المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تعرف معنا على فن كتابة القصة القصيرة بالتفصيل - الحلقة الثانية


حسن خليل
14-12-05, 06:08 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

لمن فاتته الحلقة الأولى هذا هو الرابط:

http://www.qassimy.com/vb/showthread.php?t=54709

الحلقة الثانية عن بناء القصة:

ب - الشخصيات

في كثير من الأحيان ينشأ الحدث عن موقف معين ثم يتطور إلى نهاية معينة ومع ذلك يظل الحدث ناقصاً. فتطوره من نقطة إلى أخرى إنما يفسر لنا كيف وقع ولكنه لا يفسر لنا لم وقع. فلكي يستكمل الحدث وحدته، أي لكي يصبح حدثاً كاملاً، يجب أن لا يقتصر الخبر على الإجابة على الأسئلة الثلاث المعرفة وهي كيف وقع وأين ومتى؟ بل يجب أن يجيب على سؤال رابع مهم وهو لم وقع؟ والإجابة على هذا السؤال تتطلب البحث عن الدافع أو الدوافع التي أدت إلى وقع الحدث بالكيفية التي وقع بها. والبحث عن الدوافع يتطلب بدوره التعرف على الشخص أو الأشخاص الذين فعلوا الحدث أو تأثروا به.

فمن البديهي أنه ما من حدث يقع بالطريقة المعينة التي وقع بها وإلا كان نتيجة لوجود شخص معين أو أشخاص معينين، كما أن وجود شخص معين أو أشخاص معينين يترتب عليه وقوع الحدث بطريقة معينة. وبذلك يكون من الخطأ الفصل أو التفرقة بين الشخصية وبين الحدث، لأن الحدث هو الشخصية وهي تعمل أو هو الفاعل وهو يفعل. فلو أن الكاتب اقتصر على تصوير الفعل دون الفاعل لكانت قصته أقرب إلى الخبر المجرد من القصة، لأن القصة إنما تصوّر حدثاً متكاملاً له وحدة، ووحدة الحدث لا تتحقق إلاّ بتصوير الشخصية وهي تعمل، أي عندما يجيب الكاتب على أسئلة أربعة وهي: كيف وأين ومتى ولِم وقع الحدث. ولكي ندرك ما نعني بذلك دعونا نقرأ القصة التالية بعنوان:

شرف اللصوص.

كان "مارتن" موضع ثقة في بلده "ملبورن".

وقد مارس المهنة لمدة خمس وعشرين عاماً ولم يزاول يوماً عملاً من الأعمال الشاقة ولذلك كان يشعر أنه ضرب رقم قياسياً في ذلك الصدد والآن وهو في الثانية والخمسين من عمره كان قد اعتزل العمل أو كاد، وكان يقضي أغلب وقته يتمتع بهوايته في الغرفة التي أعدها للتصوير الفوتوغرافي في شقته.

وكان ما يزال يقوم ببعض الأعمال، ولكن دون أن يرهق نفسه، فحسابه في البنك حساب ضخم. ولم يتجاوز عدد العمليات التي يقوم بها سنوياً ثلاث عمليات.

وفي بعض الأحيان كان من الممكن أن يكون رقيق القلب كما كان مثلاً مع "ساره بيرنكروفت".

كان قد قابلها في صالة فندق أوستريا بينما كان يشرب القهوة بعد الانتهاء من الغداء.

ولمدة نصف ساعة ظل يراقبها بصورة غير ملحوظة وبعد ذلك استدعاها الخادم لترد على مكالمة تليفونية وغابت عن عينه فترة من الوقت ولمح الدموع في عينيها حين عادت، وبينما كانت تجمع حاجياتها لتخرج من المكان اتجه هو إلى مائدتها وقدّم إليها نفسه في هدوء، وأعرب عن رغبته في مساعدتها.

وفي بادئ الأمر ابتسمت ابتسامة واهية وهي تهز رأسها ثم استمعت إليه وهو يتكلم واستسلمت لكلماته المؤثرة، والتي كانت من أسباب نجاح "مارتن" في مهنته. وسمحت له باصطحابها إلى مائدته وأفضت له بمشكلتها.

قالت أنها متزوجة برجل عمره ضعف عمرها وأنها تعلقت برجل غيره أثناء رحلة من رحلات الزوج إلى انجلترا، ولكنها أدركت سريعاً مدى حماقتها وقطعت علاقاتها بذلك الرجل ولكن من سوء الحظ أنها كتبت لذلك الرجل خطاباً. ولم تدرك إلاّ بعد ذلك بفترة خطورة هذا الخطاب وخطورة وقوعه في يد زوجها. ولكي تزيل القلق الذي استولى عليها اتصلت بالرجل تليفونياً، وطلبت منه إعادة الخطاب إليها .. وفي بادئ الأمر وافق الرجل على ذلك واتفقا على أن يتقابلا في فندق أوستريا ولكنه لم يحضر، وتكلم أخيراً في التليفون ليساومها بصراحة على الخطاب وحد مبلغ ألف جنيه ثمناً للخطاب نظراً لغنى زوجها.

وقال "مارتن" في رقة:

- وهل لديك ألف جنيه؟

وهزت "سارة" رأسها.

- ليس زوجي بالرجل الكريم، وأنا دائماً في حاجة إلى نقود، ولكني أستطيع أن أجمع ألف جنيه، فعندي بعض المجوهرات وأستطيع أن أبيعها دون أن يدري ولكن ...

وقال "مارتن" في عطف ...

- ولكن ماذا؟

- ولكني خائفة فقد يأخذ مني ستيوارت المبلغ دون أن يسلمني الجواب. الواقع إني فقدت الثقة فيه.

وقال "مارتن وهو يربت على يدها:

- أنت تحتاجين يا عزيزتي إلى رجل يقوم بالمبادلة، وأنا على استعداد لتقديم خدماتي وأؤكد لك أن ستيوارت سيسلمني الخطاب وترددت سارة في بادئ الأمر ولكن مارتن استمر في الإلحاح حتى وافقت أخيراً.

وبعد أن ترك "مارتن" سارة مر بصديق له يعمل في تزييف الأوراق المالية واشترى منه بمبلغ عشرة جنيهات ألف ورقة مزيفة من فئة الجنيه. ولم يكن تزييفها دقيقاً ولكنها تخدم الغرض الذي يهدف إليه "مارتن" وفي الساعة الثامنة كانت "سارة" تنتظر في صالة فندق "ريدج"، وبعد أن تناولا مشروباً خفيفاً أعطته لفة صغيرة ملفوفة في ورق بني وأخرج ورقة وقلماً وبدأ يكتب ...

وقالت هي:

- ماذا تكتب؟

- صكاً أتعهد فيه أن أدفع لمسز "سارة برنكروفت" مبلغ ألف جنيه ... مقابل، مقابل ماذا؟ .. دعينا نقول .. مقابل بعض الخدمات، والآن هذا هو عنواني.

ورفضت سارة أن تأخذ العنوان ولكنه أسكتها بابتسامة وقام

- أستأذن الآن فعلي أن أذهب لمقابلة صديقك، وميعادي معكِ هناك في العاشرة هذه الليلة.

وأمسك باللفة ثم خرج.

وفي شقته فتح اللفة ووجد فيها ألف جنيه أصيل أخذ منها عشرين جنيهاً، ثم وضع بقية النقود الأصلية في خزانته. وأخرج من مكتبه النقود المزيفة وقسمها إلى حزم وفوق وتحت كل حزمة وضع جنيهين أصيلين من العشرين جنيهاً.

وفي شقة "ستيوارت" لم يصادف "مارتن" أي عناء. وتطلع "ستيوارت" إلى النقود برهة وجيزة فطالعته النقود الأصلية في أول وآخر كل حزمة ولم يلبث حتى أعطى "مارتن" الخطاب.

وعاد "مارتن" إلى شقته ولف بقية النقود الأصلية وقدرها 980 جنيهاً في ورقها وأخذها معه وهو متجه إلى ميعاد "سارة" في فندق "ريدج" في العاشرة.

وعندما رأى "سارة" سلّمها الخطاب في هدوء. وفحصت هي الخطاب وتنفست تنفساً عريضاً، ووضعته في حقيبتها. وابتسم هو وأعطاها بقية النقود وهو يقول:

- إن خطابك لم يكلف إلاّ عشرين جنيهاً وها هي بقية نقودك. واستولت عليه الدهشة.

- ولكن كيف، كيف استطعت أن تفعل ذلك؟

وأخبرها في تواضع عمّا حدث، وعندما انتهى استغرقت "سارة" في الضحك بينما أشرق وجه "مارتن" وقال:

- إني أنصحك أن تحرقي الخطاب في الحال، ويمكنك أن تحرقيه في المدفأة في الغرفة المجاورة لنا.

وقامت سارة وأمسكت حقيبتها وخرجت قاصدة الغرفة المجاورة.

وجلس "مارتن" ينتظر رجوعها والسعادة تغمر قلبه، ولكن بدأ القلق يستولي عليه حين مضت عشر دقائق ولم تعد "سارة"، وذهب يبحث عنها وأخبره كاتب الاستعلامات أن السيدة رمت ورقة في النار، وانتظرت حتى احترقت ثم طلبت تاكسي وغادرت الفندق.

ومشى "مارتن" إلى بيته والأفكار تتزاحم في رأسه.

وفي صباح اليوم التالي زاره مندوب إحدى الشركات القانونية وأخبره المندوب أن عميلته مسز "بيرونكروفت" قد أدت لمارتن خدمات معينة لا ترغب في تحديدها، وأن "مارتن" مدين لها بمبلغ ألف جنيه مقابل هذه الخدمات، وأبرز الصك الذي كتبه "مارتن" بخط يده. وأضاف المندوب أن عميلته ترغب في تحصيل المبلغ في الحال، وإلا اضطرت إلى اتخاذ الإجراءات القانونية لتحقيق هذا الهدف.

وهز "مارتن" رأسه وأدرك أن لا مفر له من الدفع، وكتب شيكاً بالمبلغ المطلوب وتسلم الصك من المندوب.

وبعد أن خرج المندوب جلس "مارتن" ساهماً، لقد خدم الفتاة وحفظ لها نقودها وماذا كان جزاؤه؟ سرقته، نعم سرقت منه مبلغ ألف جنيه إلى جانب العشرة الجنيهات التي دفعها ثمناً للنقود المزيفة. أليست المرأة مخلوقاً متقلباً لا يمكن الاعتماد عليه؟ أليس من الخبر دائماً أن يحترس الإنسان من المرأة؟

وقام "مارتن" إلى خزانته وفتحها وأخرج منها نسخة فوتوغرافية من خطاب "سارة"، نسخة كان قد صوّرها في الليلة الماضية عقب قراءة الخطاب.

وأمسك بالنسخة في يده، ستدفع "سارة" مبلغ الألف جنيه والعشر الجنيهات. ستدفع كل ذلك عن رضا ثمناً لهذه النسخة من الخطاب.

هذه القصة تصور حدثاً يمكن أن نلخصه فيما يلي:

أولاً: نتعرف على رجل يدعى "مارتن" وهو محتال يتعرف على سيدة تدعى "مسز بيرونكروفت" ويعلم أنها في مأزق لأن عشيقها يرفض أن يرد إليها خطاباً من خطاباتها إلاّ إذا دفعت له ألف جنيه وهي تخشى أن لا يرد إليها الخطاب حتى ولو دفعت له هذا المبلغ المطلوب، وهذا هو الموقف أو بداية الحدث.

ثانياً: يتطوع "مارتن" بمساعدتها وفعلاً تعطيه "مسز بيرونكروفت" الألف جنيه ويكتب لها صكاً يتعهد فيه بأن يدفع لها مبلغ ألف جنيه مقابل بعض الخدمات. ويذهب "مارتن" فيحصل على ألف جنيه مزيفة ثم يرتبها مع عشرين جنيهاً أصلية بحيث يختفي تزييفها ويسلمها لعشيق مسز "بيرونكروفت" الذي يسلمه بدوره الخطاب. وبعد ذلك يذهب "مارتن" لمقابلة "مسز بيرونكروفت" فيرد إليها ما تبقى من نقودها وهو مبلغ 980 جنيهاً كما يرد إليها خطابها ويشرح لها ما حدث وتشكره مسز "بيرونكروفت" وتذهب لتحرق الخطاب ولكنها لا تعود ويعلم "مارتن" أنها غادرت الفندق وهذا هو تطور الموقف أو وسط الحدث.

ثالثاً: في اليوم التالي يحضر وكيل "مسز بيرونكروفت" لمقابلة "مارتن" ويطالبه بأن يفي بالتعهد الذي أخذه على نفسه وهو أن يدفع لموكلته مبلغ ألف جنيه ويريه الصك الذي كتبه بيده. ويدفع "مارتن" المبلغ ثم نعلم أنه كان قد أخذ صورة لخطابها لعشيقها وأنها ستضطر طبعاً إلى أن تدفع مبلغ الألف جنيه حتى يعطيها صورة الخطاب - وهذه هي نهاية الحدث.

والحدث كما يبدو يتطور من نقطة إلى أخرى، أي أن كل جزء فيه يبدو وكأنه يؤدي إلى الجزء الذي يليه، فنحن نعلم أنه كنتيجة لمقابلة "مارتن" (لمسز بيرونكروفت) استرد الخطاب وأعاده إلى السيدة كما أعاد إليها نقودها كاملة تقريباً، وهذا عمل نبيل وخاصة إذا صدر عن محتال مثل "مارتن" ونحن نعلم أيضاً أنه كنتيجة لحصول (مسز بيرونكروفت) على خطابها استغلت الصك الذي كتبه "مارتن" وابتزت منه ألف جنيه، ولكن خطتها لم تنجح تماماً لأن مارتن يملك صورة من خطابها ويستطيع بهذه الصورة أن يستعيد نقوده.

نحن نعلم كل هذه الأشياء وهي تبدو كما قلت متصلة ببعضها اتصالاً وثيقاً، فكل منها يبدو مترتباً على ما سبقه ومؤدياً إلى ما يليه، ومع ذلك فالحدث لا يقنعنا. وقد تكون كل هذه الأشياء التي ترويها القصة قد حدثت بالفعل ولكنها مع ذلك لا تقنعنا، لأن الكاتب في روايته لها قد فشل في الإجابة على سؤال مهم وهو، لما حدثت كل هذه الأشياء؟

"فمارتن" محتال محترف له في مهنة الاحتيال خمس وعشرين عاماً وتسنح له فرصة ذهبية للاستيلاء على ألف جنيه وخدمة السيدة في نفس الوقت، ومع ذلك لا ينتهز هذه الفرصة، فهو يحتال على العشيق لا ليأخذ النقود لنفسه، بل ليعيدها إلى السيدة ومعها الخطاب.

ونحن نعلم أن (مسز بيرونكروفت) سيدة متزوجة وأن زوجها غني وأنها مخلصة في رغبتها في استرداد خطابها من عشيقها، وأنها سلّمت ألف جنيه لمارتن رغم أنه بالنسبة إليها رجل غريب تكاد لا تعرفه، وأنها لم تطلب منه صكاً أو إيصالاً بالمبلغ وإنما هو الذي تطوع بكتابة ذلك الصك، وكل هذا يدل على أنها أمينة أو على الأقل لا يدل على أنها محتالة، ولذلك فنحن نتساءل لماذا تحتال على "مارتن" وتطالبه بالألف جنيه التي تعهد بدفعها في الصك؟

ونحن نتساءل أيضاً لماذا أخذ "مارتن" صورة لخطاب (مسز بيرونكروفت) إلى عشيقها؟ ألكي يبتز أموالها في المستقبل؟ إن الكاتب يخبرنا أن "مارتن" سيستخدم صورة الخطاب في استرداد الألف جنيه التي دفعها فحسب، أي أنه لم يكن ينوي في الأصل ابتزاز أموال السيدة. فلماذا أخذ صورة الخطاب إذن؟ وإذا كان يريد ابتزاز أموالها فلماذا أعاد إليها 980 جنيه مع أنه لم يكن بحاجة إلى أن يفعل ذلك؟ كل هذا أسئلة يفشل الكاتب في الإجابة عليها، بل أنه لا يحاول الإجابة عليها على الإطلاق، ولذلك فرغم ما يبدو من ترابط بين أجزاء الحديث الذي تصوره هذه القصة فهي في الحقيقة غير مترابطة. لأننا لا نعلم السبب في وقوعها بالكيفية التي وقعت بها القصة. ومن ثم فنحن لا نستطيع أن نقول إن بداية الحدث تؤدي بالضرورة إلى الوسط وأن الوسط يؤدي بالضرورة إلى النهاية.

أي أن الحدث الذي تصوره هذه القصة لا يمكن اعتباره حدثاً متكاملاً له وحدة.

فالحدث هو تصوير الشخصية وهي تعمل .. والكاتب في هذه القصة قد اقتصر على تصوير الفعل دون الفاعل، ولذلك جاء الحدث ناقصاً.

ولما كانت القصة - أية قصة - يجب أن تصوّر حدثاً متكاملاً له وحدة، لذلك لا يمكن اعتبار هذه القصة قصة على الإطلاق، فهي في الواقع مجرد خبر من الممكن أن تنشره احدى الصحف في صفحة الحوادث بعنوان "محتال يساعد سيدة فيحتال عليه"، خبر ظريف يمكن أن تقرأه وتنساه، ويمكن أن تقرأه ثم تلخصه وترويه لأحد أصدقائك دون أن يفقد معناه. لأنه إنما يزودك بالمعلومات، بأن كذا وكذا قد حدث، تماماً كما تستطيع أن تلخص صفحة في كتاب من كتب الجغرافيا، فتقول مثلاً إن الأرض كروية وإن سرعة دورانها حول نفسها كذا، فهذه كلها أخبار قد تكون مترابطة بعضها مع البعض ترابطاً وثيقاً، ولكنها لا تعدو أن تكون مجرد أخبار، ولذلك يمكن أن تلخصها وتنقلها بوسيلة أو أخرى دون أن تفقد مدلولها. ولكن لا تستطيع أن تفعل الشيء مع القصة الجيدة، لا تستطيع أن تلخصها وترويها دون أن تفقد معناها، لأن القصة لا تعنى بنقل الخبر بل بتصوير حدث متكامل له وحدة، والحدث كما سبق أن قلت هو تصوير الشخصية وهي تعمل.

ولكن لأجل أن يتضح لنا هذا المفهوم سوف نقرأ القصة التالية "لجي دي موباسان" بعنوان (ضوء القمر) وذلك في الأسبوع القادم إن شاء الله.

أخوكم

حسن خليل

حسن خليل
20-12-05, 07:15 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

نظراً لأن القصة تحتوي على بعض الكلمات غير المناسبة وغير المقبولة في ديننا الحنيف، قمت باستبدال بعضها وحذف البعض الآخر. فالمقصود هنا هو توضيح الحدث الكامل وتصوير الشخصية وأرجو أن لا تفسروا طرحي لهذه القصة لأي هدف آخر والآن دعونا نستعرض القصة.

في ضوء القمر:

كان القس مارينيان لديه خبرة طويلة، وذا نفس متسامية (حسب ما يدعي طبعا). وكان طويلاً نحيلاً متعصباً إلى حد ما. ولكنه كان يعامل زملائه باحترام.

وكان أحياناً يتساءل وهو يتمشى في ممر حديقته في البلدة الصغيرة التي يعمل فيها "لماذا خلقنا الله" ويفكر جاهداً ويرضى عن نفسه في بعض الأحيان إذ يجد الجواب. ولم يكن القس "مارينيان" من ذلك النوع من الرجال الذي يهمس في خشوع "إن سبلك يا ربي أعظم من أن تدركها مدارك الرجال" بل كان يقول "أنا علي أن أبذل جهدي في طاعة الله".

وخيّل إليه أن كل شيء في هذه الدنيا خلق بمنطق مطلق جدير بالاعجاب، وأن هناك دائماً توازناً بين الأشياء ومسبباتها، فالشروق يبعث البهجة في نفس الإنسان وهو يستيقظ، وبظهور الشمس تساعد على نضج المحاصيل، والأمطار لترويها، والأمسيات ليستعد للنوم والليل الحالك للنوم. والفصول الأربعة تتفق تماماً وحاجيات الزراعة. وكان من المستحيل أن يداخل الشك "مارينيان" في أن الكون لا هدف له.

ولكنه كان يكره النساء لأنه يعتقد بأن المرأة هي أغوت الإنسان (وهذا اعتقاد خاطئ طبعاً).

وكانت له ابنة أخت تعيش مع أمها في منزل صغير قريب من منزله وكان قد يريد أن يجعل منها راهبة. وكانت رقيقة خفيفة تتعمد إغاظته باستمرار. وكثيراً ما كان يحدثها عن الله، وهو إلى جوارها في الحقول ونادراً ما أنصتت إليه. كانت تنظر إلى السماء والى العشب والى الزهور وعيناها تلتمعان بفرحة الحياة وكانت تجري أحياناً لتمسك بفراشة ثم تعود بها وهي تصيح "أنظر أنظر كم هي جميلة، بودي أن أقبلها".

وفي يوم من الأيام أخبرت مدبرة البيت "مارينيان" أن ابنة أخته قد اتخذت لنفسها عشيقاً.

وعانى مارينيان إحساساً مؤلماً. وقف مختنقاً والصابون يغطي وجهه وهو يحلق وعندما استعاد القدرة على الكلام صاح:

- كذب كذب .... أنت تكذبين يا "مالينا".

ولكن المرأة القروية وضعت يدها على قلبها وقالت:

- ليعاقبني الله إن كنت أكذب يا مارينيان إنها تذهب إليه كل ليلة بعد أن تنام أختك. وهما يتقابلان بجانب النهر. وما عليك إلا أن تذهب إلى هناك ما بين الساعة العاشرة ومنتصف الليل وستراها بعينيك.

وتوقف مارينيان عن حك ذقنه وبدأ يذرع الحجرة بسرعة كما يفعل عندما يستغرق في تفكير عميق. وعندما حاول أن يكمل حلاقة ذقنه جرح نفسه ثلاثة جروح امتدت من الأنف إلى الأذن.

وظل طوال اليوم ساكناً وقد امتلأ غضباً وثورة فإلى جانب كرهه الطبيعي لهذا شعر أن كرامته قد أهينت كمعلم. شعر أن طفلة قد خدعته وسخرت منه وسلبته شيئاً يملكه. شعر بهذا الحزن الذي يشعر به الوالدان حين تخبرهما ابنتهما أنها قد اختارت لنفسها زوجاً دون مشورتهما.

وبعد العشاء حاول أن يقرأ قليلاً ولكنه لم يستطع أن يكيف نفسه للقراءة وازداد غضباً على غضب. وعندما أعلنت الساعة العاشرة أخذ عصاه وهي عصا غليظة من خشب البلوط يحملها عادة حين يخرج ليلاً لزيارة المرضى. وابتسم وهو يرقب العصا الغليظة وقد استقرت في قبضة يده القوية. وأدار العصا في الهواء مهدداً ثم رفعها فجأة وهو يجز بأسنانه وانهال على كرسي فحطم ظهره.

وفتح باب بيته ليخرج ولكنه توقف عند بابه مبهوتا. كان بهاء القمر رائعاً، وأحس بما حوله وشعر فجأة أن جمال الليل الشاحب وبهاءه قد حرك قلبه. وفي حديقته الصغيرة التي سبحت في ضياء باهت عكست أشجار الفواكه ظلالها على ممر الحديقة، أغصان رقيقة من الخشب تكسوها الخضرة ومن الزهور المتسلقة على الحائط انبعثت رائحة لذيذة حلوة علقت كروح عطرة بالليل الدافئ الصحو.

وبدأ يتنفس تنفساً عميقاً. يحتسى الهواء كما يحتسي عاشق القهوة فنجانه. وسار ببطء مبهوراً حتى كاد ينسى ابنة أخته.

وعندما وصل إلى بقعة عالية وقف يرقب الوادي بأجمعه وقد امتد تحت بصره وبهاء القمر يحتضنه، وسحر الليل الهادئ الحنون يغرقه، ونقيق الضفادع يتردد في نغمات قصيرة، والبلابل عن بعد أشجاها القمر فغرّدت.

واستمر مارينيان يمشي وهو لا يعرف لم تخلت عنه شجاعته فقد شعر كما لو كان التعب والإرهاق قد تسربا إليه، وود لو يجلس أو يتوقف حيث هو ليحمد الله على مخلوقاته الجميلة.

وتحت بصره. حول منحنى النهر امتد صفان طويلان من الأشجار وفوق شطي النهر تكونت سحابة خفيفة بيضاء تخللتها أشعة القمر فأضفت عليها لون الفضة وبريقها.

وتوقف مارينيان من جديد وقد نفذ إلى أعماقه شعور قوي متزايد واستولى عليه شك وقلق وشعر أن سؤالاً من الأسئلة التي تلح عليه أحياناً يدور إذ ذاك في عقله.

ما سر هذا الكون، إذا كان الليل للنوم، للراحة، فلماذا كان أكثر سحراً من النهار، وأحلى من الغروب والشروق. وهذا الكوكب البطيء الخلاب الذي يغلب جماله على جمال الشمس، والذي يضيء الكائنات بنور رقيق يستعصي على الشمس .... هذا الكوكب لم يشرق لينير الظلال؟ ولم لا يأوي البلبل الصداح إلى النوم كغيره من الطيور ولم هذا الخمول الذي يغزو الجسد؟ ولم هذا الوشاح الذي ينسدل على الأرض، وهذا السحر الذي لا ينعم الإنسان إذ يأوي إلى فراشه في الليل؟ لمن خلق الله عز وجل هذا الجلال، هذا الفيض من الشعر الذي يتدفق من السماء إلى الأرض؟ ولم يجد مارينيان لهذه الأسئلة التي ثارت في نفسه جواباً.

ولكن إذ ذاك في طرف المرعى ظهر ظلان يمشيان جنباً إلى جنب تحت الأشجار المتعانقة الغارقة في الضباب الفضي.

وفجأة انتعشت الحياة في الأماكن المهجورة التي أحاطت بهما وبدا الشخصان وكأنهما كائن واحد. وقد اقتربا من مارينيان كإجابة حية على سؤاله.

وقف مارينيان مصعوقاً وقلبه ينبض بشدة. وقال لنفسه ربما خلق الله مثل الليلة مثلاً لحب الإنسان.

وتراجع بعيداً عنهما. وكانت فعلاً ابنة أخته. وكان مارينيان يتساءل الآن ... ألم يكن على وشك الخروج عن طاعة الله عز وجل؟

وهرب مارينيان مبهوتاً وهو يكاد يشعر بالخجل، كما لو كان اجتاز هيكلاً لا حق له في اجتيازه.


لو أنك حاولت أن تلخص الخبر الذي ترويه هذه القصة لقلت إن قسيساً يدعى مارينيان سمع أن ابنة أخته على علاقة بأحد الشبان فخرج ليضبطهما وتربص لهما في الحقول. وبعد مدى رآهما قادمين في ضوء القمر فخجل من نفسه وعاد إلى بيته.

خبر في ذاته تافه لا معنى له ولا يشبه القصة أو يعادلها في كثير أو قليل ومع ذلك فهو نفس الخبر الذي تحويه القصة، نفس الخبر الذي يعني الشيء الكثير عندما تقرأ القصة بأكملها. والسبب واضح فالخبر في القصة لم يعزل ويجرد كما عزل وجرد في الملخص. فنحن نعلم من هو "مارينيان" وما هي مشاعره بالنسبة للخالق وما هي احساساته بالنسبة للنساء. ونحن نعلم أنه دائم السؤال عن مظاهر الخليقة وأنه دائماً يجد سبباً لكل ظاهرة من هذه المظاهر. ونحن نعلم كيف كانت مشاعره عندما رأى ضوء القمر يغمر الحقول، وأنه حاول جاهداً أن يجد سبباً لهذا الجمال الذي يغمر الكون في ضوء القمر، إذ كان يعتقد أن الله عز وجل لا يخلق شيئاً دون سبب، وأنه عندما رأى ابنه أخته مع زوجها قادمين اهتدى إلى السبب. وأحس كما لو كان على وشك أن يطأ هيكلا حرّم عليه دخوله فعاد إلى بيته ... نحن نعلم كل هذه الأشياء وهي أشياء لا يمكن أن تنفصل عن الخبر الذي تنقله القصة لأنها السبب فيه ولذلك فإن الخبر بدونها لا معنى له بل ولا جود له ...

والواقع أن هذه القصة لا تعني بنقل خبر على الإطلاق وإنما تعنى بتصوير حدث متكامل له وحدة، ولذلك فأنت لا يمكنك أن تلخصها أو أن ترويها.

والحدث الذي تصوره قصة "موباسان" ينقسم ككل حدث متكامل إلى مراحل ثلاث:

المرحلة الأولى: وهي البداية أو الموقف وتتكون من خطوط ثلاثة:

الخط الأول: ويصور مارينيان رجل ذو نفس متسامية يعتقد أن كل شيء خلقه الله لا بد وأن يكون له سبب، وهو يدرك هذه الأسباب ويفهمها جيداً.

الخط الثاني: ويصور كراهية مارينيان للنساء، لسحرهن الفتاك ولاغوائهن، ونحن لا نعلم أكثر من ذلك عن مارينيان. ولكننا نعلم ما يفي بالغرض.

أما الخط الثالث: فيصور إبنة أخت مارينيان التي أراد لها أن تكون راهبة ولكن قلبها مفعم بالرغبة في الحياة ولا نعلم أكثر من ذلك عنها ولكن ما نعلمه يفي بالغرض.

هذه الخطوط الثلاثة تمثل عوامل الحدث. وهي تسير متوازية ما دامت لم تتعد مرحلة البداية أو الموقف، ولكنها لا يمكن أن تظل متوازية إلى الأبد. فالقس مارينيان كتشف أن ابنة أخته على علاقة بأحد الشبان وأنها تخرج للقائه كل مساء، وهنا تبدأ المرحلة الثانية وهي مرحلة الوسط أو التشابك. فنلاحظ أن الخط الثاني، وهو الذي يصور كراهية مارينيان للنساء والحب، يبدأ يتشابك مع الخط الثالث، وهو الذي يصور رغبة مارينيان في أن تكون ابنة اخته راهبة، لذلك نجه يثور ويمسك بعصاه ويهشم بها الكرسي ثم يصمم على الخروج ليضع حداً لهذا الغرام.

ولكنه ما يكاد يفتح الباب ليخرج حتى يقف على العتبة وقد راعه بهاء القمر، ولما كان ذا نفس متسامية فقد أحس فجأة بالحنان يملأ قلبه والرقة تغمر نفسه، فوقف مبهوتاً يتأمل جمال الليل الهادئ الشاحب وعند هذه النقطة يبدأ الخط الأول وهو الذي يصور تدين مارينيان ونفسه المتسامية في التشابك مع الخطين الثاني والثالث. ويتجول مارينيان بين الحقول، ويزداد تأمله لجمال الليل في ضوء القمر ويزداد قلبه امتلاءً بالخشوع وتزداد نفسه امعاناً في الرقة. ويتساءل كعادته عندما لا يفهم أمراً من أمور الله. عن السر في وجود هذا الجمال، ما دام الليل قد جعل للنوم. ويحتار وتشتد حيرته وعند ذاك يظهر على بعد ظلان يسيران جنباً إلى جنب، تحت الأشجار المتعانقة.

