حسن خليل
14-12-05, 06:08 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
لمن فاتته الحلقة الأولى هذا هو الرابط:
http://www.qassimy.com/vb/showthread.php?t=54709
الحلقة الثانية عن بناء القصة:
ب - الشخصيات
في كثير من الأحيان ينشأ الحدث عن موقف معين ثم يتطور إلى نهاية معينة ومع ذلك يظل الحدث ناقصاً. فتطوره من نقطة إلى أخرى إنما يفسر لنا كيف وقع ولكنه لا يفسر لنا لم وقع. فلكي يستكمل الحدث وحدته، أي لكي يصبح حدثاً كاملاً، يجب أن لا يقتصر الخبر على الإجابة على الأسئلة الثلاث المعرفة وهي كيف وقع وأين ومتى؟ بل يجب أن يجيب على سؤال رابع مهم وهو لم وقع؟ والإجابة على هذا السؤال تتطلب البحث عن الدافع أو الدوافع التي أدت إلى وقع الحدث بالكيفية التي وقع بها. والبحث عن الدوافع يتطلب بدوره التعرف على الشخص أو الأشخاص الذين فعلوا الحدث أو تأثروا به.
فمن البديهي أنه ما من حدث يقع بالطريقة المعينة التي وقع بها وإلا كان نتيجة لوجود شخص معين أو أشخاص معينين، كما أن وجود شخص معين أو أشخاص معينين يترتب عليه وقوع الحدث بطريقة معينة. وبذلك يكون من الخطأ الفصل أو التفرقة بين الشخصية وبين الحدث، لأن الحدث هو الشخصية وهي تعمل أو هو الفاعل وهو يفعل. فلو أن الكاتب اقتصر على تصوير الفعل دون الفاعل لكانت قصته أقرب إلى الخبر المجرد من القصة، لأن القصة إنما تصوّر حدثاً متكاملاً له وحدة، ووحدة الحدث لا تتحقق إلاّ بتصوير الشخصية وهي تعمل، أي عندما يجيب الكاتب على أسئلة أربعة وهي: كيف وأين ومتى ولِم وقع الحدث. ولكي ندرك ما نعني بذلك دعونا نقرأ القصة التالية بعنوان:
شرف اللصوص.
كان "مارتن" موضع ثقة في بلده "ملبورن".
وقد مارس المهنة لمدة خمس وعشرين عاماً ولم يزاول يوماً عملاً من الأعمال الشاقة ولذلك كان يشعر أنه ضرب رقم قياسياً في ذلك الصدد والآن وهو في الثانية والخمسين من عمره كان قد اعتزل العمل أو كاد، وكان يقضي أغلب وقته يتمتع بهوايته في الغرفة التي أعدها للتصوير الفوتوغرافي في شقته.
وكان ما يزال يقوم ببعض الأعمال، ولكن دون أن يرهق نفسه، فحسابه في البنك حساب ضخم. ولم يتجاوز عدد العمليات التي يقوم بها سنوياً ثلاث عمليات.
وفي بعض الأحيان كان من الممكن أن يكون رقيق القلب كما كان مثلاً مع "ساره بيرنكروفت".
كان قد قابلها في صالة فندق أوستريا بينما كان يشرب القهوة بعد الانتهاء من الغداء.
ولمدة نصف ساعة ظل يراقبها بصورة غير ملحوظة وبعد ذلك استدعاها الخادم لترد على مكالمة تليفونية وغابت عن عينه فترة من الوقت ولمح الدموع في عينيها حين عادت، وبينما كانت تجمع حاجياتها لتخرج من المكان اتجه هو إلى مائدتها وقدّم إليها نفسه في هدوء، وأعرب عن رغبته في مساعدتها.
وفي بادئ الأمر ابتسمت ابتسامة واهية وهي تهز رأسها ثم استمعت إليه وهو يتكلم واستسلمت لكلماته المؤثرة، والتي كانت من أسباب نجاح "مارتن" في مهنته. وسمحت له باصطحابها إلى مائدته وأفضت له بمشكلتها.
قالت أنها متزوجة برجل عمره ضعف عمرها وأنها تعلقت برجل غيره أثناء رحلة من رحلات الزوج إلى انجلترا، ولكنها أدركت سريعاً مدى حماقتها وقطعت علاقاتها بذلك الرجل ولكن من سوء الحظ أنها كتبت لذلك الرجل خطاباً. ولم تدرك إلاّ بعد ذلك بفترة خطورة هذا الخطاب وخطورة وقوعه في يد زوجها. ولكي تزيل القلق الذي استولى عليها اتصلت بالرجل تليفونياً، وطلبت منه إعادة الخطاب إليها .. وفي بادئ الأمر وافق الرجل على ذلك واتفقا على أن يتقابلا في فندق أوستريا ولكنه لم يحضر، وتكلم أخيراً في التليفون ليساومها بصراحة على الخطاب وحد مبلغ ألف جنيه ثمناً للخطاب نظراً لغنى زوجها.
وقال "مارتن" في رقة:
- وهل لديك ألف جنيه؟
وهزت "سارة" رأسها.
- ليس زوجي بالرجل الكريم، وأنا دائماً في حاجة إلى نقود، ولكني أستطيع أن أجمع ألف جنيه، فعندي بعض المجوهرات وأستطيع أن أبيعها دون أن يدري ولكن ...
وقال "مارتن" في عطف ...
- ولكن ماذا؟
- ولكني خائفة فقد يأخذ مني ستيوارت المبلغ دون أن يسلمني الجواب. الواقع إني فقدت الثقة فيه.
وقال "مارتن وهو يربت على يدها:
- أنت تحتاجين يا عزيزتي إلى رجل يقوم بالمبادلة، وأنا على استعداد لتقديم خدماتي وأؤكد لك أن ستيوارت سيسلمني الخطاب وترددت سارة في بادئ الأمر ولكن مارتن استمر في الإلحاح حتى وافقت أخيراً.
وبعد أن ترك "مارتن" سارة مر بصديق له يعمل في تزييف الأوراق المالية واشترى منه بمبلغ عشرة جنيهات ألف ورقة مزيفة من فئة الجنيه. ولم يكن تزييفها دقيقاً ولكنها تخدم الغرض الذي يهدف إليه "مارتن" وفي الساعة الثامنة كانت "سارة" تنتظر في صالة فندق "ريدج"، وبعد أن تناولا مشروباً خفيفاً أعطته لفة صغيرة ملفوفة في ورق بني وأخرج ورقة وقلماً وبدأ يكتب ...
وقالت هي:
- ماذا تكتب؟
- صكاً أتعهد فيه أن أدفع لمسز "سارة برنكروفت" مبلغ ألف جنيه ... مقابل، مقابل ماذا؟ .. دعينا نقول .. مقابل بعض الخدمات، والآن هذا هو عنواني.
ورفضت سارة أن تأخذ العنوان ولكنه أسكتها بابتسامة وقام
- أستأذن الآن فعلي أن أذهب لمقابلة صديقك، وميعادي معكِ هناك في العاشرة هذه الليلة.
وأمسك باللفة ثم خرج.
وفي شقته فتح اللفة ووجد فيها ألف جنيه أصيل أخذ منها عشرين جنيهاً، ثم وضع بقية النقود الأصلية في خزانته. وأخرج من مكتبه النقود المزيفة وقسمها إلى حزم وفوق وتحت كل حزمة وضع جنيهين أصيلين من العشرين جنيهاً.
وفي شقة "ستيوارت" لم يصادف "مارتن" أي عناء. وتطلع "ستيوارت" إلى النقود برهة وجيزة فطالعته النقود الأصلية في أول وآخر كل حزمة ولم يلبث حتى أعطى "مارتن" الخطاب.
وعاد "مارتن" إلى شقته ولف بقية النقود الأصلية وقدرها 980 جنيهاً في ورقها وأخذها معه وهو متجه إلى ميعاد "سارة" في فندق "ريدج" في العاشرة.
وعندما رأى "سارة" سلّمها الخطاب في هدوء. وفحصت هي الخطاب وتنفست تنفساً عريضاً، ووضعته في حقيبتها. وابتسم هو وأعطاها بقية النقود وهو يقول:
- إن خطابك لم يكلف إلاّ عشرين جنيهاً وها هي بقية نقودك. واستولت عليه الدهشة.
- ولكن كيف، كيف استطعت أن تفعل ذلك؟
وأخبرها في تواضع عمّا حدث، وعندما انتهى استغرقت "سارة" في الضحك بينما أشرق وجه "مارتن" وقال:
- إني أنصحك أن تحرقي الخطاب في الحال، ويمكنك أن تحرقيه في المدفأة في الغرفة المجاورة لنا.
وقامت سارة وأمسكت حقيبتها وخرجت قاصدة الغرفة المجاورة.
وجلس "مارتن" ينتظر رجوعها والسعادة تغمر قلبه، ولكن بدأ القلق يستولي عليه حين مضت عشر دقائق ولم تعد "سارة"، وذهب يبحث عنها وأخبره كاتب الاستعلامات أن السيدة رمت ورقة في النار، وانتظرت حتى احترقت ثم طلبت تاكسي وغادرت الفندق.
ومشى "مارتن" إلى بيته والأفكار تتزاحم في رأسه.
وفي صباح اليوم التالي زاره مندوب إحدى الشركات القانونية وأخبره المندوب أن عميلته مسز "بيرونكروفت" قد أدت لمارتن خدمات معينة لا ترغب في تحديدها، وأن "مارتن" مدين لها بمبلغ ألف جنيه مقابل هذه الخدمات، وأبرز الصك الذي كتبه "مارتن" بخط يده. وأضاف المندوب أن عميلته ترغب في تحصيل المبلغ في الحال، وإلا اضطرت إلى اتخاذ الإجراءات القانونية لتحقيق هذا الهدف.
وهز "مارتن" رأسه وأدرك أن لا مفر له من الدفع، وكتب شيكاً بالمبلغ المطلوب وتسلم الصك من المندوب.
وبعد أن خرج المندوب جلس "مارتن" ساهماً، لقد خدم الفتاة وحفظ لها نقودها وماذا كان جزاؤه؟ سرقته، نعم سرقت منه مبلغ ألف جنيه إلى جانب العشرة الجنيهات التي دفعها ثمناً للنقود المزيفة. أليست المرأة مخلوقاً متقلباً لا يمكن الاعتماد عليه؟ أليس من الخبر دائماً أن يحترس الإنسان من المرأة؟
وقام "مارتن" إلى خزانته وفتحها وأخرج منها نسخة فوتوغرافية من خطاب "سارة"، نسخة كان قد صوّرها في الليلة الماضية عقب قراءة الخطاب.
وأمسك بالنسخة في يده، ستدفع "سارة" مبلغ الألف جنيه والعشر الجنيهات. ستدفع كل ذلك عن رضا ثمناً لهذه النسخة من الخطاب.
هذه القصة تصور حدثاً يمكن أن نلخصه فيما يلي:
أولاً: نتعرف على رجل يدعى "مارتن" وهو محتال يتعرف على سيدة تدعى "مسز بيرونكروفت" ويعلم أنها في مأزق لأن عشيقها يرفض أن يرد إليها خطاباً من خطاباتها إلاّ إذا دفعت له ألف جنيه وهي تخشى أن لا يرد إليها الخطاب حتى ولو دفعت له هذا المبلغ المطلوب، وهذا هو الموقف أو بداية الحدث.
ثانياً: يتطوع "مارتن" بمساعدتها وفعلاً تعطيه "مسز بيرونكروفت" الألف جنيه ويكتب لها صكاً يتعهد فيه بأن يدفع لها مبلغ ألف جنيه مقابل بعض الخدمات. ويذهب "مارتن" فيحصل على ألف جنيه مزيفة ثم يرتبها مع عشرين جنيهاً أصلية بحيث يختفي تزييفها ويسلمها لعشيق مسز "بيرونكروفت" الذي يسلمه بدوره الخطاب. وبعد ذلك يذهب "مارتن" لمقابلة "مسز بيرونكروفت" فيرد إليها ما تبقى من نقودها وهو مبلغ 980 جنيهاً كما يرد إليها خطابها ويشرح لها ما حدث وتشكره مسز "بيرونكروفت" وتذهب لتحرق الخطاب ولكنها لا تعود ويعلم "مارتن" أنها غادرت الفندق وهذا هو تطور الموقف أو وسط الحدث.
ثالثاً: في اليوم التالي يحضر وكيل "مسز بيرونكروفت" لمقابلة "مارتن" ويطالبه بأن يفي بالتعهد الذي أخذه على نفسه وهو أن يدفع لموكلته مبلغ ألف جنيه ويريه الصك الذي كتبه بيده. ويدفع "مارتن" المبلغ ثم نعلم أنه كان قد أخذ صورة لخطابها لعشيقها وأنها ستضطر طبعاً إلى أن تدفع مبلغ الألف جنيه حتى يعطيها صورة الخطاب - وهذه هي نهاية الحدث.
والحدث كما يبدو يتطور من نقطة إلى أخرى، أي أن كل جزء فيه يبدو وكأنه يؤدي إلى الجزء الذي يليه، فنحن نعلم أنه كنتيجة لمقابلة "مارتن" (لمسز بيرونكروفت) استرد الخطاب وأعاده إلى السيدة كما أعاد إليها نقودها كاملة تقريباً، وهذا عمل نبيل وخاصة إذا صدر عن محتال مثل "مارتن" ونحن نعلم أيضاً أنه كنتيجة لحصول (مسز بيرونكروفت) على خطابها استغلت الصك الذي كتبه "مارتن" وابتزت منه ألف جنيه، ولكن خطتها لم تنجح تماماً لأن مارتن يملك صورة من خطابها ويستطيع بهذه الصورة أن يستعيد نقوده.
نحن نعلم كل هذه الأشياء وهي تبدو كما قلت متصلة ببعضها اتصالاً وثيقاً، فكل منها يبدو مترتباً على ما سبقه ومؤدياً إلى ما يليه، ومع ذلك فالحدث لا يقنعنا. وقد تكون كل هذه الأشياء التي ترويها القصة قد حدثت بالفعل ولكنها مع ذلك لا تقنعنا، لأن الكاتب في روايته لها قد فشل في الإجابة على سؤال مهم وهو، لما حدثت كل هذه الأشياء؟
"فمارتن" محتال محترف له في مهنة الاحتيال خمس وعشرين عاماً وتسنح له فرصة ذهبية للاستيلاء على ألف جنيه وخدمة السيدة في نفس الوقت، ومع ذلك لا ينتهز هذه الفرصة، فهو يحتال على العشيق لا ليأخذ النقود لنفسه، بل ليعيدها إلى السيدة ومعها الخطاب.
ونحن نعلم أن (مسز بيرونكروفت) سيدة متزوجة وأن زوجها غني وأنها مخلصة في رغبتها في استرداد خطابها من عشيقها، وأنها سلّمت ألف جنيه لمارتن رغم أنه بالنسبة إليها رجل غريب تكاد لا تعرفه، وأنها لم تطلب منه صكاً أو إيصالاً بالمبلغ وإنما هو الذي تطوع بكتابة ذلك الصك، وكل هذا يدل على أنها أمينة أو على الأقل لا يدل على أنها محتالة، ولذلك فنحن نتساءل لماذا تحتال على "مارتن" وتطالبه بالألف جنيه التي تعهد بدفعها في الصك؟
ونحن نتساءل أيضاً لماذا أخذ "مارتن" صورة لخطاب (مسز بيرونكروفت) إلى عشيقها؟ ألكي يبتز أموالها في المستقبل؟ إن الكاتب يخبرنا أن "مارتن" سيستخدم صورة الخطاب في استرداد الألف جنيه التي دفعها فحسب، أي أنه لم يكن ينوي في الأصل ابتزاز أموال السيدة. فلماذا أخذ صورة الخطاب إذن؟ وإذا كان يريد ابتزاز أموالها فلماذا أعاد إليها 980 جنيه مع أنه لم يكن بحاجة إلى أن يفعل ذلك؟ كل هذا أسئلة يفشل الكاتب في الإجابة عليها، بل أنه لا يحاول الإجابة عليها على الإطلاق، ولذلك فرغم ما يبدو من ترابط بين أجزاء الحديث الذي تصوره هذه القصة فهي في الحقيقة غير مترابطة. لأننا لا نعلم السبب في وقوعها بالكيفية التي وقعت بها القصة. ومن ثم فنحن لا نستطيع أن نقول إن بداية الحدث تؤدي بالضرورة إلى الوسط وأن الوسط يؤدي بالضرورة إلى النهاية.
أي أن الحدث الذي تصوره هذه القصة لا يمكن اعتباره حدثاً متكاملاً له وحدة.
فالحدث هو تصوير الشخصية وهي تعمل .. والكاتب في هذه القصة قد اقتصر على تصوير الفعل دون الفاعل، ولذلك جاء الحدث ناقصاً.
ولما كانت القصة - أية قصة - يجب أن تصوّر حدثاً متكاملاً له وحدة، لذلك لا يمكن اعتبار هذه القصة قصة على الإطلاق، فهي في الواقع مجرد خبر من الممكن أن تنشره احدى الصحف في صفحة الحوادث بعنوان "محتال يساعد سيدة فيحتال عليه"، خبر ظريف يمكن أن تقرأه وتنساه، ويمكن أن تقرأه ثم تلخصه وترويه لأحد أصدقائك دون أن يفقد معناه. لأنه إنما يزودك بالمعلومات، بأن كذا وكذا قد حدث، تماماً كما تستطيع أن تلخص صفحة في كتاب من كتب الجغرافيا، فتقول مثلاً إن الأرض كروية وإن سرعة دورانها حول نفسها كذا، فهذه كلها أخبار قد تكون مترابطة بعضها مع البعض ترابطاً وثيقاً، ولكنها لا تعدو أن تكون مجرد أخبار، ولذلك يمكن أن تلخصها وتنقلها بوسيلة أو أخرى دون أن تفقد مدلولها. ولكن لا تستطيع أن تفعل الشيء مع القصة الجيدة، لا تستطيع أن تلخصها وترويها دون أن تفقد معناها، لأن القصة لا تعنى بنقل الخبر بل بتصوير حدث متكامل له وحدة، والحدث كما سبق أن قلت هو تصوير الشخصية وهي تعمل.
ولكن لأجل أن يتضح لنا هذا المفهوم سوف نقرأ القصة التالية "لجي دي موباسان" بعنوان (ضوء القمر) وذلك في الأسبوع القادم إن شاء الله.
أخوكم
حسن خليل
لمن فاتته الحلقة الأولى هذا هو الرابط:
http://www.qassimy.com/vb/showthread.php?t=54709
الحلقة الثانية عن بناء القصة:
ب - الشخصيات
في كثير من الأحيان ينشأ الحدث عن موقف معين ثم يتطور إلى نهاية معينة ومع ذلك يظل الحدث ناقصاً. فتطوره من نقطة إلى أخرى إنما يفسر لنا كيف وقع ولكنه لا يفسر لنا لم وقع. فلكي يستكمل الحدث وحدته، أي لكي يصبح حدثاً كاملاً، يجب أن لا يقتصر الخبر على الإجابة على الأسئلة الثلاث المعرفة وهي كيف وقع وأين ومتى؟ بل يجب أن يجيب على سؤال رابع مهم وهو لم وقع؟ والإجابة على هذا السؤال تتطلب البحث عن الدافع أو الدوافع التي أدت إلى وقع الحدث بالكيفية التي وقع بها. والبحث عن الدوافع يتطلب بدوره التعرف على الشخص أو الأشخاص الذين فعلوا الحدث أو تأثروا به.
فمن البديهي أنه ما من حدث يقع بالطريقة المعينة التي وقع بها وإلا كان نتيجة لوجود شخص معين أو أشخاص معينين، كما أن وجود شخص معين أو أشخاص معينين يترتب عليه وقوع الحدث بطريقة معينة. وبذلك يكون من الخطأ الفصل أو التفرقة بين الشخصية وبين الحدث، لأن الحدث هو الشخصية وهي تعمل أو هو الفاعل وهو يفعل. فلو أن الكاتب اقتصر على تصوير الفعل دون الفاعل لكانت قصته أقرب إلى الخبر المجرد من القصة، لأن القصة إنما تصوّر حدثاً متكاملاً له وحدة، ووحدة الحدث لا تتحقق إلاّ بتصوير الشخصية وهي تعمل، أي عندما يجيب الكاتب على أسئلة أربعة وهي: كيف وأين ومتى ولِم وقع الحدث. ولكي ندرك ما نعني بذلك دعونا نقرأ القصة التالية بعنوان:
شرف اللصوص.
كان "مارتن" موضع ثقة في بلده "ملبورن".
وقد مارس المهنة لمدة خمس وعشرين عاماً ولم يزاول يوماً عملاً من الأعمال الشاقة ولذلك كان يشعر أنه ضرب رقم قياسياً في ذلك الصدد والآن وهو في الثانية والخمسين من عمره كان قد اعتزل العمل أو كاد، وكان يقضي أغلب وقته يتمتع بهوايته في الغرفة التي أعدها للتصوير الفوتوغرافي في شقته.
وكان ما يزال يقوم ببعض الأعمال، ولكن دون أن يرهق نفسه، فحسابه في البنك حساب ضخم. ولم يتجاوز عدد العمليات التي يقوم بها سنوياً ثلاث عمليات.
وفي بعض الأحيان كان من الممكن أن يكون رقيق القلب كما كان مثلاً مع "ساره بيرنكروفت".
كان قد قابلها في صالة فندق أوستريا بينما كان يشرب القهوة بعد الانتهاء من الغداء.
ولمدة نصف ساعة ظل يراقبها بصورة غير ملحوظة وبعد ذلك استدعاها الخادم لترد على مكالمة تليفونية وغابت عن عينه فترة من الوقت ولمح الدموع في عينيها حين عادت، وبينما كانت تجمع حاجياتها لتخرج من المكان اتجه هو إلى مائدتها وقدّم إليها نفسه في هدوء، وأعرب عن رغبته في مساعدتها.
وفي بادئ الأمر ابتسمت ابتسامة واهية وهي تهز رأسها ثم استمعت إليه وهو يتكلم واستسلمت لكلماته المؤثرة، والتي كانت من أسباب نجاح "مارتن" في مهنته. وسمحت له باصطحابها إلى مائدته وأفضت له بمشكلتها.
قالت أنها متزوجة برجل عمره ضعف عمرها وأنها تعلقت برجل غيره أثناء رحلة من رحلات الزوج إلى انجلترا، ولكنها أدركت سريعاً مدى حماقتها وقطعت علاقاتها بذلك الرجل ولكن من سوء الحظ أنها كتبت لذلك الرجل خطاباً. ولم تدرك إلاّ بعد ذلك بفترة خطورة هذا الخطاب وخطورة وقوعه في يد زوجها. ولكي تزيل القلق الذي استولى عليها اتصلت بالرجل تليفونياً، وطلبت منه إعادة الخطاب إليها .. وفي بادئ الأمر وافق الرجل على ذلك واتفقا على أن يتقابلا في فندق أوستريا ولكنه لم يحضر، وتكلم أخيراً في التليفون ليساومها بصراحة على الخطاب وحد مبلغ ألف جنيه ثمناً للخطاب نظراً لغنى زوجها.
وقال "مارتن" في رقة:
- وهل لديك ألف جنيه؟
وهزت "سارة" رأسها.
- ليس زوجي بالرجل الكريم، وأنا دائماً في حاجة إلى نقود، ولكني أستطيع أن أجمع ألف جنيه، فعندي بعض المجوهرات وأستطيع أن أبيعها دون أن يدري ولكن ...
وقال "مارتن" في عطف ...
- ولكن ماذا؟
- ولكني خائفة فقد يأخذ مني ستيوارت المبلغ دون أن يسلمني الجواب. الواقع إني فقدت الثقة فيه.
وقال "مارتن وهو يربت على يدها:
- أنت تحتاجين يا عزيزتي إلى رجل يقوم بالمبادلة، وأنا على استعداد لتقديم خدماتي وأؤكد لك أن ستيوارت سيسلمني الخطاب وترددت سارة في بادئ الأمر ولكن مارتن استمر في الإلحاح حتى وافقت أخيراً.
وبعد أن ترك "مارتن" سارة مر بصديق له يعمل في تزييف الأوراق المالية واشترى منه بمبلغ عشرة جنيهات ألف ورقة مزيفة من فئة الجنيه. ولم يكن تزييفها دقيقاً ولكنها تخدم الغرض الذي يهدف إليه "مارتن" وفي الساعة الثامنة كانت "سارة" تنتظر في صالة فندق "ريدج"، وبعد أن تناولا مشروباً خفيفاً أعطته لفة صغيرة ملفوفة في ورق بني وأخرج ورقة وقلماً وبدأ يكتب ...
وقالت هي:
- ماذا تكتب؟
- صكاً أتعهد فيه أن أدفع لمسز "سارة برنكروفت" مبلغ ألف جنيه ... مقابل، مقابل ماذا؟ .. دعينا نقول .. مقابل بعض الخدمات، والآن هذا هو عنواني.
ورفضت سارة أن تأخذ العنوان ولكنه أسكتها بابتسامة وقام
- أستأذن الآن فعلي أن أذهب لمقابلة صديقك، وميعادي معكِ هناك في العاشرة هذه الليلة.
وأمسك باللفة ثم خرج.
وفي شقته فتح اللفة ووجد فيها ألف جنيه أصيل أخذ منها عشرين جنيهاً، ثم وضع بقية النقود الأصلية في خزانته. وأخرج من مكتبه النقود المزيفة وقسمها إلى حزم وفوق وتحت كل حزمة وضع جنيهين أصيلين من العشرين جنيهاً.
وفي شقة "ستيوارت" لم يصادف "مارتن" أي عناء. وتطلع "ستيوارت" إلى النقود برهة وجيزة فطالعته النقود الأصلية في أول وآخر كل حزمة ولم يلبث حتى أعطى "مارتن" الخطاب.
وعاد "مارتن" إلى شقته ولف بقية النقود الأصلية وقدرها 980 جنيهاً في ورقها وأخذها معه وهو متجه إلى ميعاد "سارة" في فندق "ريدج" في العاشرة.
وعندما رأى "سارة" سلّمها الخطاب في هدوء. وفحصت هي الخطاب وتنفست تنفساً عريضاً، ووضعته في حقيبتها. وابتسم هو وأعطاها بقية النقود وهو يقول:
- إن خطابك لم يكلف إلاّ عشرين جنيهاً وها هي بقية نقودك. واستولت عليه الدهشة.
- ولكن كيف، كيف استطعت أن تفعل ذلك؟
وأخبرها في تواضع عمّا حدث، وعندما انتهى استغرقت "سارة" في الضحك بينما أشرق وجه "مارتن" وقال:
- إني أنصحك أن تحرقي الخطاب في الحال، ويمكنك أن تحرقيه في المدفأة في الغرفة المجاورة لنا.
وقامت سارة وأمسكت حقيبتها وخرجت قاصدة الغرفة المجاورة.
وجلس "مارتن" ينتظر رجوعها والسعادة تغمر قلبه، ولكن بدأ القلق يستولي عليه حين مضت عشر دقائق ولم تعد "سارة"، وذهب يبحث عنها وأخبره كاتب الاستعلامات أن السيدة رمت ورقة في النار، وانتظرت حتى احترقت ثم طلبت تاكسي وغادرت الفندق.
ومشى "مارتن" إلى بيته والأفكار تتزاحم في رأسه.
وفي صباح اليوم التالي زاره مندوب إحدى الشركات القانونية وأخبره المندوب أن عميلته مسز "بيرونكروفت" قد أدت لمارتن خدمات معينة لا ترغب في تحديدها، وأن "مارتن" مدين لها بمبلغ ألف جنيه مقابل هذه الخدمات، وأبرز الصك الذي كتبه "مارتن" بخط يده. وأضاف المندوب أن عميلته ترغب في تحصيل المبلغ في الحال، وإلا اضطرت إلى اتخاذ الإجراءات القانونية لتحقيق هذا الهدف.
وهز "مارتن" رأسه وأدرك أن لا مفر له من الدفع، وكتب شيكاً بالمبلغ المطلوب وتسلم الصك من المندوب.
وبعد أن خرج المندوب جلس "مارتن" ساهماً، لقد خدم الفتاة وحفظ لها نقودها وماذا كان جزاؤه؟ سرقته، نعم سرقت منه مبلغ ألف جنيه إلى جانب العشرة الجنيهات التي دفعها ثمناً للنقود المزيفة. أليست المرأة مخلوقاً متقلباً لا يمكن الاعتماد عليه؟ أليس من الخبر دائماً أن يحترس الإنسان من المرأة؟
وقام "مارتن" إلى خزانته وفتحها وأخرج منها نسخة فوتوغرافية من خطاب "سارة"، نسخة كان قد صوّرها في الليلة الماضية عقب قراءة الخطاب.
وأمسك بالنسخة في يده، ستدفع "سارة" مبلغ الألف جنيه والعشر الجنيهات. ستدفع كل ذلك عن رضا ثمناً لهذه النسخة من الخطاب.
هذه القصة تصور حدثاً يمكن أن نلخصه فيما يلي:
أولاً: نتعرف على رجل يدعى "مارتن" وهو محتال يتعرف على سيدة تدعى "مسز بيرونكروفت" ويعلم أنها في مأزق لأن عشيقها يرفض أن يرد إليها خطاباً من خطاباتها إلاّ إذا دفعت له ألف جنيه وهي تخشى أن لا يرد إليها الخطاب حتى ولو دفعت له هذا المبلغ المطلوب، وهذا هو الموقف أو بداية الحدث.
ثانياً: يتطوع "مارتن" بمساعدتها وفعلاً تعطيه "مسز بيرونكروفت" الألف جنيه ويكتب لها صكاً يتعهد فيه بأن يدفع لها مبلغ ألف جنيه مقابل بعض الخدمات. ويذهب "مارتن" فيحصل على ألف جنيه مزيفة ثم يرتبها مع عشرين جنيهاً أصلية بحيث يختفي تزييفها ويسلمها لعشيق مسز "بيرونكروفت" الذي يسلمه بدوره الخطاب. وبعد ذلك يذهب "مارتن" لمقابلة "مسز بيرونكروفت" فيرد إليها ما تبقى من نقودها وهو مبلغ 980 جنيهاً كما يرد إليها خطابها ويشرح لها ما حدث وتشكره مسز "بيرونكروفت" وتذهب لتحرق الخطاب ولكنها لا تعود ويعلم "مارتن" أنها غادرت الفندق وهذا هو تطور الموقف أو وسط الحدث.
ثالثاً: في اليوم التالي يحضر وكيل "مسز بيرونكروفت" لمقابلة "مارتن" ويطالبه بأن يفي بالتعهد الذي أخذه على نفسه وهو أن يدفع لموكلته مبلغ ألف جنيه ويريه الصك الذي كتبه بيده. ويدفع "مارتن" المبلغ ثم نعلم أنه كان قد أخذ صورة لخطابها لعشيقها وأنها ستضطر طبعاً إلى أن تدفع مبلغ الألف جنيه حتى يعطيها صورة الخطاب - وهذه هي نهاية الحدث.
والحدث كما يبدو يتطور من نقطة إلى أخرى، أي أن كل جزء فيه يبدو وكأنه يؤدي إلى الجزء الذي يليه، فنحن نعلم أنه كنتيجة لمقابلة "مارتن" (لمسز بيرونكروفت) استرد الخطاب وأعاده إلى السيدة كما أعاد إليها نقودها كاملة تقريباً، وهذا عمل نبيل وخاصة إذا صدر عن محتال مثل "مارتن" ونحن نعلم أيضاً أنه كنتيجة لحصول (مسز بيرونكروفت) على خطابها استغلت الصك الذي كتبه "مارتن" وابتزت منه ألف جنيه، ولكن خطتها لم تنجح تماماً لأن مارتن يملك صورة من خطابها ويستطيع بهذه الصورة أن يستعيد نقوده.
نحن نعلم كل هذه الأشياء وهي تبدو كما قلت متصلة ببعضها اتصالاً وثيقاً، فكل منها يبدو مترتباً على ما سبقه ومؤدياً إلى ما يليه، ومع ذلك فالحدث لا يقنعنا. وقد تكون كل هذه الأشياء التي ترويها القصة قد حدثت بالفعل ولكنها مع ذلك لا تقنعنا، لأن الكاتب في روايته لها قد فشل في الإجابة على سؤال مهم وهو، لما حدثت كل هذه الأشياء؟
"فمارتن" محتال محترف له في مهنة الاحتيال خمس وعشرين عاماً وتسنح له فرصة ذهبية للاستيلاء على ألف جنيه وخدمة السيدة في نفس الوقت، ومع ذلك لا ينتهز هذه الفرصة، فهو يحتال على العشيق لا ليأخذ النقود لنفسه، بل ليعيدها إلى السيدة ومعها الخطاب.
ونحن نعلم أن (مسز بيرونكروفت) سيدة متزوجة وأن زوجها غني وأنها مخلصة في رغبتها في استرداد خطابها من عشيقها، وأنها سلّمت ألف جنيه لمارتن رغم أنه بالنسبة إليها رجل غريب تكاد لا تعرفه، وأنها لم تطلب منه صكاً أو إيصالاً بالمبلغ وإنما هو الذي تطوع بكتابة ذلك الصك، وكل هذا يدل على أنها أمينة أو على الأقل لا يدل على أنها محتالة، ولذلك فنحن نتساءل لماذا تحتال على "مارتن" وتطالبه بالألف جنيه التي تعهد بدفعها في الصك؟
ونحن نتساءل أيضاً لماذا أخذ "مارتن" صورة لخطاب (مسز بيرونكروفت) إلى عشيقها؟ ألكي يبتز أموالها في المستقبل؟ إن الكاتب يخبرنا أن "مارتن" سيستخدم صورة الخطاب في استرداد الألف جنيه التي دفعها فحسب، أي أنه لم يكن ينوي في الأصل ابتزاز أموال السيدة. فلماذا أخذ صورة الخطاب إذن؟ وإذا كان يريد ابتزاز أموالها فلماذا أعاد إليها 980 جنيه مع أنه لم يكن بحاجة إلى أن يفعل ذلك؟ كل هذا أسئلة يفشل الكاتب في الإجابة عليها، بل أنه لا يحاول الإجابة عليها على الإطلاق، ولذلك فرغم ما يبدو من ترابط بين أجزاء الحديث الذي تصوره هذه القصة فهي في الحقيقة غير مترابطة. لأننا لا نعلم السبب في وقوعها بالكيفية التي وقعت بها القصة. ومن ثم فنحن لا نستطيع أن نقول إن بداية الحدث تؤدي بالضرورة إلى الوسط وأن الوسط يؤدي بالضرورة إلى النهاية.
أي أن الحدث الذي تصوره هذه القصة لا يمكن اعتباره حدثاً متكاملاً له وحدة.
فالحدث هو تصوير الشخصية وهي تعمل .. والكاتب في هذه القصة قد اقتصر على تصوير الفعل دون الفاعل، ولذلك جاء الحدث ناقصاً.
ولما كانت القصة - أية قصة - يجب أن تصوّر حدثاً متكاملاً له وحدة، لذلك لا يمكن اعتبار هذه القصة قصة على الإطلاق، فهي في الواقع مجرد خبر من الممكن أن تنشره احدى الصحف في صفحة الحوادث بعنوان "محتال يساعد سيدة فيحتال عليه"، خبر ظريف يمكن أن تقرأه وتنساه، ويمكن أن تقرأه ثم تلخصه وترويه لأحد أصدقائك دون أن يفقد معناه. لأنه إنما يزودك بالمعلومات، بأن كذا وكذا قد حدث، تماماً كما تستطيع أن تلخص صفحة في كتاب من كتب الجغرافيا، فتقول مثلاً إن الأرض كروية وإن سرعة دورانها حول نفسها كذا، فهذه كلها أخبار قد تكون مترابطة بعضها مع البعض ترابطاً وثيقاً، ولكنها لا تعدو أن تكون مجرد أخبار، ولذلك يمكن أن تلخصها وتنقلها بوسيلة أو أخرى دون أن تفقد مدلولها. ولكن لا تستطيع أن تفعل الشيء مع القصة الجيدة، لا تستطيع أن تلخصها وترويها دون أن تفقد معناها، لأن القصة لا تعنى بنقل الخبر بل بتصوير حدث متكامل له وحدة، والحدث كما سبق أن قلت هو تصوير الشخصية وهي تعمل.
ولكن لأجل أن يتضح لنا هذا المفهوم سوف نقرأ القصة التالية "لجي دي موباسان" بعنوان (ضوء القمر) وذلك في الأسبوع القادم إن شاء الله.
أخوكم
حسن خليل