، وعبر أزقة هذه المدينة الوادعة.. حتى وصل لمضافة (بيت الأنصار)، وهي التي تختص بالقادمين العرب، وبالذات من أهل الخليج. استقبلهم الحارس فعرف من سحنة وجوههم وأسمائهم أنهم عرب من الخليج. دخلوا فاستقبلهم المسؤول في المضافة وكنيته(أبو عبد الله).. سألهم عن كناهم، ومن أين قدموا فأخبروه بكل شيء... وقدموا له التوصيات..والتي اصطحبوها معهم من بلادهم.

....

تأملهم قليلاً، وقال أيكم (مسيطيح)..؟ لم يكمل سؤاله حتى قاله له صاحبنا.. أنا هو..
قال له لماذا أتيت إلى هنا..؟ فقال: أريد أن أجاهد. سأله سؤالاً آخر: وهل تملك الخبرة لدخول الجبهة؟ قال: نعم. أنا من ضمن من قاموا بإحراق (فديو البلجون)( وجمعية الملك عبد العزيز الخيرية ببريدة). ضحك أبو عبد الله قليلاً وقال: احفظ سرك ولا تتباهى فقد تندم يوماً ما..
وجه سؤالاً للكل: هل اخترتم كنى لكم؟ فقالوا: نعم.. وكانت كنية (مسيطيح) (أبا عميرة)..

أخبرهم أبو عبد الله عن أماكنهم، وقال لهم: ستنتظرون أياماً حتى يأتي من يقلكم لداخل أفغانستان.. والقوانين هنا: لا خروج من هذا البيت إلا بإذن.. وعليكم السمع والطاعة في كل شيء..
سأل (مسيطيح): أين دورة المياه؟ وأكمل سؤاله بطلب اشمأز منه الحضور حينما قال: وهل هو عربي أم افرنجي...؟
ذهب (أبو عميرة) لغرفته، و تقع في الجهة الجنوبية، وفتح شنطته وأخرج عطر (الشانيل) وعطّر غرفته الصغيرة.. وأخرج قطعة من (الجالكسي)، وتأملها ثم التهمها بنهم المودّع...




ـــ 11 ـــ
أعوام مضت وحفريات في الذاكرة لن تمحوها الأيام رغم قسوتها وشتائها وحنين لتلك الجبال الشاهقة وأدخنة مخابز التميس شاهدة لتلك الرياح الراحلة أنها مرت من هنا..
تخنقني العبرة وأنا أرجع بذاكرتي لأيام الطفولة وأيام كان (مسيطيح) بعربته ينادي (الحق على التيم يا ولد).. ورجلاه الحافيتان.. وبعدها حماره الأشهب.. لك الله أيتها الذاكرة البائسة..
...

(حي على الفلاح.. الصلاة خير من النوم) كان يؤديها (أبو أسيد).. بصوت عذب يذكرك بصوت (علي ملاّ) حينما ترددها جبال مكة وبطحاءها.. و(أبو عميرة) غارق في نومه حينما كان غيره جالس من عناء ليلة طويلة قائماً في محرابه، وله تسابيح وعبرات تشق عنان السماء ليسمعها الملأ الأعلى.. نحسبهم كذلك والله حسيبهم..
أتى فيصل لـ(مسيطيح) ليوقظه لصلاة الفجر.. (مسيطيح).. (أبو عميرة).. هيا الصلاة يا لله قم..
(مسيطيح).. أنا؟!
فيصل: (يا خوي، قم قامت عليك) وشف فيك؟!.. رفع (مسيطيح) يديه بشدة وشبك بين أصابعه فاتحاً نصف عينه اليسرى. قال: هل أقيمت الصلاة؟ قال: لا .. ولكن (يالله يمديك تتوضأ).. انقلب على جنبه الأيمن ونام.. حاول فيه مرة ومرة وبعد عناء ومشقة قام..
ذهب فيصل للصف الأول والذي لم يجد فيه مكاناً فقد ازدحم من الشباب المصلين.. أقيمت الصلاة وقرأ الإمام (إن الله اشترى من المؤمنين...)التوبة.. حتى نهاية السورة، ثم سلم الإمام من الصلاة والتي لم يدرك منها صاحبنا غير ركعة واحدة.. ويا للغرابة لم يكن يقضي من الصلاة أحد غيره..
قام أمير المضافة (أبو عبد الله) بعد الصلاة... فحمد الله، وأثنى عليه ثم تحدث عن فضل الجهاد وأهميته، وألا نصرة إلا مع الإخلاص لله.. و...، ثم قال في الأخير: أيها الأخوة، اليوم هو اليوم الأخير لكم في هذا المكان، وغداً -بإذن الله- الرحيل، وعلى كل شخص منكم أن يرتب أموره.. أما أغراضكم فهي محفوظة عندنا هنا.. ولا يأخذ أحد منكم شيئاً إلا جزءاً من مال يسير قد تحتاجونه، أما بقية أغراضكم فهي محفوظة هنا من جوازات وأوراق وأموال...
كان هذا اليوم بالنسبة للمضافة يوم مختلف فهذا يودع ذاك، وهذا يسأل صاحبه أي معسكر ستختار؟.. والحديث بينهم ذو شجون...
لم يبق (مسيطيح) شيئاً من الشوكولاته التي اصطحبها منه.. كانت آخر قطعة تناولها في تلك الليلة والتي لم ينم فيها.. لا أدري خوفاً أم قلقاً..؟ لأنه فكر كثيراً بالرجوع..
بعد صلاة الفجر من اليوم الثاني اجتمع كل من في المضافة (مضافة بيت الأنصار) على شكل طابور.. وهم يرتدون الزي الأفغاني.. ثم بدأ المنادي ينادي كل شخص بكنيته ويخيّره بين معسكر الفاروق أو الصديق.. والفرق بين المعسكرين معروف لمن ذهب هناك، فالأول معروف بشدة التدريبات وقسوتها، والثاني أخف وأقل..
(أبو عميرة) النجدي كان هذا صوت المنادي.. نعم أنا هنا.. حدد أي المعسكرين تريد؟.. فقال الصديق.. وكان ضمن مجموعة لا بأس بها، وهي الأغلب اختارت الصديق..

ـــ 12 ـــ
أخذ حقيبته الخضراء وتوجه مع مجموعة نحو المركبة التي ستقلهم للمعسكرات، ركب صاحبنا في الحوض الخلفي.. وبين عينيه وجل وخوف وحديث النفس يملأ الأعضاء ارتعاشاً.. ساعات طويلة بين سفوح وقمم تلك الجبال الخلاّبة والوجهة نحو الحدود.. نحو (ميرم شاه)، وهي منطقة حدودية بين باكستان وأفغانستان، نزل الركب في مضافة (ميرم شاه) وقد كانت مشوهة فهي ليست كمضافة (بيت الأنصار).. نزلوا في هذه المضافة للراحة من عناء يوم شاق واستقبال ساعات هي أشق وأصعب..
نزل (أبو عميرة) النجدي في صحن المضافة وهو صغير... دار حديث بين الشباب ... ضحك وذكريات حتى صلوا العشاء، وبعدها جاءت الأوامر من القائد أن يخلدوا للنوم؛ فوراءهم يوم شاق وقاسٍ.
نام الكل ما عدا صاحبنا فلم يلتذ جفنه بهناء النوم وراحته، جلس ليلته يتأمل النجوم ويفكر.. إلى أين أنا قادم..؟! ما المصير..؟! كيف بي لو قتلت قبل أن أتدرب..؟! هل سأمكث في هذه الديار مدة طويلة..؟
كان الهم يغالبه، ولحظة الحنين للرجوع توجع قلبه.. ماذا سيقول الناس له حينما يرجع دون أن يكمل مشواره؟
هل سيُستقبل استقبال الأبطال.. أم سيناديه الأطفال أيها الفار..؟!
(أشهد أن محمد رسول الله...) هذه أول عبارة يسمعها (أبو عميرة) من المؤذن، فقد كان سابحاً في خياله مع تلك الهواجس؛ إنها لبّ القلب وخياله..
آه ما أجمل هذه المناظر وهذه الشلالات!! إنها صنع السماء. كان يسائل النفس: يا ترى، هل هذه المناظر التي كنت أشاهدها أيام بيت الصفة على صفحات المجلات..؟! وأين أجد خيل (بيل) حينما امتطى صهوته للدعاية لـ (مالبورو)..؟! آه هل سأجد قبعته أم خيله؟!
فالجبال هي الجبال والسماء هي السماء.. لم يقطع حبل أفكاره إلا حينما توقف السائق ليدفع لبعض القبائل من أجل العبور مع هذه الطرق.. ومعروف أن السلطة هناك لتلك القبائل...
بدأت ملامح المعسكر تتراءى أمامهم بعد مسيرة طويلة ومشي بالأقدام تجاوزت أكثر من (4) كيلومترات تقريباً.. هذا هو معسكر الصديق، المعسكر الذي لطالما سمع عنه، ولطالما تحدث الغادي والرائح عنه.. هذا هو المعسكر الذي رأى بعضاً من صوره على بعض المجلات، كما سماها له السابقون.. وقفوا أمام باب المعسكر، فعرّف القائد بنفسه، وأعطاه كلمة سر، وأخبره أن هؤلاء مجموعة جديدة، فتبسم الحارس، ودخلوا نحو الساحة الكبيرة..
ومن ثم استقبلهم شخص يقال له: (أبو دجانة)، سلم عليهم، ثم قال: انتظروا قليلاً فأمير المعسكر قادم إليكم..

ها هو (أبو سلمان) الأمير قادم، وله وقار وهيبة يمليها عليه لحية سوداء كثيفة وشعر مجعّد وبنية قوية..
السلام عليكم، مرحباً بالشباب على كل شخص أن يعرّف بنفسه.
(أبو عبد الله) من أرض الجزيرة
(أبو محمد) من أرض الكنانة
(أبو يعقوب) من بلاد الرافدين
(أبو عميرة النجدي) من السعودية..توقف الأمير قليلاً، وقال: في المرات القادمة، لا تذكر الاسم، بل قل: من الجزيرة أو من أرض الحرمين، وذلك لدواعٍ أمنية..

حسناً. وزّعهم يا( أبا دجانة).. كان هذا أمر من الأمير لـ (أبي دجانة).
قام هذا الرجل بتوزيعهم في المعسكر، ثم وضعوا أمتعتهم وأغراضهم، ومن ثم خرجوا للساحة مرة أخرى. جمعهم الأمير، وألقى فيهم كلمة عن وجوب السمع والطاعة، وأن هذا المعسكر لتهيئة الشباب للذود عن حياض الأمة و... و..
لم يسأل هذا الأمير عن مدة بقائهم كما يُفعل كل مرة.. أذّن العصر.. قال لهم الأمير: هذا يوم راحة لكم.. توزّعوا، فمنهم من ذهب للتمشية، ومنهم من ذهب لمكانه لتهيئته، ومنهم من ذهب للمصلى أما صاحبنا ((أبو عميرة)) فذهب نحو حارس المعسكر ليسأله، ويتحدث إليه.
لم يستقبله الحارس بأريحية؛ إذ إن هذا الفعل يُعدّ انتهاكاً للخصوصية.. هذه الفعلة غيّرت مسار (مسيطيح)؛ إذ وضع الأمير والقواد علامة استفهام حول هذا الغريب الجريء.. استدعاه أمير المعسكر تلك الليلة، وسأله عدة أسئلة أبانت له شخصية (أبي عميرة) وأنها شخصية تتمتع بحب الاستطلاع، مضاف إليها بلاهة وسذاجة تمزجه بصورة بريئة .. أنقذته من عدة مآزق مر بها في حياته.. في الأخير أخبره الأمير بالتعليمات ولزوم السرية، وألاّ يفعل شيئاً دون إذن؛ فهناك أشياء لا يمكن الوصول لها بسهولة خاصة لمستجد مثل صاحبنا، ومنها بعض الحراسات.
خرج (مسيطيح) من عند الأمير وفي قلب الأخير شيء من هذا القادم الغريب لم تكشف له الأسئلة عن بياض..
...
الساعة التاسعة والنصف و(مسيطيح) يحدث نفسه: هل أنا في حلم أم في واقع؟! إنه يوم طويل شاق ينتظره غداً.. بدأ الرعب يزداد مع قرب الفجر.. ونهايات الأسئلة يكشفها قرب الفجر..