وفجأة خيّل إلى مارينيان أن الحياة قد انتعشت في الطبيعة المهجورة التي أحاطت بهما. واقتربا من مارينيان كاجابة حية على سؤاله. وتراجع بعيداً عنهما وكانت فعلاً ابنة اخته وراح مارينيان يتساءل "ألم يكن على وشك الخروج على طاعة الله"؟ وهرب مبهوتاً وهو يكاد يشعر بالخجل، كما لو كان قد اجتاز شيئاً لا يحق له اجتيازه وهذه هي المرحلة الثالثة أو نهاية الحدث .. وهي كما ترى ليست شيئاً مفروضاً على الحدث من الخارج بل هي النتيجة المحتومة لجميع عوامل الحدث كما عرفناها في مرحلة البداية. مارينيان ونفسه المتسامية واعتقاده الراسخ أن كل شيء خلقه الله لا بد وأن يكون له سبباً. وأيضاً كرهه للنساء، ثم ابنة اخته اليافعة ذات القلب المليء بالرغبة في الحياة، كل هذه العوامل قد تشابكت وتفاعلت بعضها مع البعض إلى أن انتهت إلى نقطة واحدة، تكامل بها الحدث وتحققت وحدته.

وكل هذه العوامل، كما هو واضح تتضمن الفعل والفاعل أو الشخصية وهي تعمل. ولذلك كانت قصة موباسان قصة بالمعنى الحقيقي، لأنها تصور حدثاً متكاملاً له وحدة. فلأجل أن تتحقق للحدث وحدته يجب ألا يقتصر على تصوير الفعل دون الفاعل لأن الفعل والفاعل أو الحدث والشخصية شيء واحد لا يمكن تجزئته فإن اقتصر تصويرنا على الفعل وحده لما استطعنا أن نصور الحدث كاملاً، بل لما استطعنا أن نصور الحدث على الإطلاق، إذ يجيء ما نكتب خبراً، وإن كنا نريد له أن يكون قصة ... .

أعيد وأكرر بأن الهدف من هذه القصة هو بيان تصوير الحدث المتكامل وحاولت قدر المستطاع حذف ما يمكنني حذفه وتغيير بعض المسميّات بقدر لا يؤثر على سير تصوير الحدث.

وفي الحلقة الثالثة سوف نتكلم عن أحد عناصر بناء القصة وهو (المعنى).

أخوكم

حسن خليل

الفارس910
06-07-06, 08:08 PM
الله يعطيك العافيه

حسن خليل
06-07-06, 08:10 PM
الله يعطيك العافيه

الله يعافيك اخوي وأشكرك على المرور للموضوع

*أسيرة الذكرى*
26-08-07, 06:18 PM
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

يعطيك العافية اخوي

ماقصـــــرررررت

ابداااااااااااااع حقيقي ..

جزاك الله كل خير

:)

حسن خليل
27-08-07, 11:32 AM
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

يعطيك العافية اخوي

ماقصـــــرررررت

ابداااااااااااااع حقيقي ..

جزاك الله كل خير

:)

الله يعافيكِ ويجزاكِ خير أختي أسيرة الذكرى

وألف شكر لكِ على هذا الإطراء

دُمتِ بحفظ الله ورعايته

:)

نسمة مسا
05-10-07, 11:16 AM
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
جزاك الله كل خير
والله يعطيك العافية
دائما متميزبطرحك للمواضيع
ربي يبارك فيك

حسن خليل
05-10-07, 01:02 PM
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
جزاك الله كل خير
والله يعطيك العافية
دائما متميزبطرحك للمواضيع
ربي يبارك فيك

ويجزاكِ خير ويعافيكِ ربي ويبارك فيكِ

وأشكركِ جزيل الشكر على هذه المداخلة وتعليقك الرائع على الموضوع

تقبلي احترامي وتقديري

عناد الجروح
08-10-07, 02:12 PM
اخي حسن خليل
موضوع رائع اتحفتنا به وشخصيا استفدت مما قرات
وفي انتظار بقية التكملة
الله يعطيك الف عافية علي مجهوداتك الرائعه التي ترقي بنا دائما الي مافيه خير لنا
لك فائق تقديري واحترامي
عناد الجروح

حسن خليل
08-10-07, 02:36 PM
اخي حسن خليل
موضوع رائع اتحفتنا به وشخصيا استفدت مما قرات
وفي انتظار بقية التكملة
الله يعطيك الف عافية علي مجهوداتك الرائعه التي ترقي بنا دائما الي مافيه خير لنا
لك فائق تقديري واحترامي
عناد الجروح

أشكركِ جزيل الشكر أختي عناد الجروح على مداخلتك والثناء الرائع على الموضوع.

كما أني سررت كثيراً لاستفادتكِ من قراءة الموضوع. :)

والبقية تجدينها أختي بالموضوع المثبت في أعلى القسم باسم (الموضوعات المميزة في قسم القصص والروايات).

ولكِ فائق احترامي وتقديري