المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مذكرات تائب 2


شامل سفر
01-06-05, 04:40 AM
مذكرات تائب 2
8.59 صباحاً . بدأتُ يومي كما كل الأيام تقريباً ، باستثناء أيام العُطَل التي لا تختلف عن سواها إلا بموعد الاستيقاظ . فنجانٌ كبير من القهوة المصنّعة ، ترافقه لفافتان أو ثلاث من تبغٍ معروف الاسم مجهول المصدَر ، و جلسةٌ افتتاحيةٌ ظاهرُها تأمّلٌ و باطنها إدمان ... تلك الدقائق العشرون من زمن كل نهار ضروريةٌ جداً ، بل هي شرطٌ لازمٌ لولوج بوابة الصباح بأسلوبِ ما يُسمّى : حضارة القرن .
و سواء أعجبني ذلك أم لا ، فإن نفس المشهد الصباحي الذي يتكرر منذ ما ينيف على عقودٍ ثلاث ، و الذي يلي افتتاحية الإدمان مباشرةً ، إنما هو مرأى أطفال المدرسة الابتدائية المجاورة يسعون إلى عذابهم اليومي متثاقلين، وكأنما انتقلت عدوى التثاقلِ إليهم من بضع أمهات اعتدن على مرافقة أبنائهن على طريق المدرسة . و لا أدري إنْ كانت العدوى السببَ الوحيد للظاهرة ، لكن ما أنا واثقٌ منه تماماً أني لم أرَ في حياتي طفلاً واحداً يركض إلى تلك المدرسة بفرح ، اللهم إلا المتأخرين ... و دعكَ من الفرح . و لكي تتوازن الصورة ، أتذكّرُ دوماً أولئك الصغار و قد أفرج عنهم جرسُ الانصرافِ الحبيب . صخبُ حريتهم آنذاك ، جميلٌ رغم إزعاجه .
.................................................. .......
3.10 صباحاً . صباح الخير يا مَن تزدادين كل يومٍ جمالاً و أنوثةً و بهاءً . صباح الخير يا أيها المتناقضة ، و إني لمتناقضٌ أكثر منك ، و إنّا جميعاً لكذلك . هاأنذا أزحلق اللامات كأيام زمان ، و أبتكرُ ضروبَ المزج بين حداثتي و كلاسيكيتي ، و أغرق مع القلم – صديقي القديم – في مغامرات التزحلق على جليد السطور .
دخيلٌ أنا يا سيدتي على عالم الأدب ، لكني بحّارٌ في عالم الكلمة ، أتوه في بحرها ، يحدوني الأملُ في الرسوِّ يوماً على شاطئ يديك الرائعتين .
و الآن اسمحي لي بفكّ الطلسم : ما الفرق بين أن يقود المايسترو أوركسترا كاملةً بشكلٍ رائع الانضباط ، بحيث يَطرَبُ المستمعون و يُعجبون بمدى سيطرته على أعضاء الفرقة الموسيقية ... و بين أن يؤثر الأداءُ الرائع للفرقة على أداء المايسترو ، فيزيده اندماجاً مع اللحن ، فيتألق أكثر ؟ مَن يقود مَن ؟
.................................................. ......................
10.50 صباحاً . عندما يحتاج الناسُ شيئاً ما منك ، يتحول اهتمامُهم بك إلى قمةٍ من قمم التواصل الإنساني الرائع الذي لا تملك حياله إلا أن تبدي إعجابك . و الناسُ في تلك الحال حميميون جداً ، رائعون ، طيبون ، تكادُ إنسانيتهم أن تطغى على شرور العالم فتطفأها نهائياً .
و عندما يحتاج الناسُ شيئاً ما منك ، تستحيلُ ( أنت ) في سياق أحاديثهم إلى سيرةٍ شعبية تفوق سير الأبطال أهميةً ، و تتفنّن ألسنتُهم في إضفاء صفاتٍ عليك ، لم تسمعْ بها قبلاً ، عنك أو عن سواك من البشر العاديين .
حاول الآن أن تقدح زنادَ فكرك ، و عرّف الأمورَ ... بأضدادها .
.................................................. .......................
بُعَيدَ الظهر . سارت الطِيبةُ يوماً في درب الحياة ، فواحدٌ راودها عن نفسها ، وثانٍ نصحها بتغيير جِلدها ، و ثالثٌ حاول حبسَها . و لم تجد في النهاية إلا الوِحدة صديقاً و الصمتَ طريقاً .
.................................................. .......................
2.35 صباحاً . تحشرجت الكلمةُ في حلقِ القلم ، و كأنها تدفعُهُ دفعاً ليلفظها و يرمي بها إلى الورق . مسكينة ... لم تدرِ أن ضيقها بعالم الفِكَر سيرمي بها إلى تيهٍ بين السطور ، بين ملايين الكلمات التي تضيع و لا يسمعها و لا يسمع بها أحد .
و ما أظنُّنا – نحن معشرَ الكُتّاب – إلا مجرمين ، نتفنّنُ في ابتكار ضروبِ تهريبِ الكَلِم عبر حدود الخيال بجوازات سفر المعنى المزوّرة . و كم حمّلنا من معانٍ لكلماتٍ لا تحملها و لا تتحملها ، و كم اخترعنا من المدلولات الزائفة .
و يبدو لي أن القلم قد بدأ يستغلّ غياب الضمير في أحيان كثيرة ، و شرع في لعب دوره – دورَ الضمير – بتكلّفٍ ظاهر لا يقنع أحداً . فمِن أقلام نقادٍ فنانين في الدعاية و الدعاية المضادة ، إلى أقلام مَن يفضّلون بهلوانيات القفز على حلبات الصحافة الفضائحية ( أو المكررة في أحسن الأحوال ) ، وصولاً إلى أقلام الرقابة الحمراء العريضة ، دون أن ننسى أقلام كتبة التقارير بطبيعة الحال .
و ما مِن مظلومٍ في هذه المعمعة كلها – بعد أنفسنا – إلا الكَلِم ، و لا عزاء للناشرين ، ...
.................................................. .......................
3.47 صباحاً . أداعبُ بناتِ أفكاري كلَّ حينٍ حتى لا أنسى الورقَ و القلما ... أهذا شِعر ؟
.................................................. .......................
قُبَيلَ الفجر . كانت طفولتي الحزينة الصامتة أولَ المراحل ، تخللها نوعٌ من النضج المبكّر جداً ، ثم تلك المراهقة المضطربة المؤثرة على الدراسة ، ثم مرحلة التميّز الدراسي في مواد دون غيرها مع الإقبال عليها كلها ، مع قَدْرٍ كبير من الكتب المقروءة قبل ذلك و بعده ... إلى أن تزامنت بدايات عشقي للغة العربية مع مرحلة اكتشافي لعالَم دمشقَ ضمن مفاجأةٍ ما أزالُ أذكُر طعمها حتى الآن . و تلت ذلك كله مرحلةُ التمرّد الأولى على سلطة أبي و اتخاذي قرار ترك الدراسة العلمية إلى الأدبية . ثم كانت مراحل عديدة علّمتني ألا أختصر التاريخ في عناوينَ هزيلةٍ كما فعلتُ في ما مضى من سطور .
.................................................. .......................
الحادية عشرة إلا قليلاً ... و لن أقول إنْ كان الوقت صباحاً .
يا أروع امرأةٍ في الدنيا ، يا لحنَ سكوني ، لن أظلم كلَّ التفاصيل الصغيرة الطيّبة و أقولَ أنك لحن حناني ، فما الموسيقى إلى جمالِكِ ترقى و لا الألحانُ . حُبُّكِ ( في الأرض ) بعضٌ مِن تخيّلنا ! لو لم يكن موجوداً لانتحر نزار و استقالت أم كلثوم ، و لظلَّ ابنُ زيدونَ يبحثُ في أطلال أندلسِهِ عن ولاّدةٍ تكفيه .
قالوا ... أن الإلهامَ امرأةٌ ، و أن الشِعرَ دفءُ امرأة ، و أن وراء كلِّ (مسكين) امرأة لولاها لكان مسكيناً أعظم . و قالوا : أن تكتبَ يعني أن تعشق ... و لا زال علمُنا لا يرقى ، و ما زلنا بأسرار عِشْقِ النساءِ جاهلينا .
.................................................. .......................
1.40 دقيقة ظهراً . رحم الله طِيبةَ الناسِ ، آنسها الله ، طيّب الله ثراها . لم أعد ألقاها إلا مصادفة ، و بِتُّ أَحِنُّ إليها و أشتاق . و يتراءى لي أن الأخلاق البشرية تمرُّ في فصلها الشتائي الطويل الذي لا أعلمُ إنْ كنتُ سأحيا لأرى ربيعه .
.................................................. .......................
11.30 مساءً . مرضتْ فكتبتُ إليها : أغارُ من ألمٍ يلتذُّ بكِ كما تلذّذَ بحبّكِ ألمي .
.................................................. .......................
الثالثة و النصف . لا أدري أهو العمر إذ داهمني ، أم تباريح الشتاء .. أهي الوحدة أم توقي القديم إلى امرأةٍ تكتبني على مساحات حنانها قصةً يقرأها الناسُ و الأطفالُ و الأشجار ... رَحِمَ الله نزاراً ، ماذا فعل بأساليبنا .
ذلك الخوفُ من المجهول ، من صالةٍ اتساعُها ما زال يخيفني حتى الساعة ، يخيفني حتى بعد أن حملتُ أبناءَ طلابي على ذراعيّ .
ما زالت ذاكرتي تسترجع كلَّ حين ذلك الحلم ... ردهةٌ كبيرة ، اتساعُها مُرعب ، و صمتُها مُخيف . أشعة الشمس ، شمس العصر ، أو ربما شمس بُعيد العصر ، تغزو المكانَ غزواً هادئاً صامتاً مخيفاً .. فاضحاً لذرّاتِ غُبارٍ كانت مستورة . آتٍ أنا من مدرستي في حيّ الروضة ، أو آتٍ من عُمرِ المدرسة ، من زمنها ، من تلك الطفولة ، لستُ أدري . الأهم أنني كنتُ هناك .
أحياناً كان الحلمُ يأتيني بدءاً من لحظة وقوفي هناك ، و أحياناً من لحظة دخولي . كنتُ أرى الشريطَ من لحظاتٍ مختلفة ، من أوله و حتى آخره ، لكنهما كانتا دائماً هناك جالستين . و ظلَّ الحلمُ يراودني لسنواتٍ حتى ما عدتُ أذكرُ أحلامي إلا لماماً . إلا أن ذاكرتي اختزنته بشكلٍ عجيب .. ذلك الحلم . و ما كنتُ أراه نائماً ، صارت ذاكرتي تسترجعه تماماً كما هو : من لقطاتٍ مختلفة .
لم تكن الصالةُ مضاءةً إلا بذلك النور الذي سميتُه مجازاً بالشمس . و لستُ أدري،تلك النورانية الرائعة الخافتة الهادئة المُبينة ... أكانت شمساً .. أم أن طفولتي آنذاك ما كانت تعرف ترجمةً أُخرى للنور .
كان في الصالة نوعٌ من الظلمة ، و كأن ستائرَ ذاك المكان ، ستائرَ تلك ( الحال ) كانت مُسدلة .. و لم يكن مصدرُ النورِ واضحاً و لا معروفاً و لا مشهوداً .
.................................................. .......................
كاد الليلُ أن ينتصف . و تسألينني ما بي ؟! لقد تغيّرتُ . نعم ، و أعترفُ بذلك . بِتُّ أكثر عمقاً ، و صار الحزنُ أشدَّ حزناً . و صمتَ القلمُ فما عاد يكتبُ إلا ملاحظاتِ العمل .
ذلك اللؤمُ الذي لكثرةِ ما اكتست الوجوه به ، صارت – إذا ما فارقها – كالعارية التي وضعت عنها ثيابها لتستبدلها بأخرى .. و ما أكثر الأقنعة .
و تلك المرحومةُ ، فقيدتنا المأسوف عليها ، ... الأنوثة يرحمها الله ، لو أنها أوصَتْ أو تركتْ أثراً مكتوباً يُقرأ من بعدها ، لربما كانت حالنا غير هذه.
و أما ذاك الإيقاعُ السريع ، القاتلُ لكافة أصناف الهدوء و التأمّل و التأنّي فضلاً عن العقل الذي ينبغي أن يسبق التوكّلَ ... ، فثالثةُ الأثافي .
.................................................. .......................
... عندما يُعَطَّلُ العقلُ عمداً و ضمن صيغةٍ غريبةٍ مفادُها أخذُ القرارِ العطاليّ بالإجماع ، يتوهُ المنطقُ في أرجاءِ كيانِ الأمة ، يبحثُ عن مُستقَرٍّ فلا يجد ، و يصبحُ الالتزامُ مكروهاً و يمسي غريباً و يبيتُ في العراءِ خارج القلوبِ التي كانت يوماً دافئة .
صاحت الفضيلةُ في وجهِ العقلِ : بِمَ أُناديكَ و ما عُدتَ شيئاً ؟! كيف سَهُلَ عليكَ أن تستحيلَ انفلاتاً و كنتَ أنتَ أنتَ الضبط تعقِلُ حبالَ الجوارحِ إذا انفلتت ؟! كيف هان عليكَ أمرُك ، و هنتَ على الناس ؟! أطرقَ العقلُ هنيهةً و قال : كلُّ صمتٍ أفصحُ من الكلامِ إلا صمتي . أنا يا سيدتي لا ينبغي لي أن أصمت . و لو صمتُّ لماتت الأمّةُ .
.................................................. .......................

شوي ..
05-06-05, 09:10 AM
السلام عليكم ..

تحية لك اخي شامل سفر ..

على هذا الطرح المميز والراقي في عرضه ..

تمنيت عليك ان تبقى معنا وانت صاحب هذا القلم ..

فقد قرأت قبل قليل خبر إستقالتك ولم اكن اعرف ...

انك بهذا المستوى من التألق والكتابة ..

اخوك / شوي ..

شامل سفر
05-06-05, 01:45 PM
مَن سرّه سببٌ أو هاله عجبٌ
فلي ( أربعون ) عاماً لا أرى عجبا
الدهرُ كالدهرِ و الأيامُ واحدةٌ
و الناسُ كالناسِ و ( الدنيا ) لِمن غلبا
و عذراً من روح الشاعر ...