مشاهدة النسخة كاملة : من مذكرات طبيب مسلم مغترب
أم أديم
18-09-05, 10:48 AM
من مذكرات طبيب مسلم مغترب
(1)
دعوني أحدثكم يا إخوتي عن شاب عرفته من زمن.. كان ولا يزال صديقاً لي أثيراً إلى نفسي، أحببت فيه استقامته ونزاهة خلقه ورجاحة عقله رغم أنه لا يزال في مقتبل العمر، لم تغز بعد جحافل الشيب شعره الأسود، ولم ترتسم بعد تجاعيد السنين على محياه، وإذا سألتموني ما اسمه فلن أضنّ عليكم بهذا، لأنني أعتقد أنه سيكون صديق كل واحد منكم، يحبه كما أحببته، ويقدره كما قدرته.
صديقي هذا يدعى "أمير مؤيد العظم" شاب دمشقي، أسمر اللون، أسود العينين عالي المنكبين، لوحتُه شمس سورية التي تطل من سماء دمشق اللازوردية وكأنها زورق ذهبي يبحر في عباب من الزرقة اللامتناهية، في عينيه تصميم وعزم، وفي قسماته شموخ يطاول شموخ قاسيون، ولكن في طباعه دماثة، وفي خلقه حلاوة، دماثة استمدها من بساتين دمشق الغنّاء، وحلاوة أخذها من غوطتها الساحرة وبرداها العذب، يجري فيروي أوصال التربة الظامئة، ويبرد من لهيب الأشجار الخضر الناضرة.
كان أمير هذا زميل الحداثة والصبا، جلسنا معاً على مقاعد الدراسة أطفالاً صغاراً ثم انتقلنا إلى ثانوية "جودة الهاشمي" يافعين ندرس معاً، ونلهو معاً، وطالما رافقتنا صداقتنا في نزهة قصيرة نقوم بها معاً على ضفة نهر بردى نتبادل فيها الأحاديث التي لا تنتهي، ولست أدري اليوم، ماذا كان يجول في عقولنا الصغيرة في تلك الأيام البعيدة وأياً كان ذلك فلا أزال أذكر إلى الآن تلك الأيام وأستروح من ذكراها الراحة والأنس.
كانت التكية السليمانية تواجه مدرستنا على الضفة الثانية من النهر، وكان موعد لقائنا دائماً يوم الجمعة قبيل الصلاة، حيث اعتدنا أن نؤدي صلاة الجمعة في صحن المسجد الخارجي جالسين على البسط الممدودة حول البحيرة الصغيرة في وسطه، مصغين إلى المؤذّن يردد أن لا إله إلا الله، فتتجاوب له جنبات المكان.. متخللاً ذلك خرير نافورة المياه وسط البحيرة الجميلة التي تعكس أشعة الشمس.. وإذا النفس في إلهام سماوي عجيب.
كنا صديقين ساعتها.. وكان صديقنا الثالث هو المسجد الجميل يطل علينا بمئذنته الرشيقتين السامقتين في الفضاء تناجي إحداهما ربها قائلة أشهد أن لا إله إلا الله.. فتجيبها الأخرى وأشهد أن محمداً رسول الله، في ترنيمة أبدية لا تنتهي، أما قبته الجميلة فقد تربعت بين المئذنتين السامقتين وقد تناثرت من حولها القباب الصغيرة الأخرى في هندسة معمارية أخاذة وكأنها أم ترعى أطفالها الصغار في حنان ورعاية.
ومضت السنوات سراعاً، وصلنا بعدها إلى نهاية الدراسة الثانوية، وشاء لي القدر أن أنتسب إلى كلية الآداب، أما هو فقد انتسب إلى كلية الطب وحلمه الكبير أن يصبح أخصائياً شهيراً في أمراض الأنف والأذن والحنجرة، ولست أدري ماذا كانت فلسفته وراء ذلك، ولكني أعرف أن والده رحمه الله قد توفي عقب نزف شديد من حلقه، ولعل ذلك قد ترك انطباعاً عميقاً في نفسه جعله يختار هذا الفرع من الاختصاص الذي ليس هو بالمقصود كثيراً بين جمهور الأطباء.
وخلال دراسته الجامعية.. نضجت شخصية أمير، وكان ظله محبوباً من كل أساتذته ورفاقه، كان أمير ذكي الفؤاد مرهف الحس، طيّب القلب من غير بلاهة، متديناً بطبعه من غير دروشة، لم يحاول إيذاء أحد من الناس، ولكن قلّ من يستطيع أنْ يستغله أو يؤذيه، وكأني به يتمثل قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لست بالخب ولا الخب يخدعني".
كان يحبّ المطالعة والبحث، وأجمل ساعات فراغه هي التي يقضيها في المكتبة الظاهرية في دمشق القديمة يجول ببصره وخاطره في الكتب المنمّقة، يقلب في صفحاتها خواطر الأجداد ونوابض قلوبهم، وربما جرته قدماه في مناسبة أخرى إلى المركز الثقافي الألماني أو الفرنسي اللذين يطلان بشرفاتهما الفخمة على أحداث شوارع العاصمة السورية وأجملها، وهناك كان يقضي الساعات الطوال متابعاً ما كان يجري هناك من مناقشات ومحاضرات، مسروراً حيناً، غاضباً أحياناً أخرى، ولطالما دخل مع رفاقه في مشادات فكرية عنيفة.
لم يُنكر أمير أن على مجتمعنا الإسلامي المعاصر أن يتطور، ولكن في عقله الغضّ الناضج كان هناك فرق كبير بين: هضم وتمثل لحضارة قوم سبقونا ردحاً ليس بالطويل في عمر الزمن، وبين تقليد قردي أعمى وانجذاب انعكاسي ساذج لكل ناعق شرقاً وغرباً، ونادراً ما كان أمير يفقد أعصابه في غمرة النقاش، أو يتعصب لرأيه تعصباً أعمى، ولكنه كان يقارع الحجة بالحجة في منطق هادئ يحسده عليه الكثيرون.
وقضينا في الجامعة وقتاً طويلاً.. وبينما كنت أجول في صحبة المتنبي وديوانه، وأستمع إلى الجاحظ يحدثني عن نجلائه، وإلى المعري يقصّ عليّ أحاديث جنته وجحيمه كان هو يجلس بين مناضد التشريح ومخابر العقاقير والأدوية دارساً متأملاً منبهراً من عظمة الخالق وبديع خلقه.
ودار الزمن دورة، وإذا أنا في حفلة صغيرة جميلة أقامها في بيته يحتفل بتخرجه من كلية الطب، .. الله .. ما أجملها من سويعات هنية تلك التي مرّت كحلم شارد، كانت أمه تغدو وتروح مزهوة بابنها الوحيد التي سهرت لياليها ترعاه، وقضت أيامها تثقفه وتهذبه، ولطالما داعب أجفانها حلم جميل أن تراه أمامها طبيباً شاباً يسرّ قلبها ويملأ ناظريها. ودار الزمان دورة ثانية، وإذ أنا في حفلة خطوبته على ابنة عمه هدى، كان يوماً حاراً من أيام دمشق القائظة، وأقداح البرتقال تدار في فناء بيتهم الذي تظلله عرائش الياسمين، وقد اصطفت الكراسي في وسطه حول فسقية بديعة، زينتها بنقوش زاهية أنامل فنان دمشقي قديم.
كنت أرقب ما يجول بعين ملؤها السعادة والرضى، وإذا بأمير يأتي إليّ ويقول: أتذكر يا محمد عندما حدثتك يوماً عن أمنيتي في أن أصبح طبيباً مختصاً في الأنف والأذن والحنجرة؟.. قلت: نعم. قال: فإني قد عقدت النيّة على السفر إلى بريطانيا للاختصاص إن شاء الله، وقد قبلت في جامعة لندن، وأرجو من الله تعالى أن ييسر لي أمري ويحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، وأنت تعلم أن حظي من اللغة الإنجليزية ليس بالذي أحسد عليه. ورغم أن ذلك كان صدمة لي وحرماناً من صحبة أمير ولو لسنين من عمر الزمن، لكني تحاملت على نفسي، وكظمت ما في قلبي، وقلت له وبسمة تعلو شفتي سر على بركة الله يا أخي، وليكن طلب المعرفة رائدك، ورضى الله غايتك ومطلبك، وليجعل الله لك من القرآن نوراً، ومن خشية الله خير مراقب وخير نصير ولكن لي أمنية واحدة يا أخي حبذا لو تحققها لي.
- على الرحب والسعة يا أخي.. وما هي؟...
- أن تكتب لي بين الفينة والأخرى ما يجول بفكرك وخاطرك عن تصوراتك وانطباعاتك عن البلاد التي تزورها، والناس الذين تعاشرهم، فإن ذلك مما يسرّ قلبي ويشرح صدري.
ووفّى أمير بوعده...
وكان البريد يحمل إليّ بين الفينة والأخرى رسائل تفيض بالأمل والإيمان، رسائل إنسان مسلم صدمته الحياة في لندن بعنف، ولكنها لم تفقده توازنه، بهرته أنوارها ولكنها لم تعميه عما تخفيه من ظلام.. رسائل إنسان غريب، تفيض بالاستجابة والتحدّي.. والقبول والرفض، ولعل قراء الغرباء سيجدون فيها متعة وأُنساً كما وجدت..
فإلى اللقاء مع أمير في العدد القادم بإذن الله.
(2)
انقطعت أخبار أمير عنّي فترة من الزمن، تاقت فيها نفسي إليه، واشتقت إلى حديثه الطلي الجذّاب، وذات صباح حمل إليَّ البريد رسالة منه تقول:
أخي محمد..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
معذرة لتأخري بالكتابة إليك، ولكن منذ أن حطّت قدميّ بلاد الإنكليز، أحاطت بي الكتب إحاطة السوار بالمعصم، واشتغلت بالدراسة حتى ملّت نفسي واشتاقت إلى النزهة والترويح. قضيت في جامعة لندن أشهراً ثلاثة، حضرت خلالها إحدى الفصول الدراسية. قررت بعدها الانتقال إلى مستشفى أمراض الأذن والأنف والحنجرة في برمنغهام.
كان موعد سفري مساء السبت الأخير من شهر تشرين الثاني، فقررت زيارة بعض معالم لندن قبل أن أغادرها، وقصدت دار البرلمان البريطاني الشهير، وكان ذلك في صباح ذلك اليوم الذي قررت فيه مغادرة لندن، حملني قطار الأنفاق عبر الدهاليز المظلمة من إحدى ضواحي لندن حيث أسكن مع عائلة إنكليزية إلى محطة وستمنستر في قلب المدينة، ووجدتني أتجول متمشياً على ضفة نهر التايمز.
كان هذا اليوم على غير عادة أيام لندن في مثل هذا الوقت من كل عام، فالشمس ساطعة وكأنها حسناء خفرة من خلال الضباب المتكاثف أطباقاً في كبد السماء، ولكن يبدو عليها اصفرار، وفي عينيها أمارات الجزع لأنها تعلم أن عهدها لن يطول.. وأن جيوش الضباب لن تلبث أن تتكاثر ثانية ملقية بها في أحضان الوحدة الموحشة، وأياً كان فقد استأنست نفسي بدفء الأشعة الذهبية التي طال غيابها، ولم تلبث أن هبّت نسمة باردة من جهة الشمال، فدسست يدي في جيوب المعطف السميك وتابعت المسير.
كان دار البرلمان الإنكليزي، أو كما يحلو للإنكليز أن يسموه –أبو المجالس النيابية في العالم- يطل على ضفة النهر وإلى جانبه تبدو كنيسة وستمنتسر، وخلفهما احتلت الأفق بعض العمارات الحديثة الأمريكية الطراز، وكان نهر التايمز يجري متدفقاً غزيراً وبين الفينة والأخرى كانت تقطع الجسر قوارب سياح ملونة مزينة جاءت تتهادى في خيلاء تملأ ناظريها من هذا المنظر الجميل.
كان العلم الإنكليزي وقتها يرفرف فوق مبنى البرلمان مشيراً إلى أن جلسة المجلس النيابي في حالة انعقاد، وأن النواب يناقشون في هذه اللحظات أمور الساعة، كان العلم بخطوطه الحمراء والزرقاء المتقاطعة يثير في نفسي عواطف شتى متعددة وخواطر متضاربة، أليس هذا هو العلم الذي كان رمز الاستعمار في العالم إلى عهد ليس بالبعيد. أليس هو الرمز الذي بقي شعبنا يئن تحت نيره سنوات وسنوات في بلاد الرافدين وفي مصر والسودان، كم هي ذكريات أليمة تمرّ بخيالي كأبشع كابوس يحلم به نائم، ولكن أليس هو الرمز الذي يسعد أهله تحت ظله.. وينعمون في أرجائه بحرية الرأي والضمان الاجتماعي والتأمين الصحي؟.. ألم تتقدم التكنولوجيا في ربوع هذه البلاد، وتتفجر فيها الثروة الصناعية التي قلبت الموازين في العالم المعاصر.
كنت أحدّث نفسي بهذا وأقول إن الإنسان في هذه البلاد يعيش معززاً مكرماً في حماية القانون، يأخذ منه حقوقه كاملة ويقوم بواجباته هكذا في تناغم وتساوق، أليست هذه هي قمة السعادة في الحياة؟.. أليست هذه هي المدينة الفاضلة التي حلم بها أفلاطون؟.. لقد جلس فيها الناس يشرعون لأنفسهم حسب أهوائهم ورغباتهم واحتياجاتهم في جو ديمقراطي، تخضع فيه الأقلية لرأي الأكثرية.
وما زالت قدماي تنتقلان بي من مكان إلى آخر حتى دقت ساعة بغ بن مشيرة إلى أن الساعة قد قاربت السادسة مساء، وكان قد بقي لموعد القطار ما يقرب من الساعتين جلست بعدها على أحد المقاعد العامة، وقد أخذ مني التعب مأخذه، جلس بقربي شاب يبدو من زرقة عينيه وقسمات وجهه أنه إنكليزي، نظراته ساهمة وقد أجلس في حضنه كلبه المدلل يلعق أصابعه، ويحرك ذنبه في جذل ذات اليمين وذات الشمال.
وعلى عادة الإنكليز بادرني بالحديث مشيراً أن الطقس جميل ومنعش في هذه الأمسية وبالطبع لم يجد صعوبة في إقناعي بذلك، كما لم أجد صعوبة في إقناعه بأن الطقس الإنكليزي هو أسوأ ما في هذه البلد، هزّ رأسه موافقاً ولكنه أضاف:
- في اعتقادي أن أزمة البطالة التي نعيشها اليوم والتقلبات الاقتصادية التي تعصف بالبلد هي بلا شك أسوأ من تقلبات الطبيعة التي ألفناها وأصبحت جزءاً من حياتنا.
- وهل أنت عاطل عن العمل؟..
- نعم منذ تسعة أشهر.
- وكيف تنفق على نفسك الآن؟..
- إنني لا أنفق على نفسي فقط وإنما أعيل زوجتي وطفلاً في الثانية من عمره، وأنا أتلقى بدل العطالة عن العمل من مكتب الخدمات الاجتماعية.
كان الوقت عندها يمر سريعاً، ولم يبق لموعد القطار سوى ساعة واحدة فاستأذنت محدثي بالانصراف، وتركته جالساً في استرخاء وتوجهت إلى محطة القطار.
وخلال طريقي عادت نفسي تحدثني ثانية.. ألا يعيش هذا العاطل عن العمل في نعمة حقيقية، ألم يكفه مجتمعه ذل السؤال ويحْمِ طفله من الجوع والحرمان، أليس البشر قادرين على التشريع لأنفسهم ومعرفة مصلحتهم واحتياجاتهم.. وتجاذبتني هواجس شتى أقلقت فؤادي وأغمّت نفسي، وسرح بي الخيال، وهاجت بي الذكرى، فذكرت أمي ودمشق.. وبردى والتكية السليمانية.. وتذكرتك يا صديقي..
ألا تذكر يا أخي نقاشنا مع أحد الشيوعيين يوماً وقولك له أن مصلحة البشر متضمنة في شرع الله كما أنزل الله وكما بلغه عنه رسول الله، وأن سعادة البشر تنشأ من التصور الإنساني السليم لحقائق العقيدة من مصدرها الرباني، يكيّفون بعد ذلك على أساسها تعاملهم مع الكون ونواميسه ومع الأحياء وعوالمها، ومع بعضهم بعضاً تعاملاً يستمد أصوله من دين الله الحنيف.
وانتبهت فجأة أن قطار الأنفاق قد وصل بي محطة القطار يوستن التي سأغادر منها لندن إلى برمنغهام، وكانت محطة القطار هذه أنيقة نظيفة وأحسب أنها حديثة البناء، والناس مزدحمون فيها كأنهم في يوم الحشر، بين مسرع يريد اللحاق بقطاره، إلى واقف ينتظر إعلان موعد سفره، ولاحت لي في الأفق البعيد لافتة كهربائية تشير إلى غرفة للطعام فجلست هناك هنيهة أقضي ما تبقْى من الوقت بتناول كأس من الشاي، كانت المقاعد مزدحمة وكم كنت سعيداً عندما صادفت مقعداً خالياً منزوياً أجلس فيه.
وما إن بدأت الرشفة الأولى حتى دخل القاعة رجل تبدو عليه أمارات الإعياء، يتلعثم لسانه بكلام متقطع غير مفهوم، انتفخ وجهه واحمرّت عيناه وبدا جلياً من مظهره أنه عاقر بنت الحان حتى ذهبت بلبّه، فجاء مخموراً يتطوح ذات اليمين وذات الشمال، وقف وسط القاعة يتأمل الحاضرين بنظرات زائغة، واختار أن يجلس بجوار فتاتين كانتا تتناولان بعض المرطبات، جلس أمامهما يتغزل بمحاسنهما في حالة امتزج فيها الهذيان بشيء من الهياج العصبي، فما كان من الفتاتين إلا أن غادرتا المكان دون أن تنبسا ببنت شفة، وعلى وجهيهما أمارات الامتعاض، فما كان من صاحبنا إلا أن قام من مقعده وجلس أمام رجل آخر يحدثه عن إعجابه بمباراة كرة القدم التي شاهدها صباحاً، وكان من نصيب المسكين أن يغادر القاعة على عجل أيضاً.
وما هي إلا بضع دقائق حتى وجد صاحبنا نفسه محاطاً بمقاعد فارغة من كل مكان فانتصب قائماً، ودخل من الباب المؤدي إلى مطعم المحطة، ولم يكن يفصل بين المكانين إلا حاجز من الزجاج، فجلست أرقب ما يجول بعين ملؤها الغيظ من جهة والإشفاق من جهة أخرى، وجلس المخمور عند إحدى الطاولات وتناول قائمة الأطعمة، وعندما حضر النادل لخدمته وقف أمامه والقلم بيده يكتب ما يطلب بكل أدب، ذهب النادل مسرعاً وقعد المخمور يحلم بالأطباق الشهية، وما هي إلا دقائق معدودة وإذا باثنين من رجال البوليس يدخلان المطعم، وبعد مقاومة بسيطة أجبراه على مغادرة المكان، واصطحباه إلى سيارة البوليس كانت منتظرة خارج المحطة.
كان الناس ينظرون إليه يمشي بين ضابطي البوليس بعيون متحجرة اختلط فيها عدم المبالاة بعدم الانفعال، وكأنهم أمام مشهد عنف في أحد أفلام الإجرام الأمريكية.
أتعلم يا أخي.. والله شعرت بالأسى لمنظر هذا الإنسان وهو يساق بادي الإعياء ميت العزة، مهدور الكرامة كقط بريّ قلمت أظفاره، بين رجلي البوليس اللذين اضطرا أن يعاملاه بشيء من الغلظة والخشونة لما بدا على سلوكه من علامات الميل للعدوان.
وعندما كان القطار يقطع بي المسافات قاصداً برمنغهام مرّت بخاطري حوادث يومي هذا كشريط سينمائي متواصل، إن المجتمع الذي أعطى هذا الإنسان كرامته عندما كفته ذل السؤال، هو نفسه الذي جرده من الكرامة ذاتها عندما أباح له اللذات الحرام، وأباح لغرائزه الدنيا أن تنطلق معربدة في دنيا شهوات، إنَّ شرائع البشر مهما سمت فستظل عاجزة عن إدراك الحقيقة العليا، وستظل أسيرة الهوى البشري، وإن شريعة الله هي الشريعة المثلى للبشر.
قال الله تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).
(3)
كتب إليّ أمير في إحدى رسائله يقول:
أخي الحبيب محمد..
كلما طالت إقامتي في هذه البلاد، اشتاقت نفسي إلى سورية الحبيبة وإلى ربوعها الوارفة الظلال، ولا أكتمك يا أخي أنَّ الطبيعة هنا جميلة وخلابة، ولكن عبير الغوطة قد امتزج بدمي، وذكريات الشام الحبيبة تتردد في مسامعي وخلدي وكأنها قطعة من نفسي وفلذة كبدي، إنها حاضري وتاريخي القريب والبعيد، ألا ما أضيع الإنسان بدون تاريخ، وعلى ذكر التاريخ فإنني سأحدثك اليوم عن مشاهداتي في واحدة من أجمل مدن بريطانيا وأعرقها تاريخاً.
هناك في أقصى الشمال تنام أدنبرة على شاطئ البحر في تراخ ودلال وفي عينيها ذكريات تاريخ طويل، ولا أحسب أنه يعكر نومها الهنيء هذا سوى هبات رياح باردة تأتيها متدافعة مع أمواج بحر الشمال فتلفعها برداء ضبابي غامض له سحر الأساطير.
شددت إليها الرحال منذ شهور خلت، وذلك لحضور ندوة علمية عن أمراض الأذن عقدت في الكلية الملكية للجراحين، والحق يقال أن للقوم باعاً طويلاً في هذا المضمار، وقد أمضيت هنالك يومين حافلين، جال فيها المحاضرون في دهاليز الأذن ومتاهاتها وأمراضها يوسعونها استكشافاً وبحثاً ودراسة، وكجزء من البرنامج طاف بنا المؤتمرون في ربوع البلدة يعرفوننا على معالمها.
وقد كان مرافقي طبيباً اسكوتلندياً من مدينة ابردين، طويل القامة، أشقر الشعر، أزرق العينين، تبدو في قسماته ملامح العرق السكسوني الأصيل، كان يتكلم الإنكليزية بلهجة اسكوتلندية حادة جعلتني لا أفهم الكثير مما يقول، وعلى كل فقد كان دمثاً، حلو المعشر ولكنه متعصب لاسكوتلنديته بشكل مثير، وهو مستعد لأن يقضي معك الساعات الطوال في محاولة إقناعك بأن الشعب الاسكوتلندي هو شعب مستقل بخصائصه الثقافية وعاداته وتاريخه عن الشعب الإنكليزي، وأن أدنبرة هي درّةُ اسكوتلندة، وهي مركز الثقافة الأول في بريطانيا، وأنها تقوم الآن بالدور الذي كانت تلعبه مدينة أثينا في اليونان القديمة.
وسواء أكان مصيباً في رأيه أم مخطئاً فهذا لا يعنيني من قريب أو بعيد وإنما كانت نفسي تتشوق لرؤية معالم المدينة التي سمعت كثيراً عن جمالها، حطت بنا السيارات في قلب المدينة، ونزلنا نتجول في أنحائها، وكان أول ما قابلنا هو الشارع المشهور بشارع الأمراء، حيث انتصبت في وسطه نصب سكوت التذكاري.. شامخاً بقمته المستدقة، وقد بدت على محياه علائم كرّ الليالي ومرّ السنين، كانت المحلات التجارية تتراصف بعضها إلى بعض على يميننا، وعن الشمال امتدت الحدائق البديعة المنسقة، وقد تناثرت فيها الزهور الأخاذة في هندسة تأخذ بمجامع القلوب.
في الحديقة تمدد متحف أدنبرة وقد أحاطت برواقه صفوف من الأعمدة الحجرية الأيونية الطراز بتيجانها الأنيقة. وعلى مدّ البصر في الأفق البعيد تطالعك قلعة أدنبرة الشهيرة.. وقد تربعت فوق تلة بركانية مرتفعة وأحاطت بها بعض البيوت والأبنية القديمة التي تعطيها طابعاً أثرياً فريداً.
لقد كان منظراً جميلاً والحق يقال، ولكن الخيال الذي حملته كان أجمل، كان صورة أخرى أجمل من الحقيقة، ولعمري إن السعيد في هذه الحياة هو من لا تتحطم خيالاته الشاردة بقسوة على واقع الحياة. قلت لمحدثي: إنه منظر جميل حقاً.. قال: بل الأجمل منه أن تصعد وترى القلعة ومحتوياتها النفيسة، وأن تطل على المدينة التي ما زالت محافظة في الكثير من أنحائها على الطابع المعماري للقرون الوسطى.
وتابعنا المسير، كان الزحام شديداً، والناس تسير جيئة وذهاباً مختلفة الألوان والجنسيات، متنوعة اللهجات واللغات.. وبينما نحن سائرون إذا بنا نسمع أصواتاً غريبة، صنوجاً تدق وطبلات تقرع، وصيحات تتردد في الفضاء لا أفهم لها معنى، وما زال الصوت يقترب ويقترب حتى تبينت الخبر.
كانوا مجموعة من الشبان والشابات لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين، وقد ارتدوا الألبسة الطويلة الفضفاضة الصفراء، وقد حلقوا شعورهم إلا خصلة طويلة عقصوها وتركوها تتدلى إلى الخلف على عادة الرهبان البوذيين، حمل بعضهم طبلات مستطيلة علقوها بأعناقهم، وحمل البعض الآخر ما يشبه الصنوج والمزاهر.. والكل بعزف ويغني وينشد..
خارا كريشنا.. هارا رارا
هاري كريشنا.. هارا ري..
لم يكونوا من الشرق الأقصى بل إنكليز، راحوا يزرعون الأرض جيئة وذهاباً وهم في عالم غيبي خيالي حالم.. أو هكذا خيّل لي..
قلت لمحدثي وهل نحن في أدنبرة أم في إحدى شوارع بانكوك؟ من هؤلاء وما هي حاجتهم؟.. قال: إنهم فرقة من أتباع كريشنا الفيلسوف البوذي الشهير، ولهم معبد في لندن، وهم يعملون الآن على إنشاء معبد آخر هنا في اسكوتلندة، كان الناس يمرون بهم والنادر منهم من يعيرهم التفاتة أو يلقي عليهم نظرة، إلا مجموعة من الأطفال راحوا يتطلعون إليهم بنظرات ممزوجة بالدهشة وحب الاستطلاع. سألت طفلة أمها وهما تسيران بسرعة: من هؤلاء يا ماما؟ فأجابتها بامتعاض: أسرعي هذا هراء تطالعنا به هذه الأيام صباح مساء. ولما اقتربنا منهم أكثر كان أحدهم يوزع المنشورات والقصاصات على الناس يشرح فيها معتقدات كريشنا وتعاليمه.
قلت لمحدثي: وهل أتباعهم هنا كثيرون؟ قال: ليسوا بالقلة وأعدادهم في تزايد مستمر خصوصاً بين الأحداث والشباب. قلت أولست ترى في هذا ظاهرة تستحق النظر والتأمل في أوضاع البلد عندكم؟ قال: بلى.. فإن أدنبرة كما قلت لك مركز ثقافة كبير، وبها حرية الأديان وحرية الدعوات والتعبير عن الرأي، وهم يعبرون عن رأيهم بطريقتهم الخاصة. قلت: نعم وأرجو ألا تحسب كلامي هذا تهجماً عليكم، ألا يعني هذا أن مجتمعكم بدأ يحسّ في داخله وفي أعماق نفسه شيئاً لم تملأه ثقافة أدنبرة وهي متوفرة للمواطنين قبل أن تتوفر للغرباء، وحاجة لم تشبعها جامعات أدنبرة ولا كنائسها ولا محلاتها التجارية الأنيقة المليئة بكل متع الحياة الفاخرة؟..
قال: إن كان هؤلاء يستحقون الحياة فدعوتهم ستنتشر ويكتب لها البقاء، أما إذا كانت كاذبة فسيعفي عليها النسيان كما طوى الكثير مما قبلها، وهذه ظاهرة صحة في مجتمع ديمقراطي عريق، قال هذا وقد احتد قليلاً وكأنما كلماتي قد أثارت فيه شعوراً كامناً بالقلق مبهماً غامضاً يحسّ به ولا يعرف ما هو.
كان ركب كريشنا يسير على الرصيف أمام المحلات التجارية، وبين الفينة والأخرى كان ركبهم يمر على منعطفات في داخل المحلات حيث انزوى شاب وفتاة غابا في عناق طويل، أو ضم أحدهم الآخر في وضع أحبوا أن يعلنوا فيه للملأ أنهم حيوانات لا تستحي أن تجاهر بحيوانيتها، وقفوا ينظرون إلى ركب كريشنا بعيون حامدة ملؤها البلاهة والدهشة والاستغراب. ولما رأيت صاحبي –وهو الديمقراطي الأصيل- يتأفف هكذا من النقد الذي يوجه لمدينته ومدنيته، أيقنت أن هؤلاء القوم لا يزالوا يعيشون في أحلام الماضي عندما كانت بريطانيا ملكة البحار وسيدة العالم.
ورحت أسائل نفسي.. أهي حقاً ظاهرة صحة أم هي ظاهرة مرض.. في يقيني أنها ظاهرة خطيرة لا يحسبون حسابها، أنا لا أعتقد أن كريشنا سوف يحكم يوماً وست منستر، ففي تعاليمه من النقص والسطحية والوهمية الكثير، الشيء الذي يعجزها عن أن تكون منافساً حقيقياً للعقول والقلوب في العالم ولكن ما أستطيع أن أراه هو أن في ذلك تعبيراً عن الإفلاس العقيدي الذي يتخبط فيه هؤلاء القوم، فقد دخلوا كنائسهم فلم ترو لهم غليلاً، واجتمعوا بمنظماتهم الديمقراطية فأشبعت بطونهم وأطلقت شهواتهم، ولكنها تركت فراغاً في نفوسهم وقلوبهم جعلتهم يلهثون وراء كل من يلوح لهم ببارقة نجاة حتى ولو كان كريشنا.
كان هذا يجول في خاطري ونحن نسير في شارع الأمراء، وأصوات هارا كريشنا تتردد في الأفق فتغيب في ضجة الزحام، وتختلط بأصوات باعة الصحف والسيارات وبأجراس كنيسة تدق في الأفق البعيد.
وساءلت نفسي.. ولكن أين الإسلام؟ أين المسلمون؟.. ألم يقل الله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" أليس في هدى القرآن وتعاليمه رحمة لهذه القلوب التي أوقعها بؤسها في أوهام البوذية وشرك الروحانيات السلبية التي لا تلبث أن تتحطم أمام صخرة الواقع وتحديات الحياة.
أنا أعتقد كما تعتقد يا صديقي أنه لا شك في ذلك. ولكن أين هم المسلمون يعرضون قيم الإسلام كتباً ودراسات..
وأين هم يعرضون مثله نماذج حيّة تتحرك..
وأين هم يعرضون تشريعه دولة قائمة لها هويتها بين الدول..
أم أديم
18-09-05, 10:51 AM
(4)
كتب إليّ أمير يقول:
رنّ جرس الهاتف بشدة، ففتحت أجفاني ببطء أغالب النوم الذي لم يزرني إلا بعد طول عناء، أمسكت بسماعة الهاتف وأنا بين النائم واليقظان، وأجاب صوت عرفت أنه ممرضة الإسعاف في نغمة تدل على الهلع والاستعجال..
- أسرع يا دكتور.. إن المريض ينزف بغزارة والدم يغطي كل ثيابه ووجه، ولقد فحصه طبيب الإسعاف وقال إنه بحاجة إلى استشارة طبيب الأذن والأنف والحنجرة، عندها وثبت من سريري مسرعاً.. نظرت إلى الساعة فإذا هي الواحدة بعد منتصف الليل، واعتذرت لضيف النوم الذي لم يزرني إلا منذ دقائق قائلاً: إنه ليس في اختياري أن أتركه هكذا مسرعاً ولكننا معشر الأطباء كتب علينا أن بيننا وبين السهر عقوداً وارتباطات كتبناها على أنفسنا يوم اخترنا الطب طريقنا في الحياة.
لم تمض إلا دقائق قليلة حتى كنت في غرفة الإسعاف، كانت سيارة البوليس تنتظر عند الباب الخارجي، والأطباء والممرضات يروحون جيئة وذهاباً. كان المريض متمدداً على طاولة الفحص وقد أمسكت بيديه اثنتان من الممرضات تحاولان تهدئته وهو في حالة ثورة وهياج صائحاً: دعوني أذهب إليه.. سأهشم رأس هذا الخنزير القذر.. سأعلمه كيف يحترم الفريق الإنكليزي في المستقبل.
- فقلت في نفسي حسناً، حتى هنا يعتبرون الخنزير قذراً، والخنزير سبة يرمى بها من يراد أن يحتقر ويُهان.
كانت رائحة البيرة تفوح من فمه كلما تكلم، فتنتشر في الغرفة الصغيرة محيلة إياها إلى جو خانق، كان المريض حديث السن، طويل الشعر ذا جثة ضخمة، يغطي الدم جزءاً كبيراً من وجهه مع بعض الجروح التي كان بعضها سطحياً وبعضها عميقاً قرب الأنف والخدين، وكان واضحاً أن المريض قد ضُرب بآلة قاطعة.
قالت الممرضة وقد ضاقت به ذرعاً تُمسك بيده فيفلت منها محاولاً القيام.. هؤلاء هم زوّار الليل، سكارى خرجوا من الحانات بعد أن تغلق أبوابها في الحادية عشرة مساء فلا يجدون خيراً من الشوارع يترنحون فيها، وغير أنفسهم يوسعونها ضرباً وعنفاً. أشرت على الممرضة بإعطائه إبرة مهدئة وبإجراء صورة شعاعية مستعجلة للجمجمة وعظام الوجه، وقبل أن تبلغ الإبرة كامل تأثيرها سألت المصاب –وكان اسمه جون- عن الذي حدث وكيف أصيب هذه الإصابة البالغة. راح جون يتكلم كلاماً متقطعاً، يلثغ بالحروف والكلمات فتخرج ممطوطة مشوهة، واسترسل يقول:
ذهبت مع صديقي إلى البار نشرب قليلاً ونتمتع بمشاهدة كرة القدم بين الفريق الإنكليزي والإسباني في التلفزيون، آه كم كانت مباراة جميلة وشيّقة، ألم تشاهدها يا دكتور؟ حتماً أنك شاهدتها. لقد كنت وما زلت من عشّاق كرة القدم التي لعبتها منذ نعومة أظفاري في الشارع وفي المدرسة، إن كرة القدم في دمي وأعصابي وهي متعتي وأُنسي، ألا تلعب كرة القدم يا دكتور؟ أنا واثق أنك تلعبها، ألم تشاهد الفريق الإنكليزي، إنه فعلاً رائع عظيم، أما شاهدت ستيفن وهو يسدد الضربات الصاروخية في مرمى الفريق الإسباني، آخ الإسبانيون هؤلاء الصعاليك.. إنهم أقزام كرة القدم جاؤوا إلى هنا وهم يظنون أن بإمكانهم التغلّب على فريقنا، ولكن أين هو هذا الملعون بيتر.. وأراد القيام والنظر لما حوله..
فقلت له: أنا فهمت أنك وكرة القدم حبيبتان متلازمان، وأنها أعز عليك من صديقتك التي تبدلها كل يوم، ولكن لم تقل لي كيف جرحت هذه الجراح البليغة؟
قال: انتظر قليلاً، ولماذا أنت مستعجل يا دكتور، قلت لك هذا الخنزير النجس بيتر كان يشاهد معنا المباراة، ولكنه كان يسخر من الفريق الإنكليزي متهماَ إياه بعدم المهارة والفن، إنه فعلاً وقح.. وهل يفهم هو أصول اللعب حتى ينصب من نفسه حكماً على أمهر اللاعبين في العالم.. أنذرته بالكف عن تعليقاته الساخرة هذه، ولكنه أبى، فكان من الطبيعي أن أسدد إليه لكمة أطاحت به إلى الطاولة المجاورة، طبعاً يجب أن ينال عقابه... هذا البغيض الشرس.
- بلى وماذا حدث بعد ذلك؟..