صلى (أبو عميرة) صلاة الفجر مع الجماعة، وبعد الصلاة بقي الجميع في أماكنهم لقراءة وردهم اليومي، ثم تحلقوا على شكل مجموعات لقراءة القرآن وتفسيره. كانت عينا صاحبنا يداعبهما النعاس؛ لأنه لم ينم تلك الليلة إلا (6) ساعات وهذا وقت غير كاف له..
اصطف الكل في الطابور الصباحي، وبدأت التعليمات خاصة للقادمين الجدد.. وبدأ التدريب على الجري في البداية في الساحة ثم في الجبل، وبعدها درس نظري على كيفية التعامل مع الأسئلة بداية في الكلاشنكوف يتطور الشخص بعدها ليصل إلى مراحل عالية جداً من الخبرة في طريقة استعمال المضاد للطائرات و(الآر بي جي) وغيرها... جاء وقت الإفطار في الساعة التاسعة تقريباً.. وكان (مسيطيح) أو (أبو عميرة) ينتظره بشوق بعد ساعات من التدريب والذي لم يعتد عليه إلا أن خيبة أمل ارتسمت على محياه، وهو يشاهد الإفطار أمامه.. قطعة من الخبز شبيهة بالكعكة، وكوب شاهي واحد لأربعة أشخاص أو خمسة، وقطعة من جبنة أو حلاوة..
التهم صاحبنا ما بين يديه.. وعيناه على الشاهي والذي لم يشربه أحد من هذه المجموعة، وغالباً يبقى الشاهي؛ إذ إن كل شخص يتركه لصاحبه من باب الإيثار... لكن أي إيثار يبقى عند (مسيطيح)؟! فبمجرد أن وصله الشاهي من صاحبه التفت نحو الجهة الأخرى وقال: يا (أبا مصعب)، هل تريد الشاهي..؟ تبسم (أبو مصعب) وقال: بالهناء والعافية. فلم يكمل أبو مصعب عبارته هذه إلا و(مسيطيح) يضع الكوب فارغاً على الأرض..

اجتمع الكل في الساحة، ومن ثم تفرقوا على شكل مجموعات. كل مجموعة مع قائد؛ إذ إن هناك دروساً نظرية وتطبيقية حتى صلاة الظهر..
الكل كان يسأل عن طريقة تركيب السلاح وطريقة استخدامه.. ما عدا (أبا عميرة) فكان كل مرة يسأل: هل يمكن أن يُفيد هذا السلاح في كسر ساق عجل!! سؤال غريب لا أملك الإجابة عنه.. ارتاب الكل من هذه الأسئلة.... لكن وعلى الرغم من ذلك كله كان هناك أناس من بعض الدول العربية غير الخليجية تصغي لهذه الأسئلة بانتباه.. وهم في الحقيقة في غاية الذكاء وعرفوا أنهم بإمكانهم توظيف هذا الشخص لأغراض سيئة.. هؤلاء الأشخاص هم بعض مجموعات التكفير وغيرها، والتي كانت موجودة هناك.. حاول بعضهم التقرب من صاحبنا، وفعلاً بدأ الحديث معهم، وكان الحديث عابراً حذراً في البداية إلا أنه مع مرور الوقت تحول إلى حديث ذي شجون، وانتهى الحديث بينهم أن هناك فتحاً قريباً لجزيرة العرب حيث الحكام الضلاّل وغيرها من الأفكار الغريبة.. اقتنع (مسيطيح) ببعض هذه الأفكار.. لكن أي حلم سيبقيه هنا...

اليوم الثلاثاء.. وثلاثة أيام مرت بثقلها وهمّها في قلب (مسيطيح) جلس ليلته تلك خافت الطرف كليل الفؤاد بعد مسيرة شاقة وطويلة في تلك الليلة تخللها صعود وهبوط بين هذي الجبال وتلك السفوح والوديان، كل ذلك كان في ليلة سوداء لا بدر ولا سحب.. كل ما هنالك أصوات رشاشات بين الفينة والأخرى، ونقنقة ضفادع عند ذلك النهر والذي بقي فيه (مسيطيح) أكثر من نصف ساعة واجماً في مكانه.. ومقبرة الشهداء في خوست تبهر العين وتملأ الفؤاد..
وحنين لرجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. يا لوعورة الطريق وقهر الرجال.. ومسيرة القلب تلتهمها الذاكرة والأيام..
كانت تلك هواجس وتأملات (مسيطيح) بعد ليلة العقاب.. آه و لِمَ العقاب...؟! وهل استحق كل هذا هل بمجرد أن هرّبت بطريقتي الخاصة بعض البسكويتات يكون هذا العقاب؟!!.. ويح قلبي!! كيف لو هرّبت ما هو أشد من ذلك؟! هل سيكون جزائي الجبهة...؟!
نام (مسيطيح) بين هذه الشوارد والأفكار، وكان هذا العقاب نقطة أخرى أيضاً في حياة الرجل.. فقد بدأ يدبّ الوهن والملل في قلبه.. وبدأ يفكر بالرحيل نعم الرحيل.. لا خيار آخر...
ذهب نحو رجل ممن تقرب منهم أو تقربوا منه من التكفيريين وهو (أبو الخطاب الجزائري).. وأخبره بعزمه على الرحيل، وأن الأرض ضاقت عليه بما رحبت..
صعق صاحبه بما سمع.. الرحيل!!.. كيف لك أن تذهب وأنت لم تأت إلا قبل أربعة أيام..؟! أجابه: لا مكان لي هنا.. لم أتوقع هذه الشدة في التدريبات، وهذه القسوة. ظننت الوضع أسهل من هذا بكثير.. حاول صاحبه أن يثنيه عن عزمه، لكن هيهات وجنون الرحيل يغذي عزمه..

يا لهذه المسافات الطويلة بيني وبين حبيبة القلب (بريدة).. أين أنا من فهد وأحمد و.. و.. ما أطول تلك السنين في هذه الغربة..!!
آه هل قلت: سنين. نعم هي كالسنين في قلب (مسيطيح)..

ذهب (أبو عميرة) لأمير المعسكر وسأله متى أقرب رحلة ؟.. تفاجأ الأمير لهذا السؤال .. لك أيام قليلة فما الداعي للمغادرة ؟!.. قال: فقط مللت أريد العودة. قال الأمير: لك ذلك تجهزْ فيوم الجمعة هو يوم المغادرة.. لم يمانع الأمير على رحيل (مسيطيح) خاصة بعد موقفه مع الحارس..

...

سارت الأمور بشكل طبيعي.. تدريب يومي ودرس بعد المغرب أو محاضرة لشخص سواء من داخل المخيم أو من خارجه.. وبعد العشاء اجتماع أسري ثم العشاء ثم النوم وهكذا..
كاد صاحبنا أن يُعاقب مرة أخرى.. والسبب أنه يلزم كل شخص أن يلبس اللبس الأفغاني إلا أن (أبا عميرة)خرج ذات صباح في لبس رياضي ضيق اكتفى القائد بأمره أن يستبدلها رأفة به ونظراً لقرب رحيله..

هذه أول جمعة تمر على (مسيطيح) داخل أفغانستان وهي الأخيرة أيضاً.. لم يتذوق طعمها، ومعروف لمن ذهب هناك أن يوم الجمعة هو يوم راحة في أغلب الأحيان؛ فلا تدريب ولا مسيرات ولا غيرها.. يوم مفتوح لمن أراد غسل ملابسه أو التمشية أو غيرها.. يوم أيضاً تنتظره البطون الجائعة؛ فهي بالكاد لا تعرف الرز واللحم إلا في هذا اليوم.. يوم يعني الكثير لكثير من المتدربين حيث تكثر الجلسات والسوالف وتمضية الوقت في المرح واللعب...
كل هذا سمع به صاحبنا، والذي لم يدرك من هذا اليوم إلا ساعاته الأولى فقرابة الساعة الحادية عشر ستنطلق الرحلة من المعسكر نحو خط العودة.. و(مسيطيح) يلح على الركب والقائد أن تتأخر الرحلة من أجل إدراك وجبة الغداء والتي تمناها طويلاً طويلاً.. لكن هيهات.. كان الوداع للراحلين مملوء بالمرارة والحزن ما عدا (أبا عميرة)؛ إذ إنه لم يطل البقاء ليختلط بالآخرين كالبقية؛ فكان وداعهم له شيئاً من الروتين.. لكن آخر من ودعه صاحبه (أبو الخطاب الجزائري).. وكان الوداع بينهما تبادل أرقام..

...


ـــ 13 ـــ
بدأت المسيرة بين الجبال مروراً بمناطق حكمتيار ثم ركوب السيارات المتجهة نحو (ميرم شاه) على الحدود حيث هناك المبيت، ثم بعدها نحو مضافة (بيت الأنصار) في (بيشاور).. وكاد (مسيطيح) أن يوقعهم بكوارث مع بعض القبائل والتي تتناثر عبر الطريق ببعض تصرفاته الحمقاء لولا وجود بعض العقلاء...
...
بنفسية مهزومة ومكلومة حاول (مسيطيح) أن يهرب من مضافة (بيت الأنصار) بعد أن أخذ كل أماناته من جواز وملابس وغيرها.. وفعلاً تحقق له ما أراد، تجاوز شارع (عبد الله رود) الشارع العربي الشهير. لا يدري أين المفر؟! وإلى أين سيذهب؟!.. كل الطرق جديدة، وكلها في اتجاه واحد أمام عينيه.. الأهم أن يهرب من نقطة التوقف التي يضع قدميه عليها.. انتهى به المقام في أحد الأزقة الضيقة قرب مطعم شعبي قديم، وقد غص بالزبائن، وفاحت منه رائحة مخلوطة بين الطعام وملابس الزبائن لتشعرك بالغثيان، ومنظر القطط الشاردة القذرة تزاحم (مسيطيح) أمام بوابة المطعم..
انسجم مع هذا المنظر، فبالكاد لا يكاد أحد يعرفه وسط هذه الزحمة.. طلب طعامه وجلس على إحدى الطاولات يشاركه بقية من خوفه وبضعة رجال.. لم تستقر عينا (مسيطيح) على طعامه بل أخذ يقلبها في الرائح والغادي وحديث قلبه أنه الفار من العدالة فلا مكان للطمأنينة..
...
الشمس تتحين المغيب وأصوات العربات تضج بها الشوارع والأزقة تستعد ليوم هادئ.. و(مسيطيح) يجوب تلك الشوارع الهادئة.. لم يصدق أذنيه وهو يسمع صوت الأذان يضج به الفضاء.. آه إنه حلم القرية الصغيرة وعصافير (البوطة) تجوب الخاطر.. ومساءات من ليله الحزين.. ما أبعد الصبح والإشراق..؟!
كيف لي أن أمضي وبقية من مأمنٍ هنا.. والخوف يملأ عليّ المكان؟!!.. يا لحماقتي وغبائي كيف هربت ولماذا هربت.. وهل هذا انتقام منهم أو مني؟!!..
وقف على صوت أجش يناديه من خلفه بهمس أيها العربي.. التفت (مسيطيح)، فرأى وجهاً لا يحمل أي ملامح للراحة أو الكره.. نعم ..سأله: هل أنت عربي..؟ نعم أنا عربي.. ما الذي جاء بك إلى هنا؟ زيارة وتمشية... هل تعرف أين تسير الآن..؟ الأكيد أني في بيشاور لكن أين فلا أدري!قال: هل أنت سعودي؟ أجابه (مسيطيح) نعم.. قال صاحب الصوت الأجش كثير ما يأتي إلينا أناس من بلادكم لكن القليل من يأتي إلى هذا المكان.. سأله: لماذا هذا المكان بالذات؟!.. قال: هنا مرتع (المافيا) وهنا تنام..اضطرب (مسيطيح) حينما سمع هذه العبارة (مافيا)، أراد الهرب لكن من ذا الذي يهرب في غابة مملوءة بالأسود!!.. سأله: هل تريد مكاناً آمناً؟ موضعك مريب ومثير وأخشى عليك من العصابات.. نعم أريد.. لكن من أنت..؟! أنا (عبد العليم) مكثت فترة طويلة في مكة.. ارتاح (مسيطيح) لهذا الجواب.. فقال: نعم أريد مكاناً. .حسناً اتبعني.. مشى الغريبان في طريق موحش وبين بيوت طينية متهدمة ذكّرت صاحبنا بحبه الأول أيام الصفة.. أخذ (عبد العليم) جهة اليمين مع أحد الأزقة الصغيرة وقال له: إياك أن ترفع صوتك أو تتكلم.. امش بخطا ثابتة.. لا تلفت الأنظار، فنحن في قلب الخطر.. ارتبك قليلاً أو كثيراً ثم قال في نفسه: يا لحظي العاثر، كالمستجير من الرمضاء بالنار.. توقف (عبد العليم) فجأة ثم قال له: المكان الآمن الذي حدثتك عنه مشغول وفيه آخرون، ما عليك الآن إلا أن تذهب من هذا الاتجاه لتأخذ أول منعطف نحو اليمين وبعدها تمشي أكثر من (500) متر لتجد هناك بيتاً على يمينك لون بابه أخضر.. تجد مقابلاً له ممراً، سرْ معه ليوصلك إلى فندق هناك. أخبرهم أنك أتيت عن طريقي.. تبقى فيه هذه الليلة ومن ثم تنطلق متى ما أردت لإسلام أباد.. حسناً. وأنت لماذا لا تذهب معي..؟ لا أستطيع يا (أبا عميرة) لظروف أمنية. تفرقا، وألف استفهام يدور في خلد هذا الهارب الغريب، يا ترى من هذا ومن هو عبد العليم، ولماذا قدم لي تلك الخدمات كلها؟!!.. هل أنا الخمسين على طاولة الكيرم أم الوزير في الشطرنج؟!!.. لا أدري، وقد أكون رقماً رخيصاً ليس لي معنى.. لكن كل الذي أعرفه أن الأمر مريب.. كيف المخرج هل هو كمين؟!.. هل أنا ضحية وطريد؟!.. هل أخالف ما قاله لي وأذهب مع هذا الطريق؟!.. كيف لو كان صادقا؟!ً..
أخذ (مسيطيح) الاحتمال الأخير واعتبره صادقاً وتوجه عبر هذه الممرات وهذه الأزقة الضيقة.. لم يصدق عينيه وهو يشاهد هذا المنظر البديع أمامه.. ياه.. هل هي حورية؟ إنها من أجمل ما رأيت في حياتي، وقف يتأملها قليلاً وهي تدخل أحد البيوت، وتشير له بنظرة ماكرة خبيثة.. احمم هل هذه الإشارة لي..؟ ليس معقولاً أن تدعوني هذه المرأة الجميلة.. وماذا جذبها فيني؟!.. وعجائز..
(الوسعة) في بريدة تتأفف مني.. هل أغرتها هذه الشنطة التي أحمله؟!ا.. فُتح الباب مرة أخرى فإذا هي نفس الفتاة بشالها الأسود وثوبها السماوي. تفضل أيها الغريب.. ثارت في نفسه أسئلة حائرة بالأمس كنت مع المجاهدين، والآن أنا أمام هذه الغانية.. لم تتركه في حاله بل جذبته برفق إلى الداخل وهو لم يمانع كثيراً..
...
أفاق بعد ساعات طويلة على ضحكات غادرة.. ويا لحظه العاثر حين علم أنه بين كواسر المافيا ولم تكن هذه الفتاة إلا الطعم.. ولم يكن عبد العليم إلا الباحث عن الطرائد.. ولم يكن (مسيطيح) إلا ضحية من عشرات الضحايا..
رأى شنطته الخضراء وهي مبعثرة أمامه وجوازه مرمي على أحد الطاولات وهو يرسف بسلاسله بكى كما الطفل الصغير استناح واستنجد بهم، ولكن لا مجيب.. يومان أو ثلاثة لا يدري فأوقاته كلها ليل.. وضحكاتهم تجلجل بين جدران هذا البيت الموحش.. وكلام لا يُفهم.. وطعام قذر يُقدّم له بين فترة وأخرى من تحت الباب..
وبعد أيام يدخل عليه رجل ضخم الجثة موحش الوجه يسأله: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ ومن أين أنت؟ كان الحوار بالعربي لأنه الوسيلة الوحيدة.. أنا من السعودية وأتيتُ للجهاد.. قال: جهاد وأنت في وكر الرذيلة.. بل أنت كذاب أيها العربي؛ فلقد أتيت من أجل نسائنا وسننتقم منك.. بكى ثم بكى واستنجد به وحلف له أيماناً مغلظة أنا قصتي كذا.. وكذا.. قال: أين ستذهب قال للمطار. سحب هذا البدين رشفة من حشيشة ملفوفة بطريقة محبوكة جداً.. ثم قال: هل تريد حشيشاً أجاب (مسيطيح): أنا لا أدخن. قال له: هذا حشيش مو دخان!! قال (مسيطيح): شلون حشيش لا أعرفه. ضحك هذا الرجل ضحكة ماكرة وقال ستعرفه الآن.. أرغمه على استنشاق البقية الباقية من سيجارته..
...
ما الذي يحدث أمامي؟ ومن هذا الرجل القوي الغريب، والذي أغلظ القول لهذه العصابة حينما رأى هذا الأسير... اعتذروا له في الأخير، وقالوا له: لقد أخطأنا الهدف..وبدوره هو اعتذر لـ(مسيطيح) بحرارة منقطعة النظير وهو يقول: (نرجو أن تسامحنا فأنت ممن اغبرت قدماه في سبيل الله.. أعطوه زيادة على ما معه من مال، وتمسحوا بجسده فهو من أحفاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة الكرام). فرح كثيراً صاحبنا لهذا الإطراء.. واعتذر هو بدوره منهم ، ثم أوصلوه إلى المطار، حجزوا له مع أول رحلة مغادرة إلى الرياض. ودّعوه وودعهم..
...

أربع ساعات ونصف إلى خمس ساعات هي مدة بقاء (مسيطيح) معلقاً بين السماء والأرض على تلك الرحلة من (إسلام أباد) إلى (الرياض).. نادته المضيفة وهو مسند رأسه على المقعد (pleasa,May I help you) قال: إيش.. ممكن تتكلمي عربي ؛لأني ما أعرف (أردو).. تبسمت المضيفة العربية، وقالت (هل أستطيع أن أخدمك بشيء) ظن (مسيطيح) أن هذا تلميح لغزل.. بادلها الابتسامة وقال: لا، شكراً.. لكن هل تريدين رقمي؟! قالت: (إيش بتؤول= بتقول) قال: ولا شيء آسف.. تجهمت هذه المضيفة في وجهه والتفت القريبون من مقعده ورموه بنظرة احتقار..
(طن.. طن.. على الركاب ربط أحزمة مقاعدهم استعداداً للهبوط).. أخذ (مسيطيح) شنطته من المكان المخصص فوق مقعده وصف في الطابور الطويل.. آه هذه هي الرياض ودرجة الحرارة 40 درجة مئوية..
كان الطابور طويلاً أمام الجوازات وبعدها الجمارك.. اجتاز المرحلة الأولى.. أدخل حقيبته الخضراء عبر الكاشف، همس الجندي المسؤول للضابط بكلمات فهم منها (مسيطيح) أن في الأمر ريبة ما..
الأخ الكريم لو سمحت ممكن جوازك. كان هذا سؤالاً وجهه الضابط لـ(مسيطيح)..نعم تفضل .. استلمه منه ضابط الجمارك ثم قال له: اتبعني. كانت الشنطة في يد الضابط توجها نحو مكتب مرتب صغير.. سأله الضابط بأدب: من أين أنت قادم..؟ قال: (مسيطيح) من الجهاد.. قال الضابط: يعني من باكستان؟ قال: نعم.. تبسم قال له الضابط: هل ممكن تذكر لي طريقك من أول ما ذهبت حتى رجعتك..؟ بدأ صاحبنا يقص عليه كل شيء.. إلا قضية الفتاة والعصابة. قال الضابط: هل أنت متأكد.. قال: نعم.. قال: أرجوك. قل: كل شيء، فالوضع سيكون في صالحك.. وبعد إلحاح أخبره (مسيطيح) بكل حكايته. تبسم الضابط وقال: افتح شنطتك.. افتح السحاب الفلاني. اقطع هذا الخيط، وفي الأخير يكتشف صاحبنا أن الشنطة كانت ملغمة حشيش، وأن الاحتفاء به من العصابة هناك لم تكن سوى تورية وخدعة، وأن هناك عصابة أخرى في الداخل تنتظره.. اتخذت الإجراءات اللازمة وأقفل الملف..

ـــ 14 ـــ
عشرة أعوام دُونها القلب والروح.. وجراح تلوكها الألسن.. وبقايا مدرعات جاثمة في صحرائنا.. تذكرنا أن بعضنا يمضغ قلب الجسد الواحد.. هناك حيث يقف القلب عند حرب الخليج وضجيج السماوات تلفح بقايا الـ( F15) ... وصغار يستمتعون بلعبهم على ضجيج أغنية (حنا جنود الله) لا يدرون عن عالم مهيب.. يا لدموعي وهذه الذكريات..
سنوات.. انفجرَ فيها جسد الوطن في تفجيرات استهدفت بقية من زجاج متماسك.. فتتطاير الأشلاء لتطال أبرياء ينتظرهم حلم السنوات القادمة.. أين أنا من ذلك كله..؟
غبتَ هناك يا قلبي حيث الضباب المعتم، تختفي وراءه الحقيقة الكاملة أو الجزئية.. وأنت تبحث عنها في لهفة المشتاق فرجعتَ خائب الخطوات مكلوم الفؤاد..

وأين أنت يا صاحبي؟ أين أنت يا (مسيطيح)؟ هل كنت طريد الحضارة أم المتطفل عليها بنرجسية توهم الذئاب أنك عبد مطيع؟!..، لك الله وسنوات الغربة تنهش من قلبي وفي عينيك ذاكرة الطفولة..

ـــ 15 ـــ
آه ما أجمل منظر الغروب.. كنت أسير في يوم صيفي جميل وشمس بيروت تختفي من عيون الغارقين خلف زورق صغير.. على يميني البحر الأبيض المتوسط.. وعلى يساري تلك الجامعة العريقة على قمة الجبل.. تلك الجامعة التي نامت موجعة القلب أيام الحرب الأهلية في لبنان، وتحت قدمي ذلك الجسر والذي تمخر الزوارق الصغيرة من تحته قادمة من فضاء البحر الهادئ نحو الجبل الساكن، والذي تربض عليه الجامعة الأمريكية..
على ذلك الرصيف.. كم عاشق وملتاع مشى..!! وكم قلب أثقلته الهموم والسنون وطئ على موضع قدمي..!!
نحو الجنوب أسير بقدمين يا ليتهما كانتا عاريتين.. وهناك هناك منظر الغادين والرائحين.. وصخرة الروشة تلتهم نظرات العاشقين والغرباء..
نزلت في المقهى الأخير من مقاهي الروشة العتيقة والتي أحب الجلوس فيها قبل غروب الشمس، كنت حينها قادماً من ساحة البرج قريباً من مقهى كوكب الشرق الشهير، والذي سقط على رواده عام 1934م..
أدرت كرسي الجلوس نحو الغرب.. نحو البحر.. نحو الصخرة.. نحو المغيب.. حيث تلتقي السماء بالأرض.. بدأت أتأمل كنت وحدي وكثيراً ما أكون وحدي في سفري.. التفت نحو اليمين للخلف قليلاً، ورفعت يديّ منادياً (الجرسون) ليأتي لي بشاهي منعنع.. ويا للهول..!! يا للمفاجأة..!! لم أصدق ما أشاهده أمامي، هذا أحمد. معقول ما الذي جاء بك؟ سألته، تبسم بعدما احتضنني واحتضنته وهو من أصدقاء الطفولة.. أبداً والله تمشية. طيب هل أنت وحدك؟ لا والله أنا و(مسيطيح).. إيش..
(مسيطيح) معاك..؟! سألته قال: نعم لنا ثلاثة أيام وسنعود بعد يومين ..طيب أين (مسيطيح)؟! أممم هو في دورة المياه لك الكرامة... هاهو (مسيطيح) قادم .. يا الله لم أصدق ما أرى ..؟! لقد تغير كثيراً بعد تلك السنوات الرهيبة.. أين لحيتك أين شاربك..؟! تبسم وقال: الأول تغير .. لقد حدثت بعدك أحداث وأمور.. كانت أحداث تفجيرات الخبر في 25/6/96 بداية النهاية وبداية الوجه الآخر لي .. كنت حينها مع مجموعة من الشباب، وكنا متحمسين لقضية التغيير والفتح الموعود لأرض الجزيرة و... و... ولكن كانت بيدي عمرو لا بيدي .. حينها تم اعتقال عشرات الشباب ممن ثبتت صلتهم بالمتورطين، ومنهم لم تثبت لهم أي صلة وكنت أحدهم.. في أثناء السجن قرأت بعض الكتب والروايات والتي كانت نقطة تحول.. خرجت من المعتقل بعدما لبثت فيه بضعة أشهر، وقررتُ أن أسير في اتجاه آخر مغاير تماماً.. وها أنذا أمامك..
سألته: وما الذي جاء بك إلى هنا؟ تبسم وقال هل تعرف زيزي؟ سألته: من زيزي؟ قال: بطلة ستار أكاديمي.. قلت: بصراحة لا أتابعه.. قال: وين أنت عايش، العالم كله يتابع ستار أكاديمي؟
تبسمت وقلت: لا يشرفني أن أكون من ضمن هؤلاء الناس أو العالم..قلتُ: طيب وبعدين إيش فيها (زيزي) قال: والله أمس رحت حضرت الحفل وسلمت عليها، ولا أخفيك أن سبب مجيئي إلى هنا نسبة 70% من أجل ستار أكاديمي، وبالذات لـ (زيزي)، قلت في نفسي والحسرة تملأ الفؤاد .. وكثير من السؤال اشتياق.. سنوات يقضيها الفتى بمراهقة متأخرة..
ودعته وأحمد .. وكان (مسيطيح) يمشي على نغم أغنية نجوى (خيروني ابن العم خيروني ابن الخال... ) والذي انبعث من المقهى المجاور بصوت حزين... مشى نحو الشرق.. ذهبت لكرسيي.. وتأملت صخرة الروشة وزورقاً يمخر الماء من تحتها .. هنا غابت الشمس .. وغاب (مسيطيح)..
انتهى..



ــ فواصل ــ

• من عربية ذات ثلاث عجلات (الحق على التيم يا ولد) وطفولة ساذجة .. إلى (زيزي) ومراهقة متأخرة .. ماذا سيكتب التاريخ؟!
• الفاضلة نوال بنت عبد العزيز سمعتُ ذاك الحوار الساخن مع أم عاصم عن طريق الحبيب محمد.. وهل خرجتم بنتيجة أنني شوهت مدينة بريدة ؟!.. حاشا يا بنت الكرام، كيف يحرق الشيخ شاهدات طفولته.. إنها مرتع الصبا وأرض الحنين.. فقط أردت أن أخرج القذاة من العين..

ردّ الله الغائب عبد الله
________

أبو زياد .. صالح
[email protected]

4\12\1426هـ

أم أديم
06-01-06, 03:23 AM
رائع رائع رائع

أسلوب شيق وقصة مشوقة امتعتنا بها على مدى ثلاث حلقات

كنت انتظر الحلقة الاخيرة بفارغ الصبر وكانت بالفعل رائعة واسلوبك القصصي والسرد اكثر من رائع

قصة فيها الكثير والكثير

Gold Smith
06-01-06, 05:24 PM
رائع

الله يعطيك العافيه

Qassimyvb
08-01-06, 12:42 AM
انت رائع اخوي ابو زياد قرأت كل الاجزاء وفيه ابداع بالكتابه

الشعبــي
08-01-06, 12:44 AM
أخي الحبيب أبو زياد الصالح

لم يبقى لنا من القول شيئا يرتقى لما أبدعت ...

وأن كنت ستسمح لنا بجمع الأجزاء فى كتاب ألكتروني ..حفظا لها وتسهيلا على طالبيها ...

دمت بود

غريب الماضي
08-01-06, 02:19 AM
أنتظر القصة بشغف . . .

وهاهي جاءت ولكن بوقت لا يسمح لي بقراءتها حاليا ً

سأعود حينما يستتب الامر . . .

غريب الماضي
13-01-06, 04:59 AM
السلام عليكم

الله . . قصه حياة أو حياة قصه

سـردت ماضيا ً مليء بالمتغيرات والتناقضات

كبيروت وأفغانستان

يـاهـ يالـه من ماضي . . مملؤا بالاحـداث

بصدق لا أستطيع أن أجـد تعليق يفي كل ماجاء في أحـداث القصه

من بـدايتها وحتى الـنهـايــة . .

ولا سيما أن راويــها يتحـدث بكلمات تخرج من القلب

ولكن أنا هنا أؤيـد الـرآي الـذي يقـول لا بـد من تـدويـن

هـذا الماضي وهـذه ِ الاحـداث في كتيب على ورقـا ً مطبوع

يقرائها القاصي والداني ويخرج بعبر وفوائـد تلكـ الاحـداث المثيرهـ

والتحولات المغايرهـ . .

ربي يسعـدكـ ويجعل السعادة تملئ ربيع قلبكـ والامل يتراقص أمام ناظريكـ

أن شـاء الله .

أبو زياد الصالح
16-01-06, 07:38 PM
ياهلا بكم كلكم ...
كيف أعتذر عن التأخير في الرد ...
لكن لعل عذري أني فقدت حبيبا غاليا على قلبي ...هو مالك الرحبي
وقد كتبت فيه حروفا ..
تجدونها على هذا الرابط

أيامٌ مع مالك الرحبي..ونظرة للسماء ..وقلبٌ ينبض بحب (أسماء) ..لك الله (http://www.qassimy.com/vb/showthread.php?t=58580)

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

هلا باخت الكل هلا أم أديم ...
شلون الصغينونة اديم ...الله يحفظها يارب..
أختي أشكر لك هذا الإطراء ..والذي هو وسام عز أتقلده ..
أشكر لك مرورك ...

ــــــــــــــــــ
الشبل الكبير أبو سن ...
تسلم يالغالي ...
سعدت بمرورك ...ــــــــــــــــــ
الحبيب qassimyvb
ياهلا بك والله وغلا ....
هذا السعد كله جاني يوم شفت اسمك
الله لايحرمني منك ..
إطلالة أكثر من رائعة شرفتني بهذا الثناء وهو وسام يطوقني
دام عزك

حسن خليل
16-01-06, 08:09 PM
ما شاء الله عليك أخي أبو زياد الصالح

يبدو لي أنها يوميات رائعة بسياق جميل جداً

سأعود وأقرأها حيث أن الوقت لا يسعفني الآن في القراءة.

سلمتَ وسلمتْ يمنيك على هذا الإبداع.

أبو زياد الصالح
21-01-06, 09:09 PM
حبيبي الغالي الشعبي ..
يامرااحب والله وياهلا ..
الحمد لله إنها اعجبتك ...
افعل فيها ماتشاء ..وإن كنت اختصرتها كثيرا ..وأتمنى في يوم من الأيام أن تروها على شكل رواية مطبوعة لكن بالتأكيد ..بعد تنسيقها وإعادتها ..والأهم إضافة الأشياء الكثيرة الناقصة ...
لك الشكر ولك الحب ....
ومثلك يامر أمر ...
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حبيبي وسيدي غريب الماضي ..
لمن كتبت هذه الحروف ...المدونة أعلاه أهي لي ..؟!!
معاذ الهوى أن أنساها ...
لاأدري هذا التعليق مميز بالنسبة لي لأني اعلق على الشعبي وغريب الماضي ...
سعدت بمقدمك هذه اليوميات ...
أما بخصوص تدوينها ..فسأقول لك مثل ماقلت للحبيب الأول الشعبي ...
شاكرا ومقدرا هذا الإطراء ..
دمت نقيا حبيبا قريبا..

أبو زياد..صالح

بلوتوث
23-01-06, 10:22 AM
قصة من أروع ما قرأت

وليتك ازحت الستار وكشفت لنا الاسماء فيبدو انهم معروفين

رائع انت يا صالح

ابوالمنتديات
24-01-06, 10:21 PM
مشكورياابو زياد بس رابط الحلقتين الاولى والثانيه غلط

أبو زياد الصالح
28-01-06, 02:03 AM
شكرا شكرا ....
للزميلين الرائعين ..غريب الماضي ..والشعبي ...
الله لايحرمني منهم...
والله أدري أزعجتكم بقضية الروابط ..بس عاد وش حيلتي ..لأنكم أنتم من غيرها ..
والمشكلة إني بلشت بربع الساحة لأني مخلي رابط الساحة يودي لمنتداكم الرائع ..
لكم الشكر والعرفان ..لكم الحب والشوق ..
لن أنساها ...أيها الرفاق..
دمتم بود ..
ــــــــــــــــــــ
احمم احمم ...
هلا بك والله وغلا ..يابلوتوث ..مع العلم إن هالاسم هذا يخوف..
الله يستر ..
يالغالي شرفتني بمرورك ...
وتبقى أنت الرائع ..
لا عدمتك ..
يالغالي ...

مروان صالح
15-02-06, 10:40 AM
قصة شيقة وجميلة تحتاج وقت للقراءة

أبو زياد الصالح
11-09-06, 07:51 PM
شكرا للأخوين الجميلين ..
أبو المنتديات ..ومروان صالح على مرورهم ..
والعذر على التأخير ..

المولوي
13-09-06, 10:16 AM
مشكور اخوي

بس هل هذه القصه حقيقيه؟؟؟

والله العالم انه علماني
فمن الذي تطأ رجله ارض الافغان يريد ان يرجع



المولوي

يافا
19-09-06, 03:46 PM
يوميات رائعه وتستحق المتابعه والقارءة

شكرا لك وفي انتظار جديدك دائما

أبو زياد الصالح
19-09-06, 08:14 PM
الفاضل المولوي ..
حياك ..
أحداث حقيقية لأشخاص متنوعين
شاكرا مرورك الكريم ..

ــــــــــــــــــــــــــ

الفاضلة يافا
أهلين
سبحان من يحي العظام وهي رميم ..
موضوع له فترة طويلة جدا ..
وجاء بعده جديدات مو جديد واحد ..
شرفتني أختي الفاضلة
ممنون لك

مرسول19
19-09-06, 10:57 PM
ــ فواصل ــ

• من عربية ذات ثلاث عجلات (الحق على التيم يا ولد) وطفولة ساذجة .. إلى (زيزي) ومراهقة متأخرة .. ماذا سيكتب التاريخ؟!
• الفاضلة نوال بنت عبد العزيز سمعتُ ذاك الحوار الساخن مع أم عاصم عن طريق الحبيب محمد.. وهل خرجتم بنتيجة أنني شوهت مدينة بريدة ؟!.. حاشا يا بنت الكرام، كيف يحرق الشيخ شاهدات طفولته.. إنها مرتع الصبا وأرض الحنين.. فقط أردت أن أخرج القذاة من العين..

ردّ الله الغائب عبد الله
________

أبو زياد .. صالح

حاشاك التشـــويه ..

ودمت لمحبيك والتـــــــاريخ !