شامل سفر
01-06-05, 04:40 AM
مذكرات تائب 2
8.59 صباحاً . بدأتُ يومي كما كل الأيام تقريباً ، باستثناء أيام العُطَل التي لا تختلف عن سواها إلا بموعد الاستيقاظ . فنجانٌ كبير من القهوة المصنّعة ، ترافقه لفافتان أو ثلاث من تبغٍ معروف الاسم مجهول المصدَر ، و جلسةٌ افتتاحيةٌ ظاهرُها تأمّلٌ و باطنها إدمان ... تلك الدقائق العشرون من زمن كل نهار ضروريةٌ جداً ، بل هي شرطٌ لازمٌ لولوج بوابة الصباح بأسلوبِ ما يُسمّى : حضارة القرن .
و سواء أعجبني ذلك أم لا ، فإن نفس المشهد الصباحي الذي يتكرر منذ ما ينيف على عقودٍ ثلاث ، و الذي يلي افتتاحية الإدمان مباشرةً ، إنما هو مرأى أطفال المدرسة الابتدائية المجاورة يسعون إلى عذابهم اليومي متثاقلين، وكأنما انتقلت عدوى التثاقلِ إليهم من بضع أمهات اعتدن على مرافقة أبنائهن على طريق المدرسة . و لا أدري إنْ كانت العدوى السببَ الوحيد للظاهرة ، لكن ما أنا واثقٌ منه تماماً أني لم أرَ في حياتي طفلاً واحداً يركض إلى تلك المدرسة بفرح ، اللهم إلا المتأخرين ... و دعكَ من الفرح . و لكي تتوازن الصورة ، أتذكّرُ دوماً أولئك الصغار و قد أفرج عنهم جرسُ الانصرافِ الحبيب . صخبُ حريتهم آنذاك ، جميلٌ رغم إزعاجه .
.................................................. .......
3.10 صباحاً . صباح الخير يا مَن تزدادين كل يومٍ جمالاً و أنوثةً و بهاءً . صباح الخير يا أيها المتناقضة ، و إني لمتناقضٌ أكثر منك ، و إنّا جميعاً لكذلك . هاأنذا أزحلق اللامات كأيام زمان ، و أبتكرُ ضروبَ المزج بين حداثتي و كلاسيكيتي ، و أغرق مع القلم – صديقي القديم – في مغامرات التزحلق على جليد السطور .
دخيلٌ أنا يا سيدتي على عالم الأدب ، لكني بحّارٌ في عالم الكلمة ، أتوه في بحرها ، يحدوني الأملُ في الرسوِّ يوماً على شاطئ يديك الرائعتين .
و الآن اسمحي لي بفكّ الطلسم : ما الفرق بين أن يقود المايسترو أوركسترا كاملةً بشكلٍ رائع الانضباط ، بحيث يَطرَبُ المستمعون و يُعجبون بمدى سيطرته على أعضاء الفرقة الموسيقية ... و بين أن يؤثر الأداءُ الرائع للفرقة على أداء المايسترو ، فيزيده اندماجاً مع اللحن ، فيتألق أكثر ؟ مَن يقود مَن ؟
.................................................. ......................
10.50 صباحاً . عندما يحتاج الناسُ شيئاً ما منك ، يتحول اهتمامُهم بك إلى قمةٍ من قمم التواصل الإنساني الرائع الذي لا تملك حياله إلا أن تبدي إعجابك . و الناسُ في تلك الحال حميميون جداً ، رائعون ، طيبون ، تكادُ إنسانيتهم أن تطغى على شرور العالم فتطفأها نهائياً .
و عندما يحتاج الناسُ شيئاً ما منك ، تستحيلُ ( أنت ) في سياق أحاديثهم إلى سيرةٍ شعبية تفوق سير الأبطال أهميةً ، و تتفنّن ألسنتُهم في إضفاء صفاتٍ عليك ، لم تسمعْ بها قبلاً ، عنك أو عن سواك من البشر العاديين .
حاول الآن أن تقدح زنادَ فكرك ، و عرّف الأمورَ ... بأضدادها .
.................................................. .......................
بُعَيدَ الظهر . سارت الطِيبةُ يوماً في درب الحياة ، فواحدٌ راودها عن نفسها ، وثانٍ نصحها بتغيير جِلدها ، و ثالثٌ حاول حبسَها . و لم تجد في النهاية إلا الوِحدة صديقاً و الصمتَ طريقاً .
.................................................. .......................
2.35 صباحاً . تحشرجت الكلمةُ في حلقِ القلم ، و كأنها تدفعُهُ دفعاً ليلفظها و يرمي بها إلى الورق . مسكينة ... لم تدرِ أن ضيقها بعالم الفِكَر سيرمي بها إلى تيهٍ بين السطور ، بين ملايين الكلمات التي تضيع و لا يسمعها و لا يسمع بها أحد .
و ما أظنُّنا – نحن معشرَ الكُتّاب – إلا مجرمين ، نتفنّنُ في ابتكار ضروبِ تهريبِ الكَلِم عبر حدود الخيال بجوازات سفر المعنى المزوّرة . و كم حمّلنا من معانٍ لكلماتٍ لا تحملها و لا تتحملها ، و كم اخترعنا من المدلولات الزائفة .
و يبدو لي أن القلم قد بدأ يستغلّ غياب الضمير في أحيان كثيرة ، و شرع في لعب دوره – دورَ الضمير – بتكلّفٍ ظاهر لا يقنع أحداً . فمِن أقلام نقادٍ فنانين في الدعاية و الدعاية المضادة ، إلى أقلام مَن يفضّلون بهلوانيات القفز على حلبات الصحافة الفضائحية ( أو المكررة في أحسن الأحوال ) ، وصولاً إلى أقلام الرقابة الحمراء العريضة ، دون أن ننسى أقلام كتبة التقارير بطبيعة الحال .
و ما مِن مظلومٍ في هذه المعمعة كلها – بعد أنفسنا – إلا الكَلِم ، و لا عزاء للناشرين ، ...
.................................................. .......................
3.47 صباحاً . أداعبُ بناتِ أفكاري كلَّ حينٍ حتى لا أنسى الورقَ و القلما ... أهذا شِعر ؟
.................................................. .......................
قُبَيلَ الفجر . كانت طفولتي الحزينة الصامتة أولَ المراحل ، تخللها نوعٌ من النضج المبكّر جداً ، ثم تلك المراهقة المضطربة المؤثرة على الدراسة ، ثم مرحلة التميّز الدراسي في مواد دون غيرها مع الإقبال عليها كلها ، مع قَدْرٍ كبير من الكتب المقروءة قبل ذلك و بعده ... إلى أن تزامنت بدايات عشقي للغة العربية مع مرحلة اكتشافي لعالَم دمشقَ ضمن مفاجأةٍ ما أزالُ أذكُر طعمها حتى الآن . و تلت ذلك كله مرحلةُ التمرّد الأولى على سلطة أبي و اتخاذي قرار ترك الدراسة العلمية إلى الأدبية . ثم كانت مراحل عديدة علّمتني ألا أختصر التاريخ في عناوينَ هزيلةٍ كما فعلتُ في ما مضى من سطور .
.................................................. .......................
الحادية عشرة إلا قليلاً ... و لن أقول إنْ كان الوقت صباحاً .
يا أروع امرأةٍ في الدنيا ، يا لحنَ سكوني ، لن أظلم كلَّ التفاصيل الصغيرة الطيّبة و أقولَ أنك لحن حناني ، فما الموسيقى إلى جمالِكِ ترقى و لا الألحانُ . حُبُّكِ ( في الأرض ) بعضٌ مِن تخيّلنا ! لو لم يكن موجوداً لانتحر نزار و استقالت أم كلثوم ، و لظلَّ ابنُ زيدونَ يبحثُ في أطلال أندلسِهِ عن ولاّدةٍ تكفيه .
قالوا ... أن الإلهامَ امرأةٌ ، و أن الشِعرَ دفءُ امرأة ، و أن وراء كلِّ (مسكين) امرأة لولاها لكان مسكيناً أعظم . و قالوا : أن تكتبَ يعني أن تعشق ... و لا زال علمُنا لا يرقى ، و ما زلنا بأسرار عِشْقِ النساءِ جاهلينا .
.................................................. .......................
1.40 دقيقة ظهراً . رحم الله طِيبةَ الناسِ ، آنسها الله ، طيّب الله ثراها . لم أعد ألقاها إلا مصادفة ، و بِتُّ أَحِنُّ إليها و أشتاق . و يتراءى لي أن الأخلاق البشرية تمرُّ في فصلها الشتائي الطويل الذي لا أعلمُ إنْ كنتُ سأحيا لأرى ربيعه .
.................................................. .......................
11.30 مساءً . مرضتْ فكتبتُ إليها : أغارُ من ألمٍ يلتذُّ بكِ كما تلذّذَ بحبّكِ ألمي .
.................................................. .......................
الثالثة و النصف . لا أدري أهو العمر إذ داهمني ، أم تباريح الشتاء .. أهي الوحدة أم توقي القديم إلى امرأةٍ تكتبني على مساحات حنانها قصةً يقرأها الناسُ و الأطفالُ و الأشجار ... رَحِمَ الله نزاراً ، ماذا فعل بأساليبنا .
ذلك الخوفُ من المجهول ، من صالةٍ اتساعُها ما زال يخيفني حتى الساعة ، يخيفني حتى بعد أن حملتُ أبناءَ طلابي على ذراعيّ .
ما زالت ذاكرتي تسترجع كلَّ حين ذلك الحلم ... ردهةٌ كبيرة ، اتساعُها مُرعب ، و صمتُها مُخيف . أشعة الشمس ، شمس العصر ، أو ربما شمس بُعيد العصر ، تغزو المكانَ غزواً هادئاً صامتاً مخيفاً .. فاضحاً لذرّاتِ غُبارٍ كانت مستورة . آتٍ أنا من مدرستي في حيّ الروضة ، أو آتٍ من عُمرِ المدرسة ، من زمنها ، من تلك الطفولة ، لستُ أدري . الأهم أنني كنتُ هناك .
أحياناً كان الحلمُ يأتيني بدءاً من لحظة وقوفي هناك ، و أحياناً من لحظة دخولي . كنتُ أرى الشريطَ من لحظاتٍ مختلفة ، من أوله و حتى آخره ، لكنهما كانتا دائماً هناك جالستين . و ظلَّ الحلمُ يراودني لسنواتٍ حتى ما عدتُ أذكرُ أحلامي إلا لماماً . إلا أن ذاكرتي اختزنته بشكلٍ عجيب .. ذلك الحلم . و ما كنتُ أراه نائماً ، صارت ذاكرتي تسترجعه تماماً كما هو : من لقطاتٍ مختلفة .
لم تكن الصالةُ مضاءةً إلا بذلك النور الذي سميتُه مجازاً بالشمس . و لستُ أدري،تلك النورانية الرائعة الخافتة الهادئة المُبينة ... أكانت شمساً .. أم أن طفولتي آنذاك ما كانت تعرف ترجمةً أُخرى للنور .
كان في الصالة نوعٌ من الظلمة ، و كأن ستائرَ ذاك المكان ، ستائرَ تلك ( الحال ) كانت مُسدلة .. و لم يكن مصدرُ النورِ واضحاً و لا معروفاً و لا مشهوداً .
.................................................. .......................
كاد الليلُ أن ينتصف . و تسألينني ما بي ؟! لقد تغيّرتُ . نعم ، و أعترفُ بذلك . بِتُّ أكثر عمقاً ، و صار الحزنُ أشدَّ حزناً . و صمتَ القلمُ فما عاد يكتبُ إلا ملاحظاتِ العمل .
ذلك اللؤمُ الذي لكثرةِ ما اكتست الوجوه به ، صارت – إذا ما فارقها – كالعارية التي وضعت عنها ثيابها لتستبدلها بأخرى .. و ما أكثر الأقنعة .
و تلك المرحومةُ ، فقيدتنا المأسوف عليها ، ... الأنوثة يرحمها الله ، لو أنها أوصَتْ أو تركتْ أثراً مكتوباً يُقرأ من بعدها ، لربما كانت حالنا غير هذه.
و أما ذاك الإيقاعُ السريع ، القاتلُ لكافة أصناف الهدوء و التأمّل و التأنّي فضلاً عن العقل الذي ينبغي أن يسبق التوكّلَ ... ، فثالثةُ الأثافي .
.................................................. .......................
... عندما يُعَطَّلُ العقلُ عمداً و ضمن صيغةٍ غريبةٍ مفادُها أخذُ القرارِ العطاليّ بالإجماع ، يتوهُ المنطقُ في أرجاءِ كيانِ الأمة ، يبحثُ عن مُستقَرٍّ فلا يجد ، و يصبحُ الالتزامُ مكروهاً و يمسي غريباً و يبيتُ في العراءِ خارج القلوبِ التي كانت يوماً دافئة .
صاحت الفضيلةُ في وجهِ العقلِ : بِمَ أُناديكَ و ما عُدتَ شيئاً ؟! كيف سَهُلَ عليكَ أن تستحيلَ انفلاتاً و كنتَ أنتَ أنتَ الضبط تعقِلُ حبالَ الجوارحِ إذا انفلتت ؟! كيف هان عليكَ أمرُك ، و هنتَ على الناس ؟! أطرقَ العقلُ هنيهةً و قال : كلُّ صمتٍ أفصحُ من الكلامِ إلا صمتي . أنا يا سيدتي لا ينبغي لي أن أصمت . و لو صمتُّ لماتت الأمّةُ .
.................................................. .......................
8.59 صباحاً . بدأتُ يومي كما كل الأيام تقريباً ، باستثناء أيام العُطَل التي لا تختلف عن سواها إلا بموعد الاستيقاظ . فنجانٌ كبير من القهوة المصنّعة ، ترافقه لفافتان أو ثلاث من تبغٍ معروف الاسم مجهول المصدَر ، و جلسةٌ افتتاحيةٌ ظاهرُها تأمّلٌ و باطنها إدمان ... تلك الدقائق العشرون من زمن كل نهار ضروريةٌ جداً ، بل هي شرطٌ لازمٌ لولوج بوابة الصباح بأسلوبِ ما يُسمّى : حضارة القرن .
و سواء أعجبني ذلك أم لا ، فإن نفس المشهد الصباحي الذي يتكرر منذ ما ينيف على عقودٍ ثلاث ، و الذي يلي افتتاحية الإدمان مباشرةً ، إنما هو مرأى أطفال المدرسة الابتدائية المجاورة يسعون إلى عذابهم اليومي متثاقلين، وكأنما انتقلت عدوى التثاقلِ إليهم من بضع أمهات اعتدن على مرافقة أبنائهن على طريق المدرسة . و لا أدري إنْ كانت العدوى السببَ الوحيد للظاهرة ، لكن ما أنا واثقٌ منه تماماً أني لم أرَ في حياتي طفلاً واحداً يركض إلى تلك المدرسة بفرح ، اللهم إلا المتأخرين ... و دعكَ من الفرح . و لكي تتوازن الصورة ، أتذكّرُ دوماً أولئك الصغار و قد أفرج عنهم جرسُ الانصرافِ الحبيب . صخبُ حريتهم آنذاك ، جميلٌ رغم إزعاجه .
.................................................. .......
3.10 صباحاً . صباح الخير يا مَن تزدادين كل يومٍ جمالاً و أنوثةً و بهاءً . صباح الخير يا أيها المتناقضة ، و إني لمتناقضٌ أكثر منك ، و إنّا جميعاً لكذلك . هاأنذا أزحلق اللامات كأيام زمان ، و أبتكرُ ضروبَ المزج بين حداثتي و كلاسيكيتي ، و أغرق مع القلم – صديقي القديم – في مغامرات التزحلق على جليد السطور .
دخيلٌ أنا يا سيدتي على عالم الأدب ، لكني بحّارٌ في عالم الكلمة ، أتوه في بحرها ، يحدوني الأملُ في الرسوِّ يوماً على شاطئ يديك الرائعتين .
و الآن اسمحي لي بفكّ الطلسم : ما الفرق بين أن يقود المايسترو أوركسترا كاملةً بشكلٍ رائع الانضباط ، بحيث يَطرَبُ المستمعون و يُعجبون بمدى سيطرته على أعضاء الفرقة الموسيقية ... و بين أن يؤثر الأداءُ الرائع للفرقة على أداء المايسترو ، فيزيده اندماجاً مع اللحن ، فيتألق أكثر ؟ مَن يقود مَن ؟
.................................................. ......................
10.50 صباحاً . عندما يحتاج الناسُ شيئاً ما منك ، يتحول اهتمامُهم بك إلى قمةٍ من قمم التواصل الإنساني الرائع الذي لا تملك حياله إلا أن تبدي إعجابك . و الناسُ في تلك الحال حميميون جداً ، رائعون ، طيبون ، تكادُ إنسانيتهم أن تطغى على شرور العالم فتطفأها نهائياً .
و عندما يحتاج الناسُ شيئاً ما منك ، تستحيلُ ( أنت ) في سياق أحاديثهم إلى سيرةٍ شعبية تفوق سير الأبطال أهميةً ، و تتفنّن ألسنتُهم في إضفاء صفاتٍ عليك ، لم تسمعْ بها قبلاً ، عنك أو عن سواك من البشر العاديين .
حاول الآن أن تقدح زنادَ فكرك ، و عرّف الأمورَ ... بأضدادها .
.................................................. .......................
بُعَيدَ الظهر . سارت الطِيبةُ يوماً في درب الحياة ، فواحدٌ راودها عن نفسها ، وثانٍ نصحها بتغيير جِلدها ، و ثالثٌ حاول حبسَها . و لم تجد في النهاية إلا الوِحدة صديقاً و الصمتَ طريقاً .
.................................................. .......................
2.35 صباحاً . تحشرجت الكلمةُ في حلقِ القلم ، و كأنها تدفعُهُ دفعاً ليلفظها و يرمي بها إلى الورق . مسكينة ... لم تدرِ أن ضيقها بعالم الفِكَر سيرمي بها إلى تيهٍ بين السطور ، بين ملايين الكلمات التي تضيع و لا يسمعها و لا يسمع بها أحد .
و ما أظنُّنا – نحن معشرَ الكُتّاب – إلا مجرمين ، نتفنّنُ في ابتكار ضروبِ تهريبِ الكَلِم عبر حدود الخيال بجوازات سفر المعنى المزوّرة . و كم حمّلنا من معانٍ لكلماتٍ لا تحملها و لا تتحملها ، و كم اخترعنا من المدلولات الزائفة .
و يبدو لي أن القلم قد بدأ يستغلّ غياب الضمير في أحيان كثيرة ، و شرع في لعب دوره – دورَ الضمير – بتكلّفٍ ظاهر لا يقنع أحداً . فمِن أقلام نقادٍ فنانين في الدعاية و الدعاية المضادة ، إلى أقلام مَن يفضّلون بهلوانيات القفز على حلبات الصحافة الفضائحية ( أو المكررة في أحسن الأحوال ) ، وصولاً إلى أقلام الرقابة الحمراء العريضة ، دون أن ننسى أقلام كتبة التقارير بطبيعة الحال .
و ما مِن مظلومٍ في هذه المعمعة كلها – بعد أنفسنا – إلا الكَلِم ، و لا عزاء للناشرين ، ...
.................................................. .......................
3.47 صباحاً . أداعبُ بناتِ أفكاري كلَّ حينٍ حتى لا أنسى الورقَ و القلما ... أهذا شِعر ؟
.................................................. .......................
قُبَيلَ الفجر . كانت طفولتي الحزينة الصامتة أولَ المراحل ، تخللها نوعٌ من النضج المبكّر جداً ، ثم تلك المراهقة المضطربة المؤثرة على الدراسة ، ثم مرحلة التميّز الدراسي في مواد دون غيرها مع الإقبال عليها كلها ، مع قَدْرٍ كبير من الكتب المقروءة قبل ذلك و بعده ... إلى أن تزامنت بدايات عشقي للغة العربية مع مرحلة اكتشافي لعالَم دمشقَ ضمن مفاجأةٍ ما أزالُ أذكُر طعمها حتى الآن . و تلت ذلك كله مرحلةُ التمرّد الأولى على سلطة أبي و اتخاذي قرار ترك الدراسة العلمية إلى الأدبية . ثم كانت مراحل عديدة علّمتني ألا أختصر التاريخ في عناوينَ هزيلةٍ كما فعلتُ في ما مضى من سطور .
.................................................. .......................
الحادية عشرة إلا قليلاً ... و لن أقول إنْ كان الوقت صباحاً .
يا أروع امرأةٍ في الدنيا ، يا لحنَ سكوني ، لن أظلم كلَّ التفاصيل الصغيرة الطيّبة و أقولَ أنك لحن حناني ، فما الموسيقى إلى جمالِكِ ترقى و لا الألحانُ . حُبُّكِ ( في الأرض ) بعضٌ مِن تخيّلنا ! لو لم يكن موجوداً لانتحر نزار و استقالت أم كلثوم ، و لظلَّ ابنُ زيدونَ يبحثُ في أطلال أندلسِهِ عن ولاّدةٍ تكفيه .
قالوا ... أن الإلهامَ امرأةٌ ، و أن الشِعرَ دفءُ امرأة ، و أن وراء كلِّ (مسكين) امرأة لولاها لكان مسكيناً أعظم . و قالوا : أن تكتبَ يعني أن تعشق ... و لا زال علمُنا لا يرقى ، و ما زلنا بأسرار عِشْقِ النساءِ جاهلينا .
.................................................. .......................
1.40 دقيقة ظهراً . رحم الله طِيبةَ الناسِ ، آنسها الله ، طيّب الله ثراها . لم أعد ألقاها إلا مصادفة ، و بِتُّ أَحِنُّ إليها و أشتاق . و يتراءى لي أن الأخلاق البشرية تمرُّ في فصلها الشتائي الطويل الذي لا أعلمُ إنْ كنتُ سأحيا لأرى ربيعه .
.................................................. .......................
11.30 مساءً . مرضتْ فكتبتُ إليها : أغارُ من ألمٍ يلتذُّ بكِ كما تلذّذَ بحبّكِ ألمي .
.................................................. .......................
الثالثة و النصف . لا أدري أهو العمر إذ داهمني ، أم تباريح الشتاء .. أهي الوحدة أم توقي القديم إلى امرأةٍ تكتبني على مساحات حنانها قصةً يقرأها الناسُ و الأطفالُ و الأشجار ... رَحِمَ الله نزاراً ، ماذا فعل بأساليبنا .
ذلك الخوفُ من المجهول ، من صالةٍ اتساعُها ما زال يخيفني حتى الساعة ، يخيفني حتى بعد أن حملتُ أبناءَ طلابي على ذراعيّ .
ما زالت ذاكرتي تسترجع كلَّ حين ذلك الحلم ... ردهةٌ كبيرة ، اتساعُها مُرعب ، و صمتُها مُخيف . أشعة الشمس ، شمس العصر ، أو ربما شمس بُعيد العصر ، تغزو المكانَ غزواً هادئاً صامتاً مخيفاً .. فاضحاً لذرّاتِ غُبارٍ كانت مستورة . آتٍ أنا من مدرستي في حيّ الروضة ، أو آتٍ من عُمرِ المدرسة ، من زمنها ، من تلك الطفولة ، لستُ أدري . الأهم أنني كنتُ هناك .
أحياناً كان الحلمُ يأتيني بدءاً من لحظة وقوفي هناك ، و أحياناً من لحظة دخولي . كنتُ أرى الشريطَ من لحظاتٍ مختلفة ، من أوله و حتى آخره ، لكنهما كانتا دائماً هناك جالستين . و ظلَّ الحلمُ يراودني لسنواتٍ حتى ما عدتُ أذكرُ أحلامي إلا لماماً . إلا أن ذاكرتي اختزنته بشكلٍ عجيب .. ذلك الحلم . و ما كنتُ أراه نائماً ، صارت ذاكرتي تسترجعه تماماً كما هو : من لقطاتٍ مختلفة .
لم تكن الصالةُ مضاءةً إلا بذلك النور الذي سميتُه مجازاً بالشمس . و لستُ أدري،تلك النورانية الرائعة الخافتة الهادئة المُبينة ... أكانت شمساً .. أم أن طفولتي آنذاك ما كانت تعرف ترجمةً أُخرى للنور .
كان في الصالة نوعٌ من الظلمة ، و كأن ستائرَ ذاك المكان ، ستائرَ تلك ( الحال ) كانت مُسدلة .. و لم يكن مصدرُ النورِ واضحاً و لا معروفاً و لا مشهوداً .
.................................................. .......................
كاد الليلُ أن ينتصف . و تسألينني ما بي ؟! لقد تغيّرتُ . نعم ، و أعترفُ بذلك . بِتُّ أكثر عمقاً ، و صار الحزنُ أشدَّ حزناً . و صمتَ القلمُ فما عاد يكتبُ إلا ملاحظاتِ العمل .
ذلك اللؤمُ الذي لكثرةِ ما اكتست الوجوه به ، صارت – إذا ما فارقها – كالعارية التي وضعت عنها ثيابها لتستبدلها بأخرى .. و ما أكثر الأقنعة .
و تلك المرحومةُ ، فقيدتنا المأسوف عليها ، ... الأنوثة يرحمها الله ، لو أنها أوصَتْ أو تركتْ أثراً مكتوباً يُقرأ من بعدها ، لربما كانت حالنا غير هذه.
و أما ذاك الإيقاعُ السريع ، القاتلُ لكافة أصناف الهدوء و التأمّل و التأنّي فضلاً عن العقل الذي ينبغي أن يسبق التوكّلَ ... ، فثالثةُ الأثافي .
.................................................. .......................
... عندما يُعَطَّلُ العقلُ عمداً و ضمن صيغةٍ غريبةٍ مفادُها أخذُ القرارِ العطاليّ بالإجماع ، يتوهُ المنطقُ في أرجاءِ كيانِ الأمة ، يبحثُ عن مُستقَرٍّ فلا يجد ، و يصبحُ الالتزامُ مكروهاً و يمسي غريباً و يبيتُ في العراءِ خارج القلوبِ التي كانت يوماً دافئة .
صاحت الفضيلةُ في وجهِ العقلِ : بِمَ أُناديكَ و ما عُدتَ شيئاً ؟! كيف سَهُلَ عليكَ أن تستحيلَ انفلاتاً و كنتَ أنتَ أنتَ الضبط تعقِلُ حبالَ الجوارحِ إذا انفلتت ؟! كيف هان عليكَ أمرُك ، و هنتَ على الناس ؟! أطرقَ العقلُ هنيهةً و قال : كلُّ صمتٍ أفصحُ من الكلامِ إلا صمتي . أنا يا سيدتي لا ينبغي لي أن أصمت . و لو صمتُّ لماتت الأمّةُ .
.................................................. .......................