- بعد ذلك.. لا شيء ضربني بزجاجة الويسكي التي كانت أمامه على الطاولة.. ولكن أين هو.. دعني أقوم، سأهشم رأس هذا الخنزير بقبضتي هذه.
وفي هذه اللحظة أُخذ المريض لإجراء الصورة الشعاعية، ولدى معاينتها تبيّن وجود كسر في الأنف، وكسر آخر في العظم الوجني مع عدة قطع من الزجاج متوضعة عميقاً ضمن جرح الوجه، كان هذا يعني إجراء عملية جراحية مستعجلة.
سألت المريض عن كمية البيرة التي شربها، فقال لي: أنه لا يشرب عادة إلا قليلاً قدحاً أو اثنين، ولكنه اليوم وبمناسبة المباراة الكبرى شرب حوالي سبعة أقداح.
لقد كان المريض الذي حدثتك عنه لا يتجاوز العشرين من العمر، قوي البنية سليماً معافى، ولكنه كالملايين أمثاله لم يجد حوله من المثل ما يشغل وقته وفراغه، فراح إلى ملاعب كرة القدم نهاراً وإلى الحانات ليلاً، أرجو ألا تفهم من كلامي هذا أنني ضد الرياضة أو أن يتمتع الناس بلعبة كرة القدم وسواها، ولكن ما يدهشني هو أن تلعب هذا الدور البارز في حياتهم وتستأثر باهتماماتهم وعواطفهم وانفعالاتهم.. أفهم من الرياضة ممارسة تقوّي الأجسام وتسمو بالنفوس وتنقي القلوب، لا مهرباً من خواء روحي وفكري ومتنفساً تلهي به الحكومات شعوبها، وتعصباً يحل من النفس محل الهوى، وأداة يهشم بها الناس رؤوس بعضهم بعضاً. إن حوادث الشغب وجرائم أنصار القوى الرياضية المختلفة قد أصبحت من المشاكل التي تواجه البوليس عقب كل مباراة.
وكنا ذكرت فقد أصيب هذا المريض بجراحه ليلة السبت، وعلى ذكر ذلك أحب أن أقول أن ليلة السبت هذه قد دخلت الأدب الطبي من أوسع أبوابه، فهناك مرض يدعى (شلل يوم السبت) يصيب السكارى الذين يكثرون من شرب الخمر في عطلة نهاية الأسبوع ، فيثملون في تلك الليلة ، ويستندون لفترة طويلة بآباطهم على مساند كراسيهم، فتنضغط أعصاب الضفيرة العضدية عندهم ، مسببة شللاً في اليد.
وكانت ليلة حافلة قضيناها في غرفة العمليات، لم يطلع علينا صباحها إلا وقد أخذ منا الإعياء كل مأخذ.. إنها ليلة أخرى من ليالي السبت.. ليالي العربدة والجريمة في ديار الغرب.
هذه يا صديقي حالة من الحالات التي نصادفها دائماً، وهي تزيدني كل يوم قرباً من الإيمان.. الإيمان الذي يملأ النفس ويغمرها بالنور الإلهي الذي يسمو بها عن صغائر الأمور ، وأدران الشهوات .
(5)
أخي الكريم محمد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
دعيت لحفلة أقامها أحد زملائنا الأطباء الهنود، واسمه "سراج الدين" بمناسبة تخرجه وحصوله على شهادة الزمالة في جراحة الأنف والأذن والحنجرة. كانت أمسية لطيفة حضرها كل أعضاء الشعبة تقريباً, قدمت لنا خلالها أشربة الزنجبيل المبردة وأطيب المأكولات الهندية اللذيذة. كان صاحبنا بمنتهى الغبطة والسرور، وقد أخذ منه الفرح كل مأخذ، فلا تراه إلا جائلاً بين الحاضرين بخفة ومرح، يمازح هذا ويداعب ذاك.
وجلسنا بعد فترة نتحدث معاً، وقد دهشت عندما أخرج كتيباً صغيراً عليه رسم التاج البريطاني عرفت أنه جواز سفر بريطاني، وقال:
- لقد كسبتها.. لقد كسبتها..
- وما هي التي كسبتها بالله عليك؟..
- الجنسية البريطانية بالإضافة إلى الشهادة..
- قلت بغيظ: وأي شرف تجلبه لك الجنسية البريطانية؟..
- ليست القضية شرف أو قلة شرف، وإنما اكتساب الجنسية البريطانية يفتح لي أبواب العيش في هذه البلاد.
- أو تنوي الإقامة في هذه البلاد؟
- نعم، لقد اشتريت بيتاً في أحسن مناطق المدينة، وسيارتي ألمانية أنيقة حديثة الصنع، وأنت تعلم أن زوجتي إنكليزية.. فقلت لنفسي ولماذا لا أستوطن في هذه الديار.. إذا كانت تحفظ لي كرامتي ورفاهيتي..
- ولا تنوي العودة إلى الهند مطلقاً؟..
- وماذا أعمل هناك يا أخي.. إن الفقر يفترس الناس، ومرتبات الدولة ضئيلة ولا تسد الكفاف، أما العمل الحر فقد سيطر عليه بعض الأطباء المتنفذين والدجالين وأن مريضنا هناك فقير لا يستطيع أن يدفع للطبيب الأجور العالية التي يستحقها، وإذا دفع هذا فذلك يعني أنه ربما يتنازل للطبيب عن كل ما يملك من دريهمات قليلة أو متاع قليل..
- قلت: أولا تحسب يا صديقي أنك بهذا تتنكر للجميل، لقد عشت في بلدك الذي رباك وتعهدك حتى ترعرعت، ووفر لك فرصة العلم التي لم تتوفر للكثيرين سواك.. حتى إذا اشتد ساعدك وتوقعت منك بلادك ردّ الجميل.. سخرت منها ولوّحت لها بجواز السفر الإنكليزي الذي تحمله، أولا تعتقد في دخيلة نفسك أن إخوانك الهنود هم بحاجة إلى خدماتك وعلمك، وأنك لو لم تعالج المريض الإنكليزي هنا لتوفر له الكثيرون ممن يستطيعون علاجه، أما المريض الهندي فقد ترك هناك مخذولاً مهجوراً معذباً مريضاً..
قال: أنت تكلمني بلغة العواطف التي لا تجدي فتيلاً، فلكل إنسان رأيه في هذه الحياة، وهو حر في اتخاذ الخطوات التي يرتئيها مناسبة لمصلحته ومستقبله.
قلت: أولاً تشعر وأنت المسلم أنك مسؤول أمام الله ورسوله تجاه إخوانك المسلمين وقد علمت أن المسلمين هم أفقر الناس في الهند، ونسبة الأميين بينهم هي أعلاها بين بقية الطوائف والسكان.. وأنت لا تتوقع بالطبع من بلد فقير كالهند –على الأقل في ظروفها الحالية- أن تدفع لك ما تدفعه بريطانيا أو أمريكا، ولكن الأمر في اعتقادي يحتاج إلى شيء من الإيثار والتضحية.
قال: ربما عدت في المستقبل البعيد إلى وطني، فأنا لا أقبل لرفاتي أن تثوى مثواها الأخير إلا في تربة الوطن.
وقد كان أحد المدعوين طبيباً إنكليزياً يبدو من طريقة تصرفاته أنه صديق حميم لسراج الدين، تعرفت عليه.. وجلسنا نتحدث.. وقد علمت أنه ولد في الصين لأب قسيس بروتستاني، كان يدير مطبعة لطباعة الكتاب المقدس في الصين قبل أن تقوم فيها الثورة الشيوعية، ومع قيام الثورة اضطر هو وغيره من المبشرين إلى الرحيل، على أنهم من العناصر غير المرغوب فيها في دولة اشتراكية تقدمية.
قلت: أو تذكر شيئاً من أيام طفولتك في الصين؟..
قال: لا فقد غادرناها ولي من العمر سنتان، فلم تحتفظ ذاكرتي من ذلك إلا بشيء بسيط من المخيلات والأشباح، ولكنني مع ذلك فأنا عائد إلى "آسيا" في الصيف القادم.
قلت: أهي سياحية رحلتك هذه؟..
قال: لا، وإنما حصلت على عقد عمل في إحدى المستشفيات التبشيرية التي بنيت حديثاً في ولاية "بيهار" في الهند، لقد عملت هناك منذ عدة سنوات لفترة قصيرة وأنا أشعر أن لي رسالة هناك يجب عليّ تأديتها لتخفيف آلام الإنسانية المعذبة.
وفتح محفظته.. وأبرز لنا صوراً عن المستشفى التبشيري الذي كان يعمل فيه، وصوراً أخرى التقطت له مع بعض الناس المحليين هناك من المرضى وذويهم بلباسهم الوطني الفضفاض، وصوراً أخرى له ولزوجته، وقد ارتدى هو عقالاً على رأسه وبجانبه زوجته تركب حماراً، وقال كنا هنا نقدم تمثيلية عن حياة المسيح في المسرح المرفق بالمستشفى، وأنا أمثّل هنا دور يوسف النجار، أما زوجتي فتمثل دور مريم خلال الرحلة إلى مصر، وهكذا ترى أننا نقوم بتطبيب الناس نهاراً، ثم نقوم بنقل الرسالة المسيحية لهم ليلاً، إننا نشعر أننا نكون أنانيين حقاً إذا لم ندل الناس على طريق الحق الذي أدى إلى خلاصنا نحن..
قلت:والخلاص مم؟..
قال: من الخطيئة..
قلت: أما نحن المسلمين.. فنعتقد أننا ولدنا على الفطرة، ولسنا خاطئين ولسنا بحاجة إلى من يخلصنا، وأن أعمالنا في هذه الحياة شراً كانت أم خيراً هي التي تقرر مصيرنا في الآخرة، إن خيراً فخير.. وإن شراً فشر. ولكن قل لي بالله عليك ممن تتلقى مرتبك وأنت تعمل في هذه المستشفى؟
قال: من مجلس الكنائس الإنكليزية، وهو منظمة تقوم بأوجه جمّة من النشاطات الخيرية والإنسانية في بريطانيا وفي العالم.
سبحان الله.. أوليست هذه هي المأساة بعينها.. أوليست هي المأساة التي تبكي لها القلوب وتنعصر لها الأكباد.. يبذل المسلمون عصارة نفوسهم وجهودهم في إعداد الإخصّائيين في كل فرع من فروع العلم والمعرفة آملين بذلك خيراً وتقدماً في مجال الحياة، حتى إذا حان قطاف الثمار جاء غيرهم يقطفها، وبهذا لا تزداد البلاد المتخلفة إلا تخلفاً، والبلاد المتقدمة إلا تقدماً، وبعدما يغتصب الأقوياء الإخصّائيين المثقفين من البلاد المتخلفة يبقوم عليها ضعفها وتخلفها وجهلها، فيرسلون لها الإخصّائيين الأجانب بصورة مبشرين متعصبين ليفتنوها في دينها ويصيبوها في عقيدتها لا شك أن الذنب ذنب الغاصب في اقتطاف الثمرة، ولكنه أيضاً ذنب التفاحة المغتصبة وذنب من زرعها ولم يحمها.
من الحقائق الثابتة هنا أن عدد الأطباء الأجانب –والمسلمون يشكلون نسبة كبيرة منهم- يشكل ستة من كل ثمانية من الأطباء الشباب العاملين في التأمين الصحي البريطاني، ومن الحقائق التي يعترف بها حتى الإنكليز أنفسهم أنه بدون هؤلاء الأطباء فإن نظام التأمين الصحي سينهار.. وكأن البلاد المتخلفة مزرعة يزرع فيها الأخصائيون ليصدروا بعد ذلك إلى البلاد المتقدمة.
لاشك أن للمشكلة جذوراً عميقة، بعضها ديني وبعضها اجتماعي واقتصادي.. ولكن الحقائق مرّة وبمنتهى المرارة، ولعل الأخِصّائيين الذين باعوا وطنهم واستوطنوا بلاد الغير يعودون لنفوسهم وضمائرهم ودينهم، فيهبوا لنجدة وطن يستغيثهم وإني لأسأل الله تعالى اليوم الذي أنهي فيه دراستي بأقصى سرعة.. أعود بعدها لخدمة وطني وديني.
(6)
أنا.. والقسيس
مخطئ من يظن أن المسيحية في بريطانيا قد أصبحت أثراً بعد عين، أو أن الإنكليز قد ودعوا المسيحية وداعاً لا لقاء بعده.
ومخطئ كذلك من يعتقد أن المسيحية لا تزال تلك القوة الفعالة التي تحرك ضمائر الناس ووجدانهم وتملي عليهم فلسفتها في تصوراتهم وسلوكهم.
وإن ناظراً إلى مكتب الإحصاءات القومي يرى أن خمساً وسبعين بالمائة من عامة الشعب البريطاني لا يؤمنون بالمسيحية ولا بأي دين على الإطلاق، ولكن يرى من جهة أخرى أن حركات الأحياء المسيحية والجهود التبشيرية الضخمة التي يقوم بها مجلس الكنائس البريطانية في آسيا وأفريقيا لها من الحيوية والفعالية ما ليس لغيرها من المؤسسات والمنظمات.
وبريطانيا وإن كانت بلد الإنكليز، إلا أنه تعيش فيها أقليات من مختلف الأجناس والعقائد، ورغم أن دين الأغلبية هو المذهب البروتستانتي، إلا أنك ترى فيها اليهودي والبوذي والمسلم والسيخ، وترى الإنسان الأبيض والأسود والأصفر.
وأذكر أنني كنت في المستشفى ذا يوم، وإذا برجل في متوسط العمر، وقد خط الشيب فوديه.. وارتدى حلة سوداء وقميصاً أسود ذا ياقة بيضاء فعرفت أنه قسيس بروتستانتي.
اقترب مني بلطف وقال: من أي بلد أنت يا دكتور؟..
قلت: من سورية.
قال: نعم.. لقد تبادر لظني أنك عربي، لقد زرت مراكش منذ فترة قريبة فلي قريب هناك يعمل بالتبشير.. وكم وددت لو أستطيع زيارة الشرق الأوسط.. مهبط الأنبياء.. أعتقد أنت مسلم أليس كذلك؟
قلت: بلى.. هذا صحيح..
قال: إن الإسلام قريب من المسيحية وبينهما في المبادئ تشابه كبير.. وأنا أستغرب أن يتفرق أصحاب الأديان وربهم واحد.. لقد تأثر الإسلام كثيراً بالنصرانية، فقد تحدث الكتاب المقدس عن الله والأنبياء واليوم الآخر وكذلك فعل القرآن..
قلت: إن لي في الموضوع رأياً آخراً.. فليست القضية قضية تأليف كتاب أو بحث حتى ينقل أحد الكاتبين عن الآخر.. ولكن وكما نعتقد نحن المسلمون فإن الديانتين السماويتين من الله.. وأن الله الذي أرسل عيسى قد أرسل محمداً وما جاء من تشابه في رسالتيهما فإنه يشير إلى وحدة مصدرهما وهو الله تعالى..
قال: ولكن لو كان مصدرهما واحداً لتشابها تماماً وكلُّنا يعرف أن بينهما أيضاً الكثير من نقاط الخلاف..
قلت: نعم.. وذلك لأن المسيحية بدّلت وبقي الإسلام على صفائه، فحصلت الفروق.
قال: وكيف؟
قلت: لأن المسيحيين قد عدلوا عن تعاليم التوحيد الصافي كما نزلت على عيسى عليه السلام، إلى تعاليم للتثليث كما ارتآها بولس من أب وابن روح قدس..
قال: ولكنها إرادة الله الذي أراد التضحية بابنه المسيح.. وجعله يتألم عمداً وعن سابق قصد ليغفر بذلك خطايا بني آدم.. فكل بني آدم خطّاؤون وللمغفرة هم محتاجون..
قلت: قد يعتقد إخواننا المسيحيون أنهم خاطئون منذ الولادة.. ولكننا المسلمين نعتقد أننا ولدنا على الفطرة الصافية.. وما يقرر مصيرنا في هذه الدنيا هو أعمالنا.. إن خيراً فخير.. وإن شراً فشر.. وليس لمخلوق أن يغفر ذنوب الآخر.. ولن ينفع مذنباً أن يموت آخر في سبيله.. وكل نفس بما كسبت رهينة.
قال: غريب!!
قلت: بل وأكثر من هذا، فحتى ولو أراد الله غفران خطايا بني آدم.. فهو قادر عادل جبار.. وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.. ولن يحتاج في ذلك إلى بعض العصاة ليصلبوا "ابنه" ويدقوا في أيديه المسامير.. وتعالى الله أن يكون له ولد.. فهو الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد..
قال: ولم لا يكون لله ولد.. وهل يُخِلُّ بعظمته أن يكون له ولد..
قلت: نعم..
قال: ولمَ؟
قلت: إن الكمال المطلق هو الله.. والقدرة المطلقة هي الله.. والمعرفة المطلقة هي الله.. وليس الله كأحد من البشر.. وما كان له أن يتخذ زوجاً ولا ولداً، ولو اعتقدنا غير ذلك لكنا آثمين في حقه تعالى جاهلين بحقيقته.
قال: ولكن المسلمين يؤمنون بيسوع المسيح.
قلت: نعم فهو نبي مرسل.. عيسى هو رسول الله.. كلمة الله وروحه وليس ابناً لله وليس هو الله..
قال: أو تعتقد أن الإسلام هو دين الله الخالد؟..
قلت: وهل في هذا شك؟
فال: وما الدليل؟
قلت: لو نظرت في الكتاب الذي أنزل على محمد –صلى الله عليه وسلم- وفي الكتاب المقدس لوجدت الدليل..
قال: وكيف؟
قلت: إن العهد القديم هو كتاب اليهود.. والعهد الجديد هو كتاب النصارى، بينما القرآن هو كتاب البشرية كلها.
وقد حفظ القرآن كما أنزل على نبيه محمد –صلى الله عليه وسلم- لأنه يعلم أنه هو الدستور الخالد.. ولم يحفظ التوراة ولا الإنجيل لأنه يعلم أنها مؤقتة لزمانها.. لهذا اختلف المسيحيون حول صحة أناجيلهم ولغاتها وترجماتها.. ولم يختلف المسلمون حول قرآنهم.
قال: ولكن الكتاب المقدس يخاطب البشرية كلها.. وليس اليهود والنصارى.
قلت: لو كان ذلك صحيحاً، أما كان حريّاً بالأناجيل أن تنظم حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بالإضافة إلى أمور العقيدة؟..
لقد اهتمت الأناجيل بالناحية الروحية للإنسان.. وأهملت ما عداها تاركة ما لقيصر لقصير, وما لله لله..
وحاشى لكتاب ينزله الله.. ليكون دستور البشرية الخالد.. أن يترك جانباً هاماً من حياتهم يشرعه قيصر حسب أهوائه.
فالمسيحية كما هي في الأناجيل تعاليم روحية.. سمت بروح أتباعها عن وثنية روما ومادية اليهود.. وجاءت لتهذب اليهود في وقتها.. وأفسحت المجال بعدها للإسلام.. ليكون عقيدة القلب، وغذاء الفكر، وشريعة الحياة، ولم يترك القرآن جانباً من الحياة لقيصر ولا لكسرى.. وفي هذا الكمال، وفي غيره النقص.
قال: أو تعتقد أن محمداً رسول؟
قلت: ليس هذا فقط وإنما سيّد الأنبياء.
قال: ولكن إنساناً تزوج تسعاً.. هو إنسان شهواني.. وشهوانيته تهبط به عن آفاق الروح العليا.
قلت: وهل قرأت سيرة النبي محمد؟
قال: لا..
قلت: لو درستها لما قلت هذا، فالشهواني هو الذي يجري معربداً وراء النساء ولقد تزوج محمد الشاب وهو في الخامسة والعشرين من خديجة الكهلة وعمرها أربعون وبقي مخلصاً لها حتى توفيت وهو في الخمسين من عمره، وقد ذوت فيه فورة الشباب، ومعظم زيجاته التالية كانت لأسباب سياسية أو اجتماعية كما ترى في سيرته.
ولكن لنأخذ الموضوع من وجهة نظر أخرى.. لو قال لي أحد من الناس أن تشرشل هو إنسان شهواني لكذبته.. دون أن أعرف شيئاً عن حياته الخاصة:
قال: لماذا؟
قلت: السبب واضح.. ومنطقي.. فلو كان تشرشل شهوانياً لما تركت له حيوانيته متسعاً للتخطيط العسكري المحكم، والتفكير الاستراتيجي البارع، الذي سار ببريطانيا وسط قنابل الحرب العالمية الثانية، وخرج منها منتصراً رافع الرأس، إن الإنسان الشهواني هو الذي يهدم، وليس له حول ولا قوة على البناء والإبداع.
هل يعقل لنبي ينتشر دينه في كل أرجاء المعمورة، ويؤمن به مئات الملايين. الإنسان الذي دكّت تعاليمه العروش والمماليك، وعبرت تعاليمه المكان والزمان حتى رأيتني اليوم وأنا أحد أتباعه واقفاً أمامك.. هل يعقل لمن بنى هذا الطود الشامخ أن يكون إنساناً شهوانياً؟
قال: إن كلامك حق وبه منطق..
قلت: ليس هذا هو المنطق فقط.. ولكنها الحقيقة.. وأنا آسف إذ أقول أن التعاليم الكنيسية هي التي روّجت مثل هذه الأفكار اللامنطقية.. لكي تجعل من تعصب أتباعها وجهلهم عقبة في سبيل ارتداد أتباعها عن النصرانية ودخولهم الإسلام.
قال: أنا معك.. هو لا يعقل أن يكون شهوانياً.. بل هو إنسان عاقل ومفكر وحكيم ولكن بعض تعاليمه تنبو عن المألوف وعن الطبيعة البشرية.
قلت: وما قصدك؟
قال: لقد سمح لأتباعه أن يتزوجوا أربعة نساء.. وأباح لهم الطلاق.
قلت: قبل أن أحدثك في مزايا التعدّد وضرورة الطلاق هل لي أن أسألك عن ظروف إباحة الطلاق في إيطاليا..
قال: تعني إباحة الطلاق كقانون مدني رغم معارضة البابا الشديدة له.؟؟
قلت: تماماً.. هذا ما قصدته. وإن كانت لي كلمة أقولها هنا، فهي أن رب محمد الذي أوحى بالقرآن إلى محمد عرف أن الطلاق ضرورة في بعض الحالات، فأباحها لنا في حدود، وقد ألهم محمداً أن الطلاق هو أبغض الحلال إلى الله.
لقد اضطر المسيحيون إلى محاربة الكنيسة عشرين قرناً، ثم رقصوا في ساحات روما عندما أبيح لهم الطلاق، ولم يضطر المسلمون إلى مثل ذلك فقد وهبهم هذا الحق من هو أعلم بالنفوس وعلمهم كيف يستخدمونه.
قال: والزواج بأربع؟
قلت: خير من البغاء السري والعلني، والزواج بأكثر من واحدة ليس القاعدة، ولكنه ضرورة في بعض الأحيان وللضرورة أحكام، وإذا تأملت في الحلول البديلة لوجدت أن نظام التعدد هو الأفضل.
قال: لقد اجتاح المسلمون العالم بحد السيف، وفي هذا انتهاك لحق الإنسان بينما انتشرت المسيحية بالحسنى والسلام..
قلت: هل لي أن أضرب مثلاً؟..
قال: نعم.
قلت: افترض أنك مسيحي جالس في بيتك، وأنا المسلم حاملاً البندقية في يدي قد أستطيع أن أسلبك مالك مثلاً، أو جهاز التلفزيون الذي عندك أو أي شيء تملكه ولكن هل تعتقد أنني أستطيع أن أغيّر ما في قلبك؟
قال: لا..
قلت: وفي أحسن الاحتمالات فإنك تقول لي أنك أسلمت، وتضمر المسيحية في قلبك حتى إذا وهن سلاحي، أو صار لك سلاح أقوى، جهرت بعقيدتك وانقلبت عليّ أنا الذي أجبرتك على تركها.
قال: هذا صحيح.
قلت: لو نظرت لمعاملة المسلمين للشعوب المفتوحة لرأيت أنهم لم يجبروهم على ترك دينهم، وإنما عرضوا عليهم الإسلام أو الجزية.. ولو لم تؤمن الشعوب التي اعتنقت الإسلام كدين حق لتركته مباشرة بعد توقف مجد الفتوح الإسلامية الأولى.. يوم خمدت قوة الإسلام العسكرية.. وأكثر من هذا.. لم يكن المسلمون دائماً هم الفاتحين يوم انتشر الإسلام.. فقد كانوا أحياناً من المغلوبين.. وفي خبر المغول البرهان.
قال: أعرف عن المغول أنهم قبائل نصف متحضرة سكنت آسيا الوسطى.
قلت: وقد زحفوا على الخلافة الإسلامية فحطموها في أركانها الأربعة.. وجعلوا ماء دجلة يجري أسودَ لأيام عديدة لكثرة ما أُلقي فيه من الكتب كما تقول الرواية.. كان المغول والتتار غزاة منتصرين.. وعساكر جبارين.. والمسلمون قبائل متفرقة.. ومدائن خربة.. ومع ذلك فقد حصلت المعجزة، اعتنق المغول الإسلام، وآمنوا به بشدة، وقاموا بعد ذلك ينشرون الإسلام في الأرض.. وكان لهم في الهند الملوك العادلون والأباطرة العظام..
قال: أو حدث ذلك حقاً؟..
قلت: أنا لا أختلق كلامي هذا.. ولو شئت لقرأت التاريخ.
إن الإسلام انتشر في أفريقيا الوسطى وفي أندونيسيا وماليزيا عن طريق الدعاة والتجار.. والذين لم يطلقوا رصاصة واحدة.. وفي عهد لم تكن فيه للإسلام سيوف تحمله إلى هذه البقاع.
قال: يجب عليّ فعلاً أن أعيد قراءة التاريخ.
قلت: وأنا واثق أنك عند قراءتك له، ستغير الكثير مما تعتقد أنه الحق الآن..
ونظر صاحبي في الأفق نظرة ساهمة عليها علائم التفكير العميق.. فبادرته.. لقد سألتني حتى الآن الكثير، فهل لي أن أسألك بدوري سؤالاً؟
قال: تفضل..
قلت: لم لم يحرم المسيحيون الخمر؟
قال: أنا شخصياً لا أشربها.
قلت: ولكن المسيحي الذي يشربها لا يعتبر مخالفاً لتعاليم المسيح..
قال: قليل من الخمر وليس الكثير.
قلت: ولعل قليلاً من الخمر مع قليل من الخبز.. يجعلك ترتوي من دم المسيح وتشبع من لحمه..
قال: أنا بروتستانتي.. ولا أؤمن بهذه العقيدة، فهي كاثوليكية الشكل والتطبيق.
قلت: حسناً.. ولكن لو نظرت إلى بريطانيا.. التي علمها الإنجيل.. أن قليلاً من الخمر يحمي قلبها لرأيت أنها قد أصبحت تعاني من أزمة يسمونها الكحولية ومن جماهير يسمونهم الكحوليين.. والكحوليون هم سادة من ارتكب الجريمة..
قال: هذا صحيح..
قلت: أوليس حرياً بشريعة أنزلها الله لتحكم عباده.. أن تخلصهم من هذا الغول الاجتماعي وتمنعه..
قال: ولكن المسلمين بشريون رغم تحريم الخمر في دينهم.
قلت: أن يشرب بعضهم فهم قلة نسبياً، ومن يشرب منهم الخمر يعرف أنه عاص وقد يتوب العاصي يوماً.. أما البريطاني السكير فهو لا يشعر حتى بالذنب..
قال: هذا صحيح.. وللكنيسة الآن نشاط مشهود في الحملات ضد الكحولية والكحوليين.
قلت: نعم ولكن في رأي الإسلام أنّ سحق رأس الأفعى خير من بتر ذنبها، وأن الضرب على يد المجرم خير من معالجة ضحاياه.
قال: ولكن أحب أن أذكرك بخاطرة طالما داعبت خيالي..
قلت: وما هي؟
قال: إذا نظرت إلى العالم المسيحي وجدته متعلماً متحضراً متمدناً مثقفاً.. وإلى العالم الإسلامي وجدته فقيراً جاهلاً مريضاً مستعبداً.
قلت: هوّن عليك.. إن الازدهار الصناعي الغربي اليوم ليس مسيحياً وإن حصل في بلاد تدعي أنها مسيحية..
لا يوجد هناك دين للطيارة.. ولا للسيارة.. ولا لحقنة البنسلين.. واليابانيون قد صنعوا خيراً من صنعتكم وهم وثنيون.
التكنولوجيا أداة حيادية يستعملها المسلم والكافر والمسيحي.. ويوم يوفق المسلمون لتطبيق التكنولوجيا في مجتمع مسلم سيرى العالم أمام عينيه المدينة الفاضلة" سيعرف الغربيون كيف يحيا الإنسان المثالي.. وإنما لا أدعي أن المسلمين الحاليين هم المثال الحي للإنسان المسلم.
لقد ازدهرت أوربا عندما تركت دينها.. وانحطت بلادنا الإسلامية عندما تركت دينها..
قال: ولكن الإسلام يبقى حبراً على ورق.. ما لم تقدموا للعالم ذلك النموذج المسلم الحي الذي تتكلم عنه.. فالمبادئ لا تحيا في الكتب وإنما على سطح الأرض.. في المدن والقرى والأرياف وفي المصانع.. ومحاريب العبادة وهياكل الفنون.
قلت: هذه والله كلمة حق.. أشهد لك بها.
قال: ولكن يبدو أنك مسلم متعصب.. أوكل المسلمين أمثالك؟
قلت: لست متعصباً وليس كل المسلمين أمثالي. ولكني مسلم فهم دينه على النحو الذي يرجو أن يرضي الله ورسوله.. فلم تنطل عليه أحابيل المبطلين.. ولو فهم كل المسلمين دينهم على حقيقته لكانت الدنيا غير الدنيا التي تعيش فيها اليوم.
وإن سميت هذا تعصباً فإنك حرّ والنعوت تختار منها ما تشاء.. ولكن لو سميته صدقاً مع النفس.. وفهماً للعقيدة لوافقتك على ذلك..
قال: لقد كان حديثنا ممتعاً حقاً.. ولديّ الآن رغبة أن أدرس الإسلام.. وأطلع عليه أكثر من أية فترة مضت.
قلت: أدرس الإسلام.. وأرجو لك الهداية.. وستجدني مساعدك إن شاء الله..
أم أديم
18-09-05, 10:54 AM
(7)
الجوهرة المفقودة
كتب إليّ أمير يقول:
أخي محمد..
أكتب إليك رسالتي هذه من قارب سياحي يمخر بنا عباب نهر التايمز في لندن ونحن هنا مجموعة من الأطباء أرادت الخلو بنفسها ولو ساعة بعيداً عن جو المستشفيات الخانق وأردهتها المزدحمة.
الطقس الآن غائم مع ورذاذ خفيف من المطر.. الشيء الذي يذكرك دائماً أنك في لندن حتى ولو أردت نسيان ذلك.. ولكن نشرة الطقس الصباحية بعثت فينا التفاؤل بأن الشمس سوف تطل بوجهها الوضاء بين الحين والآخر، لتذكرنا أيضاً بأنها لا تزال موجودة في سماء لندن، وكأنها تعلم أن البعد مدعاة للنسيان.
ومشى بنا القارب يتهادى على صفحة المياه الرقراقة تلفحه بين الفينة والأخرى هبات رياح باردة، كان الوقت في باكورة الصباح وأمامنا من الوقت متسع للتعرف على الكثير من معالم المدينة الشهيرة، ولكن ما كنت أتوق إليه منذ زمن بعيد هو زيارة "برج لندن" وهو القلعة التاريخية الشهيرة التي تحكي تاريخ الإنكليز بما فيه من تقاليد ومراسيم يحرصون عليها ويفتخرون بها، وتحكي أيضاً قصة مذابحهم وخلافاتهم السياسية والدينية، وكان أشد ما تتوق إليه نفسي هو رؤية جوهرة "كوهينور" الموجودة بين نفائس الكنوز الملكية في برج لندن، والتي حملها الإنكليز معهم مع جملة ما حملوا من بلاد الهند في قمة جبروت العهد الفكتوري.
كانت الأبنية الشامخة تطل على ضفتي النهر في تناسق هندسي جميل، والدليل السياحي يحكي لنا تاريخ كل واحدة منها، فهذا هو مبنى البرلمان وبجانبه ساعة "بيغ بن" وهذه هي مستشفى "سانت توماس" وهناك في الأفق البعيد يلوح "جسر البرج" ببرجيه الشهيرين وجناحيه المتحركين اللذين يفتحان لمرور السفن.
وما زال القارب يسير بنا حتى بلغنا برج لندن، وكانت الشمس قد بدأت القيام بجولتها الأولى لهذا الصباح، وبدا البرج بناء أثرياً ضخماً مربع الشكل، استرعى انتباهنا بموقعه الاستراتيجي الذي يتحكم في مدخل النهر إلى المدينة وهو محاط بجدارين للدفاع، للجدار الخارجي منهما ستة أبراج دفاعية من جهة النهر وبرجان آخران من جهتي الشرق والغرب، وحط بنا القارب على ضفة النهر.
قال لنا الدليل: أما الآن فسوف نقوم بزيارة أقدم قصر في إنكلترة، لقد بناه الملك "وليام الفاتح" منذ تسعة قرون خلت، وقد تعاقبت الملوك عليه منذ ذلك الحين، كل يضيف له أثراً، وهو ليس قصراً للإقامة فقط وإنما حصن للدفاع وسجن للنبلاء الذين يخرجون على السلطة الملكية.
كان يجول بخاطري وأنا أدخل البوابة الرئيسية وأرى رجال الحرس الملكي بثيابهم المزركشة الزاهية الألوان وسيوفهم اللامعة وبلطاتهم الحديدية أن هذا هو عنوان تلك السلطة المطلقة والقبضة الحديدية التي سلطها الملوك على شعوبهم فسلبوا خيراتها واحتموا بها خلف الحصون والأبراج، وسخروا لها أموال الناس وأرواحهم في سبيل شهوة الفتح والنصر، فعلى كل قميص أحمر مزركش يرتديه الحرس الملكي قطرة دم جندي إنكليزي، أو قطرة دم ضحية قتلها الإنكليز في إمبراطوريتهم التي لم تكن الشمس تغرب عنها.
ومشى بنا الدليل إلى بناء مربع عالي الجدران، وقال: هذا هو البرج الأبيض وقد كان سكناً للملوك الإنكليز في القرون الوسطى، كانت العائلة المالكة تسكن في الطابق العلوي، أما حاشية الملك وأعوانه فكانوا يجتمعون في الطابق السفلي. ثم سار بنا إلى مكان آخر وقال: أما هذا فهو "برج الدماء" وهو سجن هذه القلعة، وقد لاقت الكثير من الشخصيات الكبيرة حتفها في برج الدماء هذا، وسألت الدليل عن كتاب أثري ضخم عرض داخل صندوق زجاجي فقال إنه كتاب تاريخ العالم الذي ألفه السير "ولتررالي" خلال سجنه هذا الذي استمر ثلاثة عشر عاماً وقد نشره عام (1614) أي قبل قطع رأسه بأربع سنوات، وفي نفس البرج قتل الأمير "ادوارد الخامس" وأخوه الصغير "ريتشارد" خنقاً، وقد اكتشف هيكلاهما العظيمان في حفرة قرب البرج الأبيض عام (1933) ثم سار بنا إلى مكان آخر وقال إن هذا هو "برج الملح" الذي بني في عهد "هنري الثالث" وفيه سجن أعضاء جمعية الجزويت المسيحية واضطهدوا هنا وعذبوا على يدي الملك الظالم.
وطلبنا من الدليل أن يقودنا إلى "برج واكفيلد" حيث توجد جواهر التاج البريطاني، فقال إنها لم تعد في هذا البرج الآن، فقد بقيت فيه منذ عام 1870 وحتى عام 1967 حيث نقلت إلى قاعة بنيت خصيصاً لها في ثكنة "واترلو".
وذهبنا إلى هناك، وكان المكان مزدحماً بالناس من كل الأقطار والجنسيات، وقد أحيطت الجواهر بالأبواب الحديدية وحولها الحرس من كل الجهات. كانت مجموعة عجيبة من التيجان والسيوف المرصعة والصولجانات والحلي الثمينة، وقد نضدت بطريقة أخاذة على وسائد من المخمل الليلكي تزيدها جمالاً، قال الدليل: أما هذا فهو تاج الملكة فيكتوريا، وبه ما يزيد على ثلاثة آلاف قطعة من الماس واللؤلؤ والياقوت، أما تاج الملكة الأم، وهي أم الملكة اليزابيث الثانية الحالية فقد صنع لها خصيصاً في حفلة تتويج زوجها عام (1937) وبه الجوهرة المشهورة "كوهينور" أو "جبل النور" كما تسمى بالفارسية، وقد استخرجت من مناجم "غولكوندا" في الهند في القرن الثاني عشر، وتوارثها ملوك الهند وأباطرتها حتى انتقلت إلى ملكية التاج البريطاني في عهد الملكة فيكتوريا، وتقول الأسطورة أن الرجل الذي يملك هذه الجوهرة يجلب لنفسه الحظ التعيس، أما المرأة السعيدة التي تمتلكها فسوف تحكم العالم.
وراح الدليل يصف الجواهر وندرتها، وغالي أثمانها وروعتها، وأنا أقلب ناظري بين هذه الكنوز البراقة التي لا يحلم المرء بوجودها إلا في عالم الخيال والأساطير، والناس بين ناظر إليها مشدوه بعظمتها، ومتحسر أنه لا يملك مثلها.
ومرّ بخاطري قوله تعالى: "زُيّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حُسن المآب". وخطر ببالي كيف ربى القرآن الناس وهداهم، لم يحضَّ القرآن أن يكون الناس رهباناً يهجرون الحياة الدنيا ويتعبدوا في رؤوس الجبال، ولكنه نهاهم أن يتكالبوا على الحياة الدنيا ويجمعوا القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وعلمهم أنه ما آمن رجل بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم به.
كانت كوهينور واحدة من تلك الجواهر التي اغتصبتها عساكر الإنكليز من أطراف المعمورة، وهاهم الآن يعرضون قوائم المسروقات على عروش ملوكهم وفي خزائنهم الحديدية، وطاف بنا الخيال.. ورأيت العساكر تهتف والخيول تصهل والنساء تنوح والأطفال تقتل والبيوت تهدم والجواهر تسرق.. وحانت مني التفاتة إلى "كوهينور" في بريقها ورونقها.. ووجدتني أقول لها: أيتها الجوهرة الحزينة أيتها اللؤلؤة الحبيبة التي اكتوى قلبها من جراح البعاد.. كأني أراك تحنين إلى البلاد الدافئة، هناك وراء السهول وخلف البحار، حيث تخترق أشعة الشمس كل ذرة من ذراتك فتبعث فيك الحرارة والدفء، هناك في ربى الهند الحالمة بلاد القباب المزركشة والمآذن المرمرية، هناك ترعرعت وفيها نشأت ورأت عيناك النور، حتى إذا اشتد ساعداك وشبّ قوامك جاءك القراصنة من وراء البحار وحملوك أسيرة وحيدة، وكبلوك خلف القضبان الحديدية، وأحكموا عليك المفاتيح والأقفال، ألا أين زرقة الأفق السماوية من سراديب مظلمة باردة.
ألا ما أقساك أيها الزمان!! فتح أهلوك أ‘ينهم ذات صباح.. فتحوا الأعين الذاهلة الذابلة التي نامت واستمرأت بالنوم.. فإذا القراصنة تملأ الفيافي والقفار والجوهرة الفقيدة تبكي ولا من مجيب. وجمع أهلوك عتادهم وخفوا للجهاد، ولكنها نفوس هينة.. والنفر قليل والقرصان كثير.. والربع جاهل جائع والقرصان مثقف مسلح، ولكن لا أكتمك أيتها الجوهرة الحزينة.. إن همي أكبر من حزنك وأعمق، فأنت هنالك وحيدة في غربتك، وقد يمن الله على الغريب يوماً بالإياب ولكن إذا عدت أيتها الجوهرة الغريبة.. فإنك ستبقين غريبة، فلا أهلك هم الأهل، ولا الديار هي الديار، لقد سلبهم القرصان كل شيء يا جوهرتي، سلبهم عقيدتهم وثقتهم بأنفسهم وبربهم، ولو كانت النازلة في سلب المتاع لهان المصاب ولكنها في صميم القلب وخبايا النفوس، لقد انهزم أهلك يا جوهرتي في عسكرهم وأرضهم.. في إيمانهم وفكرهم.. وفي حياتهم ومعاشهم فراحوا يلهثون وراء هؤلاء القراصنة يطلبون ذليل العيش وساقط المتاع، لقد تحول سباعك إلى حيوانات أليفة يلوح لها القرصان بسوطه فتذل وتخنع، ويوجهها للطريدة فتنهش وتزأر لقد نسي أهلك طباع الأسود والفهود، وأتقنوا فنون البغام والقرود، فراحوا يقلدون القرصان في مشيه وأكله وتخنثه وعربدته، يضحكون إذا ضحك ويصيحون إذا تألم، وليتهم تعلموا مع ذلك فن المبارزة والتفكير، فالقرصان قد علمهم أن ذلك لا يليق بالعبيد.
لقد آلمتك يا جوهرتي وزدت همومك هموماً، ولكن لا بأس عليك فإن الصباح قريب وهناك خلف الظلمات المدلهمة تلوح أشعة الفجر البنفسجية، وبين هذه النفوس الخانعة نفوس سمت بإيمانها وعقلها أن تظل في نير القرصان.. لقد آمنت بربها وبدينها، واستعادت ثقتها بنفسها وبربها، ومشت على درب الفلاح.
وطاف بي الخيال في أودية مختلفة.. وطفت مع كوهينور في مختلف مراحل التاريخ، ماشياً معها منذ ولادتها وحتى أصبحت أسيرة في برج واترلو، ولم أنتبه إلا وبقية زملائي قد تركوني ومضوا.. وهرعت للحاق بهم ولم أدركهم إلا وهم يحطون ركابهم في القارب.. يتابعون فيها جولتهم على معلم المدينة وآثارها.. ومشى القارب بنا ثانية يمخر عباب نهر التيمز، وتراءت لي خلف الأفق جبال النور إلا أنّ النور هو الذي يضيء في قلب الإنسان.. وليس هو نور اللؤلؤ والمرجان..
"الله نور السماوات والأرض" ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور".
لندن 10 -6-1976
(8)
الله.. والعلم.. والقدر
"روبرت" زميل إيرلندي مهذب ولطيف المعشر.. وهو وإن كان لا يزال شاباً في مقتبل العمر إلا أنه حصل على قدر كبير من الخيرة في جراحة الأذن ومستقبله يبشر بأنه سيكون جراحاً لامعاً..
تخرج من جامعة دبلن منذ قرابة ست سنوات، قضاها يعمل في المركز التعليمي لأمراض الأنف والأذن والحنجرة في مدينة برمنغهام.. وخلال ذلك حصل على شهادة الاختصاص وهو الآن يحضر الدكتوراه التجميلية للأذن عند المولود حديثاً فلا تراه إلا مطالعاً في المكتبات عن أحدث الطرق الجراحية أو في قاعات العمليات محاولاً إجراء أدق العمليات الجراحية وأكثرها اتقاناً..
وكل من عرفه يعلم أنه إنسان مخلص في عمله.. دقيق في مواعيده.. يبذل قصارى جهده لشفاء مرضاه وتخفيف آلامهم..
ولم نكن زميلين في العمل فقط.. وإنما في السكن أيضاً.. وقد كنا نسكن في شقتين متجاورتين داخل المستشفى، لا أكتمك أنهما ليستا مريحتين ولكنهما كانتا رخيصتي الكلفة تتناسبان مع دخلنا المحدود.. ولم أكن مهتماً بتغيير شقتي لأنني سوف أعود إلى الوطن قريباً.. أما زميلي فكان يبحث دائماً عن سكن مريح يؤويه وعائلته الصغيرة.. وطالما يشكو من عدم وجود حديقة تلعب فيها طفلته التي تجاوزت ثلاث السنوات من العمر.
جاء روبرت لزيارتي ذات يوم.. وكان الوقت متأخراً في إحدى أمسيات الصيف الماضي.. وأسميه صيفاً لأنه كان الصيف الوحيد الذي شاهدته منذ وطأت قدماي هذه البلاد.. بل ويقول المعمرون إنه الصيف الوحيد الذي أشعرهم بالدفء منذ زمان طويل..
ورغم أن الساعة كانت تشير إلى السابعة مساء إلا أن الشمس كانت لا تزال في كبد السماء فنزلنا نتجول في حديقة المستشفى.. ونتجاذب أطراف الحديث..
كان حر اليوم قد بدأ بالزوال وبدأت نسمات باردة عذبة تهب بين الحين والحين في دلال وتراخ فتشع في الجو حلاوة وأنساً..
ثم راحت أشعة الشمس تميل للغروب وانعكس لون الشفق المذهب على صفحة الماء فأصبحت كسبائك العقيان الصافي الذي يبهر الأبصار.
وبادرت روبرت بالحديث قائلاً: انظر إلى هذا الجمال الباهر أوليست الطبيعة لوحة فنّانة رسمتها يد فنان ماهر.. وقد أبدعتها يد خالق قادر هي يد الله..
قال: فكرة قديمة.. شاعرية.. ولكنها غير علمية..
وقد فوجئت فعلاً لهذا الجواب الجاف، ولم أكن أعلم شيئاً عن تفكير روبرت الديني من قبل..
فقلت: أما أنها فكرة قديمة فهذا صحيح..
وأما أنها شاعرية فهذا انطباع شخصي..
وأما أنها غير علمية فهذا حكم يناقض المنطق العلمي..
قال: إن فكرة الإله لا تروق لي.. وحتى لو وجد ذلك الإله فإنه كائن بعيد.. غير مهتم بشؤوننا على الإطلاق..
قلت: وهذا حكم شخصي آخر.. هل حاولت البحث عن الإله أو التقرب إليه في أي أمر من الأمور..
قال: إن الإله هو فكرة ابتدعتها خيالات الإنسان القديم لكي تعينه على تفسير المبهمات التي كانت تحيط به، فهو لم يكن يعرف ما وراء الغاية التي تحيط به، أو ماذا وراء النهر الذي يعوق مسيره، ينظر إلى الصواعق بعين الخوف، وإلى الشمس بعين الأمل.. فقال إن لهذه إله شريراً يخافه.. ولهذه إلهاً خيّر يرجوه.. وقد كان هذا منطقياً في زمن كانت فيه المعارف محدودة، وإمكانيات البشر مقيدة، - أما الآن وبعد أن اكتشف الإنسان مجاهل الفضاء ووصل إلى القمر وفلق الذرة وسيطر على الطبيعة- فلا مدعاة هناك لوجود الإله. إن الإله الذي يجب أن تعبده اليوم هو العلم.. فإذا تعرضنا لمشكلة لجأنا إليه وهو يحملها.
قلت: ولكني لا أوافقك على ما تقول.. لأسباب عديدة، أولها أن الإيمان بالله هو حاجة فطرية في الإنسان.. تجدها عند الشعوب البدائية وكذلك عند الشعوب المتحضرة.. وإذا كان الرغب والرهب من العوامل التي تقرب الإنسان من الإيمان.. فهما ليسا أهم هذه العوامل. إن الإيمان بالله يمنحنا تلك الطمأنينة النفسية.. والتوازن الروحي الذي يفتقده الملحدون.. إن الإيمان بالله يهبنا ذلك الملاذ الأمين الذي يهرع إليه واحدنا في شدته يستمد منه العون ويسأله الغوث.. وهو الحقيقة المطلقة والقدرة السرمدية التي تنظم أمور هذا الكون وتحفظه.
قال: لا أكتمك يا محمد.. أنك واحد من كثيرين من الشرق قابلتهم.. لا يزالون يؤمنون بفكرة الإله.. وقد أهملتها الشعوب الأوربية عملياً منذ أزمنة طويلة.
قلت: وهذا هو الداء يجثم عليكم اليوم، تتململون منه وأنتم لا تعرفون العلاج.
قال: بل نحن قوم متقدمون.. وفي مجيئك لطلب العلم في هذه البلاد برهان على ذلك.
قلت: والله أنت محق في جانب ومخطئ في جوانب.. نعم لقد جئت هذا البلد لكي أتعلم منكم الطب والعلاج.. وهو ميدان قصّرنا فيه ردحاً من الزمن.. ولكن عندما تأتي مسائل العقيدة والأخلاق.. والعلاقات الاجتماعية والإنسانية فإنني أشعر أن لديَّ الكثير لكي أعلمكم.. وفي الإسلام دروس لو عرفتموها لارتفعتم منازل عمّا أنتم عليه.
قال: وكيف ذلك؟
قلت: خذ المثل الذي ذكرته أنت وهو العلم.. يتفق الإسلام معكم في ضرورة طلب العلم والبحث وراء الحقيقة.. والحكمة ضالة المؤمن.. ولكنه وهو يسير وراء الحكمة يعلم أن للعلم مجالاً محدوداً.. ولا يتخذ منه إلهه المعبود.. وأنت تعلم أن العلم يناقض نفسه من حين لآخر.. وهو متحول مع الزمن.. وإذا عبدت متحولاً تزعزعت عقيدتك وطارت نفسك أهواء..
قال: ولكن العلم الحديث يسر لنا أمور المعاش.. انظر إلى هذه البيوت الفارهة حيث يتوفر السكن الهنيء لكل عائلة.. وإلى السيارات الحديثة الأنيقة التي ينكب العلماء على تحسينها ورفع مستوى الأمان فيها حتى جاءت صنعة مبدعة تسر الناظرين.
قلت: أوتأمن أن تصاب في إحدى حوادث الطرق التي تقع كل يوم وأنت في أكثر السيارات أماناً.. وأحدث الطرق تصميماً.
قال: لا..
قلت: وهذا هو بيت القصد.. وهنا تتجلّى الحكمة من الإيمان بالله، فأنت بحاجة إليه وإلى اللطف في قضائه مهما كانت إمكانياتك التكنولوجية والمادية.
واستمر حديثنا ساعة من الزمن تجولنا فيها في مفاهيم مختلفة عن الله والطبيعة والإنسان حاولت خلالها أن أبيّن له وجهة نظر الإسلام التي بدت له غريبة تماماً للوهلة الأولى.. ولكنها حرّكت في نفسه كوامن ونوازع عميقة قد ران عليها ظلام الفلسفة المادية الباردة برود الثلج الإنكليزي في يوم ضبابي ممطر..
كنت أعلم أن الجدل شجرة عقيمة لن تورق الإيمان مهما سقيتها وتعهدتها وأن نور الهدى هو الفجر الذي –يهبه الله لمن يشاء ويبزغ في قلبه شعاعاً مشرقاً ينير جوانبه ويدفئ حجراته-
ومرت الأيام سراعاً ووجد روبرت ضالته التي كان يبحث عنها، فقد ابتاع بيتاً أنيقاً حديث البناء في ضاحية جميلة من ضواحي المدينة، تناسقت فيها ألوان جدرانه الوردية مع خضرة الحديقة الصغيرة اليانعة التي تحيط به.
كان بعيداً عن ضوضاء المدينة وضجيجها، ولم يعكر صفوه إلا دخان يتصاعد من أحد المصانع الشامخة في الأفق البعيد..
وأصبح روبرت يقضي أيام فراغه عاملاً في الحديقة منسّقاً أزهارها.. مشذباً أغصانها وهو يرقب بعين الرضى طفلته التي تمرح في أرجاء الحديقة ضاحكة مستبشرة.
إلا أن ليالي الدهر حبالى لست تدري ما يلدْنَ.. ويد الحدثان تأتي بما لا يتوقعه قلب الإنسان.. فما هي إلا شهران اثنان حتى تلقّى روبرت إنذاراً بإخلاء بيته في أقصى سرعة ممكنة وذلك لأن الخطر محدق.. وأخذ صاحبنا يحزم حقائبه ثانية ولم يكن بعد قد انتهى من عناء حملها إلى بيته الجديد.
وقابلته في شقة المستشفى ثانية وقد اكفهرّ وجهه وبدت عليه علامات الاستياء والقلق ورحت أستطلع الخبر فعلمت أنه تلقّى إعلاماً من الشركة التي كانت مشرفة على البناء بأن بعض المواد المستعملة في بناء سقف البيت، غير أمينة وقد تسبب السرطان.. وأنه يجب إزالتها من السقف حتى يصبح البيت صالحاً للسكن ثانية.
قلت: وما هي هذه المادة بالله عليك؟
قال: إنها تدعى "إسمنت الأسبستوز" وهي مادة مركبة مؤلفة من خيوط الإسبستوز مع إسمنت بورتلاند وتستعمل لتغطية سقوف المنازل وجدرانها.. وأنابيب المياه وقنوات التهوية.. وقد انتشر استعمالها في بناء البيوت الحديثة لكونها صلبة ومقاومة للاحتراق والتلف.
قلت: أليست هي نفس مادة الإسبستوز التي تسبب تليّف وسرطان الرئة عند عمال صناعة المواد العازلة.. والمواد المقاومة للاحتراق.
قال: بلى إنها نفس المادة.. وهناك دلائل تشير إلى أن وجودها في سقوف المنازل قد يؤدي إلى حدوث سرطان الرئة أيضاً.. وأنا أحمد الله على أنني ما أقمت في هذا البيت إلا شهرين فقط، فإن بعض الناس أقاموا في بيوت مثله لسنوات عديدة.. وهم يفحصون الآن فحصاً طبياً دورياً نظراً لاحتمال الإصابة عندهم.
قلت: أهنؤك بنجاتك من الخطر المحدق.
قال: بل هنئني أنني عرفت الله بعد ضياع طويل.. لقد علمتني هذه الواقعة أن الله موجود وأن قدرته محيطة بنا تتحكم في أقدارنا.. إن العلم الذي حاول تقوية جدران بيوتنا وجعلها أكثر مقاومة للاحتراق.. لم يعلم أنه قد –يهبنا السرطان في نفس الوقت-.
قلت: وقد علمنا رسول الإسلام العظيم صلى الله عليه وسلم أن نسأل الله دائماً العفو والعافية، ونسأله من فضله العظيم، فإنه يقدر ولا نقدر، ويعلم ولا نعلم، وإنه وحده علاّم الغيوب. وكذلك علّمنا أن نسأله نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع ونسأله الرضى بعد القضاء..
(9)
كتب إليّ أمير يقول:
إذا نظرت إلى مستشفى أمراض الأنف والأذن والحنجرة في برمنغهام راعك قدمه.. وحداثة الأبنية المحيطة به.. فجدرانه سوداء مكسوة بالغبار تذكرك بالأيام الأخيرة للثورة الصناعية، بينما ارتفعت حوله الأبنية الشاهقة بجدرانها اللامعة ذات الواجهات الزجاجية البرّاقة.
وأول ما يسترعي انتباه المتجول في أسواق برمنغهام هو عصريتها وحداثتها نسبة للمدن البريطانية الأخرى.. ولا عجب في هذا فبرمنغهام والمناطق الصناعية الأخرى حولها قد نالت حصة الأسد من القنابل التي أسقطتها ألمانيا النازية فوق بريطانيا.
ويقال إنه في إحدى ليالي الحرب فقط أغارت خمسمائة طائرة ألمانية فوق المدينة تاركة مركزها كتلة من الأطلال التي يتصاعد منها اللهب والدخان.
وقد أعاد الإنكليز بناءها بشكل عصري جميل، أما مستشفانا الذي نجا من القنابل الهلترية، فإنه لم ينج من يد البلى تنخر في جدرانه وأثاثه.
وكثيراً ما طالب الناس بتجديده وتغييره إلا أن الضيق المادي في أوقات التضخم المالي قد حدا بالسلطات إلى الإبقاء عليه متعللين بقيمته التاريخية مرة وقيمته المعنوية مرة أخرى.
نزلت في أحد أيام السبت متجولاً في شوارع البلدة متسوقاً بعض الحاجيات عبر الشوارع التي تعالت على جانبيها أبنية البنوك وشركات التأمين وقد أطلّت من هنا وهناك العمارات الضخمة للشركات التجارية الاحتكارية، وما إن ابتعدت قليلاً عن مركز البلد إلى الناحية الجنوبية، حتى تراءت لي على البعد قبة خضراء بصلية الشكل أوحت إليّ بالقباب المرمرية لمساجد الهند العظيمة، وقد توسدت بناء جميلاً أحاطت به النوافذ ذات الأقواس البديعة في تناسق هندسي جميل.
لقد تراءت لي وكأنها زهرة عطرة بين غابة من الزهور الاصطناعية من كل جنس ولون، وشعرت بحنين فما زلت أقترب منها حتى أصبحت على بعد خطوات، وإذا بصوت مؤذن يتعالى..
الله أكبر الله أكبر
حي على الصلاة حي على الفلاح
ارتعشت مفاصلي وأنا اسمع كلمة التوحيد تنطلق من قلب هذه المدينة الباردة.. وشعرت وكأني أفيء إلى واحة خضراء عبر صحراء قاحلة موحشة.
كان الوقت ظهراً.. فاصطفت جموع المصلين للصلاة.. ووجدتني أركع وأسجد معهم في خشوع.. وكان بينهم العربي والماليزي والهندي وكان بينهم الأفريقي والأوربي أمم اختلفت أجناسها وتوحدت عقيدتها.. بكلمة أن "لا إله إلا الله.. محمد رسول الله" ثم انفضّت الصلاة وتفرّق الناس.. فأخذت مصحفي وانتحيت جانباً أتلو ما تيسر من كتاب الله.
ولم تمض إلا دقائق حتى دخل المسجد عدد كبير من الفتيات الصغيرات تتراوح أعمارهن بين الست والعشر سنوات، وقد تأبطن كتيبات صغيرة عرفت أنها أجزاء من القرآن الكريم صعدن الدرج إلى السرادق العلوي من المسجد وبدأ المدرس يعلمهنّ تلاوة القرآن ويفسر لهن بعض ما يقرأن.
كنّ يرتدين الألبسة الفضفاضة.. وعلى رؤوسهن شالات بيض تغطي شعورهن.. فبدون كالملائكة الصغار.. ثم ارتفعت أصواتهن الطفولية البريئة تتردد في جنبات المسجد وكأنها تهليلات من الملأ الأعلى.. "قل هو الله أحد.. الله الصمد".. "تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير".
وشعرت أن روحاً مباركة تسري في هذا المكان، واقتربت من الإمام وحييته بتحية الإسلام.. كان شاباً باكستانياً عليه علائم الطيبة والذكاء، وسألته عن تاريخ هذا المسجد وهذه المدرسة القرآنية القائمة فيه فقال:
"إن المسجد حديث البناء.. بل إن بعض أجزائه لم تتم بعد.. وقد قامت بإنشائه الجالية الإسلامية في برمنغهام وسوف تلحق به مكتبة إسلامية وقاعة للمحاضرات إن شاء الله".
ثم قال:
"إن هذا المسجد يقدم خدمات كبيرة للجالية الباكستانية في المدينة ولكثير من الجاليات الإسلامية الأخرى.. وقد وجدت الجالية نفسها وحيدة في المجتمع الإنكليزي وشعرت بحاجة ملحّة إلى مركز يتلقى فيه الناشئة تعاليم دينهم ولغتهم وإلا ذابوا وسط المجتمع الإنكليزي الجاهلي.. وقد بدأت مع الأسف بوادر هذا الانحلال وإن لم تدركنا رحمة من الله.. ضعنا".
قلت: وهل الجالية الباكستانية هنا كثيرة؟
قال: بدأت الهجرة من الهند والباكستان بعد الحرب العالمية الثانية فقد دمرت الصناعة الإنكليزية أثناء الحرب وأصبحت الحاجة إلى اليد العاملة كبيرة.. وخلال سني ما بعد الحرب وجد العمال الهنود والباكستانيون الذين كانوا يعملون على ظهر السفن التجارية البريطانية فرصة للعمل في المصانع الإنكليزية خلال الفترة التي تقضيها سفنهم للتصليح في الأحواض الجافة وقد وجد هؤلاء العمال أجوراً أعلى وشروطاً أفضل في هذه المصانع فآثروا البقاء وعدم العودة إلى ظهور سفنهم.
قلت: وكيف يعيشون هنا وعائلاتهم لا تزال في الوطن.
قال: لم يكن يوجد في الماضي أية قيود على دخول مواطني الكومنولت إلى بريطانيا ولذا فقد دعا هؤلاء العمال زوجاتهم وأولادهم وأقاربهم للعيش في بريطانيا.
قلت: وهل عدد الجالية هنا كبير؟
قال: عشرون ألفاً في برمنغهام وحدها.. وقد قدمت الغالبية العظمى من هؤلاء المهاجرين من مقاطعتي أزاد كشمير وسيلهت في الباكستان ومن قرى البنجاب وكجرات في الهند.. ولذا كان معظمهم من الطبقات الفقيرة غير المثقفة بل إن بعضهم كان يضطر لبيع ممتلكاته لكي يحصل على بطاقة السفر إلى بريطانيا.
قلت: ولكني صادفت كثيراً من المثقفين أيضاً.
قال: وهؤلاء مأساتهم أشد.. لقد بدأت هجرة المثقفين منذ أوائل الستينات وهم غالباً من الشباب ذوي المؤهلات العلمية الذين لم يستطيعوا الحصول على مراكز ترضيهم في الباكستان.. أو أن الرواتب التي يتقاضونها هناك لم تكن تتناسب مع ما كانوا يطمحون إليه، فهاجروا إلى هذه البلد وهم يحسبون أنها بلد الأحلام ذوات الأرصفة المفروشة بالذهب..
قلت: وهل حصلوا على ما يريدون؟
قال: إن القلّة القليلة منهم وجدت في بريطانيا ما كانت تطمح إليه أما غالبيتهم فقد أصيبوا بخيبة الأمل عندما وجدوا أن الشهادات التي حصلوا عليها في بلادهم لا تكاد تساوي الورق التي كتبت عليه.. فاضطروا أن يعملوا في الباصات أو موزعي بريد رغم مؤهلاتهم العالية.
قلت: ألا إنه شيء مؤسف حقاً؟
قال: ليس الحصول على لقمة العيش سهلاً يا أخي.. وقاتل الله الفقر إذ كاد الفقر أن يكون كفراً.
قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله.
قال: ولكن ليست هذه هي المشكلة الآن.. فمعظم هؤلاء العمال قد وجدوا ما يكفيهم ويسد حاجتهم.. بل أصبح بعضهم تجاراً من ذوي اليسار، بل إن مشكلتهم الآن هي المحافظة على شخصيتهم المسلمة وخصوصاً عند الأجيال الصاعدة.. التي ولدت وتربت في هذا البلد كأنها الأزهار البرية التي نبتت في أرض غريبة.. وإن لم تدركها رحمة الله وتسقى بمعين الإسلام، ذوت وضاعت في مجتمع منحل كافر.
وإننا نستصرخ ضمائر المسلمين في كل مكان لمساعدتنا للمحافظة على هذه البراعم الغضّة، والتي إن فهمت إسلامها كان الإسلام بخير في هذا البلد، بل يمكن للإسلام أن ينطلق من قاعدة صلبة إن شاء الله.. أما إذا ضاع هذا الجيل بين أعاصير الجاهلية الغربية.. وبين اللامبالاة الإسلامية، فإنه وزر يحاسبنا الله عليه إلى يوم الدين..
قلت: وماذا يمكن للطلبة المسلمين أن يعملوا؟
قال: إن أمامهم الكثير الكثير، إن بإمكانهم أن يعلموا أطفالنا تلاوة القرآن، وأن يدرسوهم اللغة العربية، وأن يشاركوا في إنشاء الجمعيات الإسلامية التي تلقن هؤلاء الأطفال مبادئ دينهم وتنشئهم في جو إسلامي واع.. يتعلمون فيه كيف يختلطون بالمجتمع الإنكليزي بمقدار.. وكيف يحافظون على شخصيتهم الإسلامية.. كيف يتأثرون بالمجتمع هنا وكيف يؤثّرون فيه، وكيف يكونون نماذج حيّة للإسلام في هذه الديار..
قلت: أنا معكم يا أخي.. بكل طاقاتي وإمكاناتي ولسوف أدعو من زملائي الطلبة والأطباء كل من قلبه ذرة من الإيمان للمشاركة في هذا العمل الإسلامي الجليل.
وعندما كنّا نتحدث بكلامنا هذا كانت أصوات الفتيات الصغيرات تتردد في جنبات المسجد.. "إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فسبّح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً". صدق الله العظيم.
(10)
كتب إليّ أمير يقول:
حملني جناح الشوق ذات ليلة إلى مساء دمشق الصافية.. فوجدتني أفترش بساطاً سندسياً جميلاً حملني فوق الغيوم، كانت تمر من تحتي الحقول الخضراء والجبال الشم وأنا أعتلي متن البساط السحري حتى حطّ بي في ليلة قمراء في صحن جامع بني أمية الكبير في قلب دمشق.
كانت نسيمات الفجر تهب على المسجد المهيب حاملة معها نفح الغوطة الرطيب وبرداها الفياض.. ولم تلبث أن تملكتني الدهشة والعجب.. إذ لم أر بين المصلين من أعرفهم.. ولا أصدقائي الذين عهدتهم في هذه الصبحيات الندية.. كانوا قوماً لم أرهم في حياتي قط وإن شعرت أن بيني وبينهم من أواصر القرابة ما يعجز عن خطه البيان.
ودمشق ليست دمشق التي عهدتها.. فليست هنالك جلبة السيارات والباعة ولا تلك الأبنية الشاهقة التي تحيط بالمسجد من كل جانب..
وعلمت على حين غرة لآن بساطي السحري لم يخترق بي حواجز المكان فقط.. وإنما سار بي عبر حواجز الزمان فنقلني إلى دمشق الشام.. يوم كانت عاصمة الدنيا.. وبيضة الإسلام..
وفي المصلى الكبير جلس مروان بن الحكم وحوله الجند والأعوان يدبرون أمور الجند وعسكر الفتوح.. كان بين الجند شاب عربي السمات، ذو لحية خفيفة حاد ملامح الوجه ثاقب النظرات له قسمات الهزبر الرئبال، قلت من هذا.. فقالوا هو محمد بن القاسم البطل العربي المسلم فاتح الهند والسند وناشر ذؤبة الإسلام في تلك الديار..
ارتعشت مفاصلي وأنا أسمع هذا الكلام وبحركة لا شعورية قمت من مجلسي أود أن أحتضن هذا البطل المسلم الذي طالما داعبت ذكراه مخيلتي ومددت يدي لأقبله وأستنشق منه عبير الإيمان والأريحية والشمم.. وفجأة فتحت عيني وعرفت أني كنت في حلم جميل..
وأخذتني الغمة عندما علمت أنني ما أزال في فراشي البارد في بريطانيا.. كانت المدفأة قد تعطلت والرياح تعوي في الخارج عواء الذئاب.. مفاصلي ترتعش في جو الغرفة البارد والساعة تشير إلى الخامسة صباحاً.. فحمدت الله أن ذلك موعد صلاة الفجر.. فتوضأت وصليت ودعوت الله.
ومما زاد في همي أنني كنت على أبواب التقدم للامتحان وما زال أمامي الكثير من الكتب والصفحات التي علي أن ألتهمها قبل أن تلتهمني.. وهيجاء العلوم أصعب من هيجاء السيوف سيما إذا كان السعي للهيجا بغير سلاح!!
وكان أحد زملائي الهنود في العمل يدعى (راج) ويستعد لنفس الامتحان، فاتفقنا على أن ندرس بعض المواضيع معاً ففي هذا ما يخفف الوحشة.. ويزيل بعض عقبات الطريق.. وراج هذا شاب هندوسي ذو بشرة داكنة وأنف مفلطح وكان كذلك ذكياً ومجداً في العمل.. يذكر أباه دائماً في شوق ويذكر قريته الصغيرة في الهند بحقولها ذات الزهور العطرة.. كان راج نباتياً وكثيراً ما كان يؤنب نفسه التي لم تستطع مقاومة بعض أطباق لحم البقر الشهي.. ويحمد الله أن أباه لم يكن معه في هذه المناسبة أو تلك.
كان راج في غرفة خارج المستشفى قريبة من محطة القطار فاتفقنا على أن نقضي الليلة السابقة للامتحان في غرفته لندرس بعض المواضيع نستغل بعدها في الصباح الباكر القطار الذاهب إلى لندن، حيث يجب أن نؤدي الامتحان.
توجهت إلى غرفته أول المساء وما إن طرقت الباب حتى فتحه لي بوجهه البشوش المعتاد وكان قد أعدّ كوباً من الشاي أضاف له العديد من التوابل الهندية التي قضت على طعمه الأصلي تماما!! وأول ما استرعى انتباهي هو وجود لوحة معلقة على الجدار عليها صورة إنسان قصير القامة، عظيم البطن، رأسه رأس فيل طويل الخرطوم، ولم أكن قد رأيت هذه قط رغم زياراتي المتكررة له، فقلت له مستغرباً: إنها صورة غريبة، جسم إنسان ورأس فيل..
فقال ضاحكاً: إنها صورة أحد الإلهة المشهورة في الديانة الهندوسية.
قلت له: صورة إله!! له رأس فيل.. وما معنى هذا؟
قال: إن هذا هو غانيزا، إله الحظ السعيد المزيل للعقبات ونحن عادة نبدأ الصلاة باسمه خصوصاً عند القيام بالمشاريع التجارية أو قبل الامتحانات.
قلت: وما فائدة رأس الفيل لإلهك هذا..
قال: إن لذلك قصة طويلة.. فإن غانيزا هو أحد أبناء إله الهند الكبير (سيفا) أو الإله المدمر فقد رزق ابنه من زوجته (بارفاني) وقد كان الإله (سيفا) في حالة نفسية حادة عند ولادة غانيزا ولم يكن يعلم أنه ابنه فقطع رأسه وعندنا حزنت أمه برفاتي عليه كثيراًُ وعدها سيفا بقطع أول رأس كائن حي يصادفه ليعوّض بذلك رأس ابنها المقطوع وينقذ بذلك حياته.. وكان الفيل أول كائن حي رآه فقطع رأسه ووضعه فوق جسد ابنه غانيزا المشرف على الهلاك فعاش بعد ذلك حتى اليوم!!
كدت لا أصدق أذني وأنا أسمع هذا الكلام.. أهو يا ترى راج الذي أعرفه؟ أهو الذي يتكلم أمامي أم هو إنسان آخر.. لقد انقلب فجأة من إنسان منطقي ذي فراسة في الطب إلى إنسان خرافي يعيش في مجاهل القارة الهندية العميقة!!
قلت له: حسناً.. وبفضل رأس الفيل هذا عاش غانيزا وأنت اليوم تعبده..
قال: نعم ولا أزال أذكر في طفولتي تلك الاحتفالات الكبيرة لهذا الإله التي كانت تقام في ساحة القرية.. لقد كانت تجمع حقاً أهل القرية جميعاً تحت ظل الإله هذا في حلقات راقصة بديعة تهتف بحياة الهند وسقوط الاستعمار البريطاني!!
قلت: هذا هو الإله الصغير فمن أبوه (سيفا)؟
قال: إن سيفا هو أحد كبار الإلهة الثلاثة الرئيسية في الهند، وهو أقواها وله ثلاثة عيون.. واحدة منها للرؤية الداخلية.. ولكنها تستطيع الحرق إذا وجهت للخارج ونحن نعتقد أن نهر الغانج المقدس ينبع من رأسه.
قلت: نهر الغانج ينبع من رأس هذا الإله؟!
قال: نعم.. إنه ينبع من رأسه وحتى تدفقه عبر شعره الطويل فيقسم النهر إلى شلالات عديدة وراح يسترسل شارحاً حالات التقمّص التي تصيب الإلهة فينتقل الإله من صورة فيل إلى إنسان إلى سمكة إلى أفعى.. إلخ..
قلت لنفسي: أستغفرك اللهم إلى أي درك ينحط العقل البشري إذا ابتعد عن وحي السماء لقد كان صاحبنا يعيش في عالم أسطوري موغل في القدم.. غابة متشعبة من الأشباح.. والآلهة الوثنية الهمجية كجراثيم فتاكة غزت عقله فأصابت توازنه وتركته يهذي بما يقول ولا يعقل..
فقلت في حيرة ورجاء: ولكن يا راج يبدو لكل من له عقل منطقي أن كل ما قلته هو مجموعة من الأساطير التي يربأ عقلك أن يصدقها.
قال: قد يبدو ذلك في قالب أسطوري ولكنه يعبر عن حقائق لا يعرفها إلا من يؤمن بها ألا ترى ذلك الإله سيفا إنه الإله المدمر فعلاً وأنا أعلم أن عدداً من الناس الذين كفروا به قد لحقتهم لعنة سيفا فمنهم من توفي بحادث سيارة، ومنهم من مات بالسكتة القلبية وهكذا.. وأنا لا أريد أن تلحقني لعنته..
وفعلاً كان يبدو من كلامه أنهه يخشى هذا الصنم فعلاً.. وهناك خوف مبهم غامض يقبع في أعماق نفسه.. خوف تغلغل في أعماقه وأعناق أبيه وقريته.. فأصبحوا كلهم فرائس سهلة لهذا الوهم الغامض الذي غلف حياتهم بهذا الغلاف الأسطوري الأسود..
وقد حاولت أن أشرح له بعض تعاليم الإسلام وعقيدة التوحيد لكي أطلعه غلى الأقل على بعض العقائد الصافية ولكني وجدت أن بينه وبين كلمة الإسلام عداوة شديدة دفينة، قبل الدخول في أية مناقشة، فهو يعتبر الإسلام هو أخطر استعمار حلّ بشبه القارة الهندية، فسلخ من أهلها مائتي مليون تركوا ديانة آبائهم وأجدادهم، وعلمت من خلال المناقشة أنه منتسب إلى إحدى الطرق الهندوسية الحديثة التي تعمل على إحياء التقاليد والعادات والإلهة الوطنية الهندية!!
لقد أثار في نفسي هذا ألماً نسيت معه الامتحانات وهمومها، وحسبت كم يقاسي المسلمون في الهند تحت الحكم الهندوسي الوثني الذي يؤله سيفا وكرشنا وبهارى وسواهم ويسجد للبقر والأفاعي والفيلة بدل السجود للواحد القهّار.
ووددت لو أرجع إلى حلمي لألقى محمداً القاسم فأضمه ثانية وأشكو إليه ما فرط المسلمون في دينهم..
ولكنني سمعت منادياً يقول لي، لا تيئس –يا مسلم- ولا تشكو فما الشكوى تنفع المؤمنين! قم واعمل "وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة".. وابدأ بنفسك ثم بصاحبك راج هذا.. "والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم".
أم أديم
18-09-05, 10:57 AM
(11)
وا... أرض المعراج
كتب إليّ أمير يقول:
أتذكر يا محمد أيام الصبا.. يوم كنا نستيقظ صباحاً كالطيرين الطليقين ننطلق في بساتين الغوطة الغناء نسرح في أفيائها ونتنسّم من هوائها ونمرح بين المروج المضخة بعبير الورد وعطور النارنج، وأنا إذ أذكرك بأحلام الصبا.. لا أعني أننا قد بلغنا من الكبر عتيّا، ولكن للنفس هموم وحسرات، وللقلب دقات وخفقات، وأنا هنا بعيد عن الوطن وأي وطن هذا الذي أحدثك عنه.. وقد هانت أوطاننا بهوان مواطنينا، وهان مواطنونا بهوان عقيدتنا. إن فؤادي يكتوي ناراً.. ونفسي تعتلج غضباً.. فإن من الجراح ما يندمل وتشفى بشفائه، ومنها ما يندمل على بؤرة متقيحة تبقى آلامها ويستعصي شفائها.
استيقظت ذات صباح مكتئب النفس مغموم الفؤاد.. وما تلك عادتي في الصباح، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم.. وسألته العفو والعافية.
كان اليوم عطلة، وكان نصيبي أن أكون مناوباً.. ولم يكن قد بقي في المستشفى من زملائي أحد، فمنهم من ذهب للصلاة في الكنيسة، ومنهم من ذهب إلى أقرب مشرب يعاقر بنت الحان.
وما إن بدأت باحتساء فنجان القهوة حتى رنّ جرس الهاتف.. آه منه ذلك اللعين، لقد أدمن إزعاجي في مثل هذه الأوقات، ولكن قلت في نفسي: وما ذنب ذلك المعدن الجامد حتى ألعنه.. ولاشك أن يداً تقرعه وربما بالرغم عنه، هرعت إليه وأمسكت برقبته الباردة.. فإذا صوت يصيح: هلمّ يا دكتور، أسرع إن المريض في حالة سيئة وقد قارب الاختناق.. وما حدث له؟
- صدمته سيارة منذ هنيهة قليلة.. ولديه كسر في الجمجمة ونزف في الرقبة.. وإن النزف في رقبته يزداد ويضغط على المجاري التنفسية، وهو بحاجة إلى عملية مستعجلة.
وعلمت أن المريض في مستشفى يبعد قرابة عشرة الأميال عن مستشفانا، والمريض في حالة ليس من الممكن معها نقله إلينا –وكان الأمر بمنتهى الجد- فاعتذرت لفنجان القهوة الذي ما زالت الأبخرة تتصاعد منه، فقال لي أنه قد ألف الاعتذار!
انطلقت بنا سيارة الإسعاف تطوي الأرض طيّاً.. كانت الشوارع خالية في صباح هذا الأحد، فاجتازت مركز المدينة بسرعة فائقة.. واندرجت تقطع السهول المحيطة بها.. كانت السهول مزروعة بالمصانع الواحد تلو الآخر، ارتفعت مداخنها في السماء تنفث بين الفينة والأخرى ضباباً كثيفاً أسود، وكأنها تنفث عن عمومها وآلامها.
قال لي سائق السيارة: نحن الآن نقطع البلاد السوداء.. وهي قلب الصناعة الإنكليزية ومهد الثورة الصناعية في العالم.. وقد سميت بالسوداء لأن دخان المصانع قد غطاها بطبق من السواد الفاحم، وهي وإن غطت جدران البيوت الخارجية بالسواد إلا أنها قد ملأت داخلها بضروريات الحياة ورفاهياتها.. من ثلاجات وغسالات وتلفزيونات.
قلت للسائق بلهجة المستغيث: أسرع بالله عليك، فإن المريض في حالة خطرة.
قال: وما به؟
قلت: إنه أحد ضحايا الثورة الصناعية، صدمه عملاق معدني يسمونه السيارة فتهشمت عظامه.. ونحن الآن ذاهبون لنرى نتيجة الصراع بين عملاق الفولاذ، وعملاق الدم والعظم.
ولم يمض طويل من الزمن حتى كنا في المستشفى.. كان المريض ممدداً على طاولة العمليات ومن حوله أجهزة التخدير والأطباء يحاولون إجراء تسيد القلب والتنفس الاصطناعي، ولما استطلعت الخبر علمت أن قلب المريض قد توقف عن الخفقان منذ قرابة عشر دقائق، وكان يبدو جلياً أنه فارق الحياة..
كان المطر الغزير ينهمر على زجاج نافذة العمليات وكأنها دموع تبكي على المريض الراحل.. وحق لهذه الدموع أن تذرف فإن حياة هذا المريض لم تستذرف دمعة واحدة من عيون الأطباء والممرضات الذين كانوا حوله.. أهي معايشة الموت والمرض الذي حجز أفئدتهم وجمد دموعهم، أم أنهم أمثلة حيّة للإنسان العصري الذي يعتبر العواطف شيئاً معيباً في غابات الأبنية الإسمنتية والمنشآت الفولاذية.
قد تقول لي يا أخي وما معنى الكلام الذي سردته عليّ حتى الآن.. والواقع أنني لم أبتدأ بسرد ما أردت أن أقوله بعد، وسواء سميتني ثرثاراً أم لا.. فإنني سأسرده وأعانك الله. ذهبنا إلى غرفة الاستراحة بعد خروجنا من العمليات كالجيوش المهزومة التي أعياها الانكسار.. وكانت سبقتنا لهناك طبيبة التخدير التي استدعيت أيضاً لإسعاف هذا المريض المسكين.. كانت امرأة في متوسط العمر، ذات قامة ممتلئة، وقد تربع أنفها المعقوف وسط وجهها، وكأنه احتل مكاناً أكثر مما يحتاج لأداء وظيفته. توحي لهجتها أنها إنكليزية صرفة، وإن دلّت تقاطيع وجهها على العكس.. بادرتني بالسؤال:
- ألست من الشرق الأوسط يا دكتور؟
قلت: بلى..
قالت: إن ظني صحيح..
قلت: وأنت؟
قالت: أنا يهودية.. هاجر أجدادي إلى بريطانيا منذ قرون، ولي ابن شاب.
قلت: أنا عربي.. وليس لي ببريطانيا أجداد ولا أحفاد..
قالت: إن ابني طبيب أيضاً.. هاجر إلى إسرائيل منذ سنوات، وهو حالياً ضابط في الجيش الإسرائيلي في سيناء.
قلت: ما شاء الله.. وهل يكتب لك؟
- نعم، بشكل منتظم.. وقد ذهبت لزيارته في العام الماضي، إن عائلته تقيم في إحدى المستوطنات في الضفة الغربية.. وهو يتردد عليها بشكل منتظم أيضاً.
قلت: وما حمله على الذهاب إلى إسرائيل؟
قالت: لقد آثر الرحيل.. رغم أنه كانت له عيادة خاصة وبيت جميل، بالإضافة إلى عمله في المستشفى.
كانت من النوع الواثق بنفسه.. الهادئ والمتعصب للصهيونية معاً.. كانت تتكلم بلهجة مسترخية وعلى وجهها ابتسامة خفيّة.
كان الدم يغلي في عروقي.. وأنا أستمع لها تتحدث عن بناء المستعمرات الإسرائيلية في الضفة الغربية.. وكأنها تتحدث عن بناء غرفة جديدة في بيتها القديم. ولكنني ما أردت أن أفقد أعصابي لأن ذلك يجعلني في موضع الضعيف سلفاً.. سيما وأنني وهذه اليهودية قد تحولنا بشكل أوتوماتيكي إلى طرفين متحاورين، جلس بقية الحاضرين يرمقوننها.
قالت: وماذا عن تطورات السلام الأخيرة..؟
قلت: وأي سلام هذا..
قالت: السلام الذي يسعى إليه العرب واليهود معاً.
قلت: إن العرب لم يسعوا.. ولا يسعون الآن إلى السلام.
قالت: ولكن وفود مصر وسورية والأردن.. تذهب وتأتي إلى الأمم المتحدة وأمريكا وروسيا يطلبون السلام.
قلت: إن وفود مصر وسورية والأردن.. تمثل حكام مصر وسورية والأردن، أما شعوب المنطقة فما زالت مؤمنة بحقها وبدينها وبأرضها، ولا ترضى عن تحرير فلسطين بديلاً..
قالت: إنك تتلكم بلهجة الأربعينيات والخمسينيات، وكأنك لم تتعظ بكل الأحداث الماضية.
قلت: إن كان من عظة في الأحداث الماضية، فهي أن لا سلام في هذه المنطقة ما لم تسلم من وجود إسرائيل فيها.
كانت أمارات الانفعال والقلق تبدو عليها شيئاً فشيئاً ثم..
قالت: ولكن فلسطين أرضنا.. عشنا فيها منذ آلاف السنين، وبذلنا في سبيلها الدماء والأرواح. لقد قاتلنا وما زلنا نقاتل في سبيلها، إننا لم ننس فلسطين ولا القدس. إن خيال الأرض والمعبد والزيتون ما زال يداعب خيال اليهود على مرّ الزمن.. حتى تحققت النبوءات ورجعنا إلى أرض الميعاد.. ورغم أن لم تقم دولتنا في القدس إلا لسبعين سنة.. إلا أننا لم ننس القدس وما زالت القدس تعيش في ضمائرنا وأفئدتنا.
قلت: أو تعتقدين أن اليهود الذين عاشوا في القدس سبعين سنة لم ينسوها، وإن المسلمين العرب الذين عاشوا فيها ألفاً وأربع مائة سنة سوف ينسونها، وإذا قلت أن اليهود حاربوا في سبيل فلسطين، ألم يحارب العرب في سبيلها أيضاً.. بل إن شهداء العرب كانوا أضعاف قتلى عدد اليهود باعتراف العدو والصديق.
وأما قتالكم في سبيلها فهذا لا يجعل لكم الحق فيها.. إذ قد تقتتل أي عصابة لسلب ما ليس لها.. وقتالها هذا ليس دليل أحقيتها..
وفجأة انقلبت محدثتي من إنسانة متزنة هادئة.. إلى امرأة محمرة الوجه، منتفخة الأوداج، وقد بدت في عينيها علائم الغضب والحقد الدفين.. لقد انطلق فجأة المارد القابع في أعماقها، من قيود الأدب والاتكيت الإنكليزي، وأصبح يرغي ويزبد في انفعال ظاهر..
لقد تذكرت هنا كلمة قالها أحد الإنكليز.. من أن اليهود هنا يبقون عاقلين ومخلصين ومنطقيين حتى تبدأ مناقشة فلسطين، وفجأة ينقلبون إلى أناس انفعاليين ومتعصبين ولا منطقيين.
ثم تابعت تقول:
- هل تستطيع أن تقول لي لماذا هزم العرب في أربعة حروب متتابعة؟
قلت: وهل لديك تفسير؟
قالت: بلى.. لأن العرب الذين يقاتلون في سبيل فلسطين لا يضحون في سبيلها.. لأن السوري يعلم أن سورية هي بلده.. وليس لديه استعداد للموت في سبيل بلد أخرى.. وكذلك المصري والأردني.. فلكل وطنه الذي يعود إليه إذا خسر المعركة.. أما الإسرائيلي فإنه يقاتل وهو يعلم أن الأرض أرضه وليس له سواها إذا هُزم.
قلت: ولكن لي تفسير آخر. إن فلسطين جزء من أرض العرب والإسلام.. لا يختلف في هذا المصري ولا السوري ولا الأردني ولا الفلسطيني، ولكن يد الجندي العربي الذي قاتلكم، وإن كانت مليئة بالسلاح.. إلا أن قلبه كان خاوياً من الإيمان الذي يدفعه للتضحية.. أنا يؤلمني أن أقول هذا ولكن هذا هو سر انتصاركم وانخذالنا حتى الآن.. صحيح أن التسلح الإسرائيلي كان متفوقاً ولكن هذا ما كان ليبرر ولا عشر الهزيمة التي لحقت بالعرب في 1967، ولم تردَّ حرب رمضان إلا أشتاتاًَ من العزة المهدورة التي كادت هي الأخرى تضيع في متاهات المناورات الدبلوماسية والاستعطافات السياسية لأمريكا.
قالت: وهل تعتقد أن اليهود هم مخطئون إذ هم يفاوضون من أجل السلام الآن..
قلت: هم ليسوا مخطئين قطعاً.. لأنهم لا يفاوضون من أجل السلام أصلاً.. لقد اقتطعوا أشلاء من أجسادنا.. وبينما نحن نصيح من الألم قالوا: تعالوا نتفاوض ولكن بشرط أن يكون ما اقتطعنا لنا.. لقد اقتلعتم من جسد أمتنا قلبها، أخذتم القدس والأقصى والحرم الإبراهيمي ثم تقولون تعالوا نتفاوض!؟ وعلى ماذا نتفاوض؟!
قالت: لقد قابلت كثيراً من العرب.. ولكن لم أقابل أحداً مغلق الفكر ومتعصباً مثلك.. وأنا غير مستعدة للنقاش أكثر من هذا.. لأن هذا لن يزيد من المودة بيننا..
قلت: أنا ما قصدت أن أسيء إليك.. ولكن أحببت أن تطلعي على نموذج من التفكير بعيد عن تحويرات السياسة وبهارج الإعلام!! فإن الحقائق لا تصلكم إلا بعد أن تجري لها العمليات الجراحية التجميلية اللازمة.. فتوافق الشكل الذي تحبونه.
قالت: وهل أنت جاد في التفكير بأن إسرائيل يمكن أن تزول، وأن اليهود يمكن أن يخرجوا من فلسكين.. وأن يتركوها..
قلت: أنا لا أفكر فقط بإسرائيل يمكن أن تزول وإنما أعتقده.. وبهذا أخبرنا رسول الإسلام العظيم.. أما إلى أين يذهب اليهود؟ فنحن لم نخلق مشكلة وجود اليهود في فلسطين وليس علينا حلها! وعلى كل فلسنت أعتقد أن بريطانيا صدرت ابنك إلى فلسطين.. تضيق عن استيراده ثانية.
فما كان منها إلا أن قامت مستأذنة.. بسرعة غير عادية.. وأغلقت الباب وراءها بحركة عصبية ظاهرة..
وبينما كنت في غمرة النقاش، لم أكن منتبهاً لوجود زميل مصري عرفته منذ مدة، وعرفت من أنه واحد من المسؤولين عن الدارسين المصريين في المملكة المتحدة.. ومن أعضاء الاتحاد الاشتراكي!! لم ينبس خلال المناقشة ببنت شفة.. ولكني رأيته ينظر إليّ باتفاق.. ولعله أنكر عليّ جلافة المنطق الذي كنت أتحدث فيه.
قال: تعلم أنك في بلد غريب.. وليس من الحكمة إطلاقاً أن تتحدث لهذه اليهودية بهذا المنطق، فهذا لن يزيد من تعاطف الإنكليز معك ومع القضية.
قلت له: ومتى كان انتصار القضية يبدأ من تأييد الإنكليز لها!! وكيف ينفع القضية تأييد الإنكليز لها.. إذا تنكر العرب لها.. أليس السادات والأسد وحسين وخالد هم الذين يدعون للمفاوضات مع العدو.
قال: ولكنك لا تعلم خفايا السياسة وألاعيبها.. ولعلهم يحصلون باللعبة السياسية على ما لم يستطيعوا الحصول عليه بالحرب.. وأنت تعلم أن أمريكا بيدها مغاليق الأمور في العالم.
قلت: إن ملوكنا ورؤساءنا الذين لبسوا مسوح الرهبان وذهبوا يتعبدون في محراب أمريكا.. قد لبسوا نفس المسوح وتعبدوا في محراب روسيا من قبل.. فما أغنتهم المسوح ولا المحاريب!! إن حكامنا فقد فقدوا ثقتهم بربهم.. ويئسوا من أنفسهم واحتقروا شعوبهم وهنا يكمن الداء!
قال: وكيف؟!!
قلت: إن أعظم جريمة يقوم بها حكامنا الآن.. هي أنهم لم يكتشفوا شعوبهم.. ولم يعثروا على الطاقات والكنوز المخبوءة في مواطنيهم بعد.. لم يفجروا في شعوبهم شعلة الجهاد التي إن اشتعل أوارها زلزلت إسرائيل ومن خلف إسرائيل.. وربما علموا أن شعلة الجهاد إذا اشتعلت فإنها ستزلزلهم كما تزلزل إسرائيل معهم، فآثروا السلامة مع إسرائيل على الزلزال بدوننا.. وما زالوا يلوحون لشعوبهم بعدالة الاشتراكية ورفاهية الرأسمالية وشعوبهم تضحك منهم! وتبكي من ضرباتهم القاسية.
قال صاحبي وكأنه خاف على مركزه في الاتحاد الاشتراكي أن يزول إذا لم يقل:
- ولكن حكام العرب اليوم أكثر اعتدالاً وواقعية.. لقد عرفوا أنهم لا يستطيعون سحق إسرائيل فآثروا التعايش معها.. وهذا منطق.. أليس كذلك؟
قلت: ليس في وسع حكام العرب أن يطلبوا سحق إسرائيل وهم ليسوا مهيئين لهذا الطلب أصلاً.. إنهم أصغر من هذا.. والخطب جلل.
قال: ولكن لعل في الأمر خدعة.. ولعلهم يريدون خداع إسرائيل حتى يمكنهم الزمن، من استعادة قوتهم ثم الكرة عليها ثانية..
قلت: أما أن الحرب خدعة فهذا صحيح.. وأما أن يبتدئ حكام العرب بخداع شعوبهم قبل خداع أعدائهم.. فليس ذلك من فن السياسة ولا من حكيم الخداع.. وإن دلّ على شيء فعلى نفس ضعيفة، وشهوة كبيرة.
وعندها انسلّ صاحبي من الغرفة بسكون.. قبل أن يطلع على اشتراكه في هذا النقاش رفيق آخر من رفاق الاتحاد الاشتراكي!!
إن قبة الصخرة تستغيث ولا من مغيث..
وإن المسجد الأقصى يستحثّ همم الصيد الأباة.. والميدان فارغ والساحة قفر، إلا من جلاد صال وجال.. ومؤمن بالله يرسف بالأغلال.
أقفرت الساحة إلا من تجار النخاسة.. والرقيق.. ومن الكرامة المهدورة على أرصفة الأمم المتحدة.. وأبهاء السفارات الأمريكية والروسية.. إيه يا عملاق الإسلام العظيم.. لقد طال الدجى والليل بهيم.. لقد تعبت مسامعنا من نقيق الضفادع ونعيق البوم. فدعنا نسمع زأرة الحق الجليل..
دعنا نسمعه الصوت الجهوري الأصيل..
فمن غير فارس الإسلام للخطب.. والخطب جليل..
(12)
مدينة العلم
كتب إليّ أمير يقول:
ليست مدينة العلم التي أحدثك عنها مدينة حقيقية شامخة بأبراجها العالية ومزهوّة بمختبراتها العظيمة، وإنما هي حلم جميل راود اثنين من معارفي سرعان ما تطاير متبخراً، وتحطّم على صخرة الواقع الأليمة.
وأبطال هذه القصة ليسوا جهابذة العلوم، وأصحاب المخترعات، وإنما طبيبان متواضعان عاشا معنا هنا لفترة من الزمن، إحداهما سوري يختص بأمراض الجراحة، والآخر مصري يختص بأمراض النساء والتوليد.
أما زميلنا السوري الدكتور منذر فكان متوسط القامة، وسيم القسمات، يبدو أنه في أواخر العقد الثالث من العمر، وهو وإن كان أصلع الرأس في هذا العمر المبكر إلا أن بقية من شعرات نبتت على فوديه، ثم استرسلت لتغطي أذنيه وكأنها شاهد على أنها هي الأصل، وأن الصحراء المجاورة لها ليست إلا عادية من عاديات الزمان.
كان زميلنا هذا حاد المزاج، به شره للمال واضح، وقد آلى على نفسه ألا يرجع للوطن بدون سيارة وثلاجة وتلفزيون ملون، فأرسل زوجته وطفله الوحيد إلى الوطن واقتنع بسكن غرفة صغيرة في المستشفى رخيصة الأجرة، تجعله قادراً على توفير بعض النفقات التي تمكنه من تحقيق حلمه.
أما زميلنا المصري الدكتور بهجت فكان طويل القامة، أسمر البشرة يعتني بهندامه إلى الحد الذي يثير انتباه زملائه من إنكليز وغير إنكليز، لم يكن قد تزوج بعد، وإن كان يبدو أنه في الثلاثينات أيضاً.
كان منذر اشتراكياً، يؤمن أن الاشتراكية هي قدر أمتنا، ومؤمناً متحمساً بالقومية العربية وراياتها الخفاقة من المحيط إلى الخليج، بينما كان بهجت أقل حماساً لذلك ويحمل من التديّن قشرة رقيقة لم تصل به إلى إقامة الصلاة، وإن كان لا يتنازل عن صيام رمضان بأي حال من الأحوال. وقد كان دائماً ينقد المجتمع الإنكليزي المتحلل الذي يعيش بين ظهرانيه نقداً لاذعاً، ورغم أنه لم يكن اشتراكياً إلا أن إعجابه بالقومية العربية جعل بينه وبين منذر أرضاً مشتركة طالما قضيا الساعات الطوال في نقاش حولها. وقد أصبحا صديقين حميمين رغم أنه لم يمض على إقامتهما في المستشفى سوى بضعة أشهر، ولم يعكر صفو هذه الصداقة إلا صياح بين الفينة والأخرى خاصة عند مناقشة أمر خطير كأمر الوحدة السابقة بين مصر وسورية، وعندها يتراشقان الاتهامات حول الخطأ والصواب والحق والباطل.
حاولت أن أحسّن علاقتي ببهجت بادئ ذي بدء، خصوصاً وأن فيه طيبة وأثراً –وإن كان باهتاً- من دين، وقلت لعله ينتبه من غفلته وتزهر في قلبه زهرة الإيمان التي يبدو أنها ذبلت وجفّ فيها ماء الحياة.
ذهبت لزيارته على غير موعد، وما إن فتح لي باب غرفته حتى امتقع لونه وفأفأ بكلمات ترحيب خرجت من بين شفتيه مرغمة، وشعرت ساعتها بأني ضيف ثقيل، إلا أن موقفه هذا حمل رغبتي في الدخول أكبر، فقد كنت أخشى على بهجت السوء، وانتابني شعور قوي بأن الشيطان يلعب هنا لعبة قذرة، جمّعت ما تبقى لدي من شجاعة وخطوت داخلاً وعرفت ساعتها سرّ اللون الزعفراني الذي غطى صاحبنا من رأسه إلى قدميه.
كان في الداخل فتاة إنكليزية قدّمها لي على أنها صديقة وهي طالبة في كلية الطب تعرّف عليها في أثناء عمله في المستشفى. كانت فتاة رقيقة لها من زرقة العيون وشقرة الشعر ما يجعلها مثلاً أعلى لشباب الشرق الهائمين وراء القدود الممشوقة واللحوم البيضاء!
- هذه ماري صديقتي.
- ماذا؟
- مجرد صداقة، قابلتها في المستشفى، وقد أرادت أن تزورني فلم أمنعها، وقد مضى على صداقتنا عدة أشهر الآن.
- ولكن يا بهجت هذا لا يجوز، ألا تخاف الله؟ وهل ترضى لأختك أن تسلك هذا المسلك الشائن؟
لم يبدُ أن الفتاة الإنكليزية قد فهمت كثيراً مما قلنا، ولكن أدركت أن الأمر ليس سمناً وعسلاً.
- لا أكتمك أنني أحببت هذه الفتاة الإنكليزية، وهي فتاة مهذبة وذات خلق حسن، ما رأيك بها؟
- ليست القصة أمر رأيي في هذه الفتاة، لكنه رأيي فيك أنت، وقد آلمني –والله- أن تكون على هذا القدر من الاستهتار بآداب الإسلام. ألم تذكر يا بهجت أننا كنّا نصوم ونصلي التراويح معاً!؟
- بلى، ولكن ليس لدينا –نحن البشر- القدرة على التحكم في عواطفنا، وهذه مجرد عاطفة نظيفة نتبادلها.
- ألا تذكر قول الله تعالى: "ولأمَة مؤمنةٌ خيرٌ من مشركة ولو أعجبتكم"؟
- لا أنكر هذا، ولكن ألا يحق الزواج من الكتابيات؟
- إن قاعدة الإسلام أن تظفر بذات الدين، وحتى في حالة كحالتك فإن للإسلام مخرجاً نظيفاً، فزواج هذه الفتاة أفضل من اتخاذها خليلة، وبذلك تنأى بنفسك عن ارتكاب المحرّم.
- أنا أنوي أن أتزوجها فعلاً، ولكن بعد حصولي على الشهادة، لأن زواجي الآن يضع أمامي عقبات أنا في غنى عنها!
- إن شيطانك قوي يا بهجت، ليست هذه قولة رجل يخاف الله، فاتق الله عز وجل.
* * *
وبينما نحن بين أخذ ورد إذ طرق الباب طرقات قوية متتالية، وما أن فتحه بهجت حتى دخل منذر وهو منهمك كعادته في توزيع الابتسامات وإلقاء النكات السخيفة، كان يحمل في يده صحيفة عربية لم أعد أذكر اسمها، وباليد الأخرى علباً صفيحية من البيرة، ألقى السلام على بهجت وصديقته بشكل يوحي أن صحبته معها قديمة العهد وبادر الجميع قائلاً:
- أخبار هامة اليوم، نقطة تحوّل في تاريخ العالم العربي!
- وما ذلك؟ هل حررت فلسطين!؟
- لا وإنما هناك مشروع ضخم لمدينة علم عربية يقيمها معمر القذافي في ليبيا بالأموال العربية ويجلب إليها العلماء والأدمغة من كل بلاد العالم. ياله من تخطيط رائع يغنينا عن التبعية الاقتصادية للبلاد الصناعية ومن ثم يغنينا عن التبعية السياسية، والتبعية الفكرية.
ثم أخذ رشفة من إحدى صفائح البيرة التي جلبها معه وتابع قائلاً:
- لاشك أن العامل الاقتصادي هو أهم عامل في حياة الشعوب ومسار التاريخ، وفي اليوم الذي يتحرر فيه العرب اقتصادياً فسوف يتحررون سياسياً وفكرياً.
وكأنما سرت في البيت رعشة كهربائية، وقام الاثنان يقرآن الصحيفة بشغف ويتناقشان بينهما ويعلو صياحهما لأقل خلاف.
- يجب الإصرار على العلوم التطبيقية أكثر، وجلب العلماء المهتمين بالصناعة.
- والأبحاث.
- أيضاً يجب الاهتمام بالعلوم الذرية ويجب على البلاد العربية أن تملكها أيضاً.
- انظر يجب أيضاً حماية العلماء من الهجمات التي قد تقوم بها إسرائيل ضدهم.
- بل يجب استدعاء العلماء العرب الموجودين في لخارج، فنحن لدينا العلماء الكبار في الغرب الذين لا تستفيد منهم البلاد العربية شروى نقير.
وراح الاثنان يحلمان بهذه المدينة العلمية الضخمة التي سوف تغطي رقعة واسعة من الأرض، وترتفع فيها المراصد الفلكية ومدارس الطب الراقية، ولم يبد منهما معارضة للعودة إلى هذه المدينة للتدريس في جامعتها إذا طلب منهما ذلك. ثم طفقا يتناقشان حول كيفية الاستفادة من الأبحاث العلمية المقبلة ولمن سيكون حق براءة الاختراعات في هذه المدينة العجيبة، ومن أين يُستورد الإسمنت لبنائها؟ وكيف تُعبّد الطرق الموصلة إليها.
لم يكن يبدو على الفتاة الإنكليزية أي اهتمام فسألتهما أن يكفا عن هذا الحديث الممل، وفعلاً قد استجابا بسرعة واعتذارا عن عدم اتباعهما "الاتكيت" في التحدّث عن موضوع يهم الجميع.
ثم استدار منذر يمازح الفتاة الإنكليزية بشكل ماجن وهي تستجيب لنكاته وغمزاته بشكل يبعث على الاشمئزاز، ولم يكن يبدو على بهجت أي تذمّر من هذا وكأنه لم يضن على صديقيه أن يتبادلا أطراف الحديث البريء.
وبينما انهمكت أنا وبهجت في مناقشة سوء فكرة الزواج بالأجنبيات، غاب كل من منذر وماري في حديث طويل يعلو حيناً ويخفت أحياناً، وتنطلق بين الفينة والأخرى ضحكات يُزعج سماعها الآذان، وانفضّ الجميع وأنا منقبض النفس موجع الفؤاد.
ومضت أيام وتلتها شهور وكلنا منهمك في دراسته، ومدّخرات منذر تزداد يوماً فيوماً، ومثلها أيضاً يقترب حلمه المنشود من التحقق، ومدينة العلم تكتسب أبعاداً جديدة من حيث الأهمية والاتساع في محاورات منذر وبهجت التي لا تنقطع.
وذات مرة لاحظت انقطاعاً مفاجئاً في العلاقات الودية بينهما، تلاه جفاء وصدود، تحوّل بعد ذلك إلى عداوة سافرة، واستحالت تلك الجنة الحالمة التي كانا يعيشان فيها إلى رمضاء لافحة في صحراء قلّت أفياؤها وكثرت أشواكها.
ولم يحتمل الأمر أكثر من هذا، فقصدت بهجت مرة أخرى زائراً أستطلع جلية الخبر، كان قد انقلب إنساناً آخر تماماً، وكان يبدو ساهم التفكير ترتسم على وجهه علائم الحزن والألم.
- تباً لهما ما أقذرهما!
- وما الخبر؟
- ذلك الخنزير القذر منذر.. راح يراود ماري عن نفسها حتى استسلمت له!
- لا حول ولا قوة إلا بالله.
- وليت الأمر اقتصر على هذا.. إذ أنني بعد أن علمت بالحادثة ذهبت إلى ماري وعروقي تكاد تنفجر من الغضب، فأمسكت بها وأخذت أعنفها: ألا إنك عاهرة! ألا تعلمين مدى صداقتنا ومنزلتك في قلبي؟ ويا للمصيبة! أتعلم ماذا كانت إجابتها: لقد ابتدأت بالبكاء ثم اعتذرت عن فعلتها قائلة إنها لم تتوقع أن تثير الحادثة غضبي بهذا الحد، وقالت إن منذر قد طلب منها ذلك مراراً وهي ترفض ولكنها لم تشأ أن تكسفه هذه لمرة! تصوّر العاهرة القذرة، لو أحبته لكانت المصيبة أهون، أمّا أن تتنازل عن شرفها في سبيل ألا تكسف هذا الماجن فذلك ما يكاد يطير له صوابي وينفطر له قلبي.
وقد كان المسكين يئن وهو يتكلم، وكنت أشعر أن الخنجر قد غار في قلبه إلى الصميم.
- هوّن عليك يا بهجت، ولعل هذه الحادثة قد كشفت غشاوة عن عينيك ونوّرت لك السبيل، ولعل نجاتك من براثن هذه الفتاة كانت نعمة عليك في هذه المرحلة قبل أن تتزوج منها وتنجب لك البنين والبنات، وعليك أن تتذكر دائماً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم وخضراء الدمن. قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء".
- ومضت شهور وشهور، وتوقف الأحاديث عن مدينة العلم توقفاً تاماً، فلا مبانيها ترتفع في السماء، ولا مؤسساتها الذرية تصنع القنابل أو تزيل ملوحة البحر، بل هي قفر خلاء إلا من الغربان تنعق في فضائها والبوم يعشعش في خرابها.
- لقد بنيت مدينة العلم هذه على صفحة جريدة، وارتفعت في قلب ماجن، وتحطمت على قدمي امرأة.
- إن الشباب الماجن الراكض وراء ملذاته، لن يستطيع البناء ويكفي أمتنا أن يكفّ هؤلاء الخليعون عن تحطيمها فضلاً عن أن يبنوا مدن العلم.
تمت
بقلم د. محمد حكمت وليد
حسن خليل
19-09-05, 05:15 PM
إن الشباب الماجن الراكض وراء ملذاته، لن يستطيع البناء ويكفي أمتنا أن يكفّ هؤلاء الخليعون عن تحطيمها فضلاً عن أن يبنوا مدن العلم.
أشكر الأخت أم أديم على طرح هذه القصة مع أنها طويلة جداً ولذلك مررت عليها مروراً سريعاً وعندما يكون لدي وقت سأعود وأقرأ من جديد.
almsha3er
19-09-05, 11:01 PM
الله يعطيك العافيه
أم اديم
اشكر لك هذا النقل الجميل
تقبلي تقديري واحترامي
أم أديم
28-09-05, 06:56 AM
إن الشباب الماجن الراكض وراء ملذاته، لن يستطيع البناء ويكفي أمتنا أن يكفّ هؤلاء الخليعون عن تحطيمها فضلاً عن أن يبنوا مدن العلم.
أشكر الأخت أم أديم على طرح هذه القصة مع أنها طويلة جداً ولذلك مررت عليها مروراً سريعاً وعندما يكون لدي وقت سأعود وأقرأ من جديد.
اخي الكريم القصة فعلاً طويله ولكنها رائعة
واشكرك على مرورك الطيب
لاعدمناك:)
أم أديم
30-09-05, 07:59 AM
الله يعطيك العافيه
:) الله يعافيك
عاشقة الحب
13-03-07, 05:39 PM
مشكورة اختى ام اديم على القصة
أم أديم
03-05-07, 04:10 PM
ياهلا بالجميع .. لاهنتوا
شيطووووونه
03-05-07, 08:09 PM
مرسي ام ادوووووومه
:)
ŘǻŶąŅ~ •●∫
11-07-07, 07:06 PM
الله يعطيك العافية
vBulletin® v3.8.8, Copyright ©2000-2024, TranZ by Almuhajir