بريدة.... المدينة السعودية التي لم يفهمها أحد
 بريدة عاصمة منطقة القصيم السعودية أخرجت شخصيات وأفكاراً ينظر إليها على أنها تناقضات. أبناؤها، أو قل نجومها، أطلقوا ضحكات مدوية لفكرة «المدينة التي لم يفهمها أحد». الدكتور تركي الحمد، المفكر والروائي المثير للجدل، قال عن مدينته بريدة «كيف غابت عني هذه الفكرة؟ إنها ظاهرة تستحق التأمل». فالجدل فيها ليس حول التيارات الإسلامية أو الليبرالية أو العلمانية مثلا، أو حتى صراع الشرق الأوسط، بل انشغلوا واشغلوا السعوديين معهم في غزو الأميركيين والروس للفضاء، فهل بريدة مدينة «حدية» بطبعها؟ أم أنها مصابة «بندية» المدن؟ يبدأ الجدل بادئ ذي بدء حول تسميتها، فبريدة التي تقع على مساحة 80 ألف كيلومتر مربع، ويبلغ تعداد سكانها قرابة نصف مليون نسمة، تختلف الروايات حول مسماها، فرواية تقول انها سميت بريدة بسبب كثرة مائها وبرودته. ورواية أخرى تقول انها سميت نسبة للصحابي بريدة بن الحصيب لكنها مدينة حديثة أنشئت في القرن التاسع الهجري كما تذكر الروايات التاريخية. ويقال كذلك انها سميت على اسم بريدة بنت ابن هذال الذي باعها إلى راشد الدريبي أحد أسلاف آسرة آل أبو عليان حكام بريدة القدماء في بدايات القرن الحادي عشر الهجري. وهذا التناقض لا يقف عند الجدلية التاريخية بل يمتد إلى الآراء والأفكار التي تصدر عن أبنائها أو قل نجومها، ففي بريدة تيار يريد التمسك بالأصول دون هوادة، وتيار آخر يريد التحديث والذهاب إلى ما هو ابعد من الواقع. لكن ليس مجال الحديث هنا عن تيارات بقدر ما هو حديث عن نجوم عرفتهم الساحة، ليست السعودية وحسب بل حتى العربية. من الذي لم يسمع عن عبد الله القصيمي، الذي تباع كتبه في بيروت ولندن وباريس منذ ثلاثين عاما وتصدم بعنف قراءها، وهو صاحب المقولة الشهيرة التي وصف العرب بها على انهم «ظاهرة صوتية». القصيمي الذي أنجز الباحث الألماني يورغن فازلا أطروحته للدكتوراه عنه، هو من أبناء مدينة بريدة وغادرها إلى القاهرة وهو في سن الثامنة عشرة في الربع الأول من القرن الماضي. عن ذلك يقول الدكتور خالد الدخيل، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة الملك سعود في الرياض وهو بريداوي أيضا، «ليس لفكر القصيمي علاقة ببريدة فالرجل ظل مدافعا عن السلفية طوال تسعة عشر عاما بعد خروجه من بريدة، بل كتب في ذلك كتابا شهيرا بعنوان (الصراع بين الإسلام والوثنية)»، مضيفا ان موقف القصيمي جاء من صدمة شخصية بعد اللقاء الذي دار بينه وبين والده الذي كان يعمل بالتجارة ومن اجلها انتقل للعيش في الشارقة بالإمارات العربية المتحدة. وعن التناقض الذي يصف البعض فيه مدينته بريدة، يعتقد الدكتور خالد الدخيل أن «هذا ليس تناقضاً فالتعددية هي سمة المدن».
وفيما يخص القصيمي فان البريداوي الآخر، علي العميم، أحد ابرز نقاد التيارات الإسلامية ومؤلف كتاب «العلمانية وممانعة التيارات الإسلامية»، يؤيد ذلك بقوله ان القصيمي تأثر بتيار الحادي الذي كان منتشرا في القاهرة بالخمسينات، وليس لبريدة اثر في فكره. والعميم نفسه حالة تستحق الوقوف عندها أيضا، فهو يقول عن نفسه كناقد للتيارات الإسلامية «أنا لم أغادر الملاعب إطلاقا». وهي عبارة تطلق في الرياض على شباب بريدة عندما يتركونها بعد سن الثامنة عشرة ويتحولون إلى نقد الخطاب الإسلامي في بريدة. ويضيف العميم شارحا «عندما انتقد التيارات الإسلامية فليس من دافع جهل أو لأنني اختلف معهم وحسب، بل من خلال قراءة عميقة ومعرفة بالثقافة الدينية». وعن مدينته يقول «لا أستطيع القول انها تناقضات.. لكن أستطيع القول بأنها مدينة حدية». ويبرر العميم ذلك بالقول بأن وقوع بريدة في المنتصف بين الرياض ومدينة حائل، وكونها ثاني اكبر مدينة في الوسطى بعد العاصمة جعلها مدينة تبحث عن دور لها، مما أصابها «بما يمكن أن اسميه ندية المدن».
في بريدة ظواهر لا يمكن إلا تأملها والوقوف عندها، مثلا الشيخ حمود بن عقلا الشعيبي، المتوفى قبل قرابة عام، أصدر قبل وفاته فتوى بتكفير وهدر دم الفنان الكويتي عبد الله الرويشد بسبب أغنية، وأفتى بالوقوف مع طالبان، بل التقى أحد صحافيي الـ«واشنطن بوست» في مزرعته في بريدة قائلا له بأنه قد «كتب على المسلمين قتال الأميركيين». وله قبل ذلك فتاوى لا تقل قسوة بحق الدكتور ابن مدينته تركي الحمد. لكن في نفس الوقت تجد أن من ابرز مشايخ بريدة الشيخ عبد العزيز المسند، أول شيخ سلفي ظهر على التلفزيون السعودي في الوقت الذي كان التلفزيون قضية في حد ذاتها. عرفه السعوديون ببرنامج تلفزيوني شهير بعنوان «منكم واليكم»، وله كثير من المحبين والمتابعين نظرا لأن المسند اشتهر بسماحة المظهر والاهتمام بالقضايا الاجتماعية وتغلبيه للطرح الوسطي. وما دام الحديث عن علماء الدين فلا يمكن تجاهل الشيخ عبد الكريم بن صالح الحميد وهو رجل زهد بكل شيء بعد أن كان أحد مترجمي شركة ارامكو، في شرق المملكة العربية السعودية. ويعيش في بريدة الان بمنزل من طين، لا يستخدم الكهرباء ويؤثر ركوب الخيل على استخدام السيارات، وان كان قد باع حصانه قبل فترة وجيزة. ويمقت الشيخ الحميد الحضارة ككلمة وكل ما يدل على مظاهرها، وله فتاوى أقربها صدر قبل شهر إلى الحكام العرب، وألف قرابة خمسين كتابا، ومن اشهر أرائه إنكار الذرة. للتو فرغ من بناء مسجد جديد له استخدم في بنائه «البلوك»، مما فسره أحدهم بالحداثة، ورغم كل مواقفه من الحضارة إلا أن فتاواه متوفرة على الإنترنت بشكل مكثف، ولديه موقع على شبكة الويب! والحديث عن الحضارة يجرنا إلى الحديث عن داود الشريان، صحافي ومعلق معروف يصفه كثير من الإعلاميين السعوديين بالحدة والجرأة في نقده ومطالبته بالتحديث. انبرى منتقدا مجلس الشورى السعودي بعنف غير مسبوق، فترة رئاسة الشيخ عبد الله بن جبير رحمه الله، مما حدا بالشيخ الأديب أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري إلى أن يكتب مطالبا الحكومة السعودية بتجريده من هويته السعودية.
وعلى ذكر مجلس الشورى نشير إلى أن الشيخ الدكتور صالح بن حميد، رئيس مجلس الشورى السعودي حاليا، هو من أبناء مدينة بريدة ويمثل النموذج لعالم الدين المتسامح المنفتح على الآخر ويقول عنه محمد العثيم، ابرز «مناضل» مسرحي سعودي «الشيخ صالح بن حميد ابن بريدة البار، رجل متدين معتدل جدا ومنفتح والكثير يحترمون آرائه من كل الأطراف الدينية والثقافية. وهو رجل نموذج».
وعندما تسأل العثيم عن مدينته بريدة وهذا التناقض الواضح حيث تجد فيها من هم معنيون بمأسسة المجتمع المدني مثل الدكتور عبد الله الحامد والكاتب إبراهيم البليهي، أو نقد التيارات الإسلامية بحدة مثل الكاتب الصحافي سليمان النقيدان، خصوصا بعد 11 سبتمبر (أيلول)، كذلك وجود ما يسمى بالتيار التنويري الإسلامي مثل مشاري الذايدي وسليمان الضحيان وعبد الرحمن اللاحم ومنصور النقيدان، في مقابل وجود أسماء توصف بأنها متشددة مثل الشيخ الشعيبي رحمه الله أو الحميد، والشيخ سلمان العودة، الداعية الذي ابعدته السلطات الأردنية قبل شهرين ومنعته عندما جاء لالقاء محاضرة، وهناك من برز في بريدة أيضا من غير مواطنيها حيث تكونت «السرورية» نسبة إلى الإخواني السوري محمد سرور زين العابدين الذي سكن المدينة.. كيف يجد المسرحي العثيم نفسه في مدينة لدى الكثيرين القناعة بأنها ضد الفن، أو هكذا تبدو، يقول فيما يختص بالمسرح فإن بريدة «عرفت المسرح منذ أيام الملك عبد العزيز، ويذكر التاريخ أن أحد الظرفاء واسمه مضيان ادى عرضا أمام الملك الراحل عبد العزيز، مضيفا أن «المسرح لم يكن مرفوضا في بريدة». أما عن التناقض في بريدة فيقول العثيم «هناك أسباب». أولا أن بريدة مدينة في مهب كل الرياح الفكرية كونها تقع في منطقة اتصالية منذ القدم، بمعنى أنها على خطوط قوافل وتجارة كثيرة. الأمر الأخر أنها ملتقى فكر من الشمال بالجزيرة العربية، والجنوب من الشام ومن الشرق بالعراق وإيران. ويضيف العثيم بأنه كي تفهم التركيبة الفكرية لمدينة بريدة فلا بد من النظر إلى التركيبة السكانية التي تتكون من ثلاث فئات. وهي فئة الفلاحين، قبل مائة سنة، المعزولين في رمال يصعب اجتيازها، نمت لديهم ثقافة زراعية، يعرفها العثيم على أنها «ثقافة إيمانية عميقة جدا ترتبط بالأرض وتؤمن بالقدر والخير». أما الفئة الأخرى، حسب ما يراها العثيم، فهي فئة تجار بريدة، العقيلات، وهم «من يحتكون بالخارج فيعودون حاملين معهم الأفكار الجديدة». وكان أهل بريدة يقاطعونهم لفترة معينة بسبب أفكارهم الجديدة. مع هذا كانوا مصدرا فكريا وذهنيا يساهم في هذه التناقضات.
الفئة الثالثة من التركيبة السكانية هي أهل البادية، وبريدة مركز بادية. والبدو، وفقا للعثيم، اكثر انفتاحاً بسبب الصحراء وتنقلاتهم، وهم يتعاملون مع الأفكار الجديدة «بصفة أنها لا تعنيهم». وهنا يستدرك العثيم قائلا «منذ أيامي في بريدة» والناس هناك تتحاور في بيوتها حول قضايا فلسفية، قضايا «لا تقرأ حتى في الكتب». ففي بريدة، كما يقول، ثلاث فئات ذهنية فيها «جزء متقبل، وجزء منفتح جدا، وجزء منغلق جدا». لكن العثيم ينبه إلى نقطة «مهمة جدا» حسب تعبيره، قائلا «انه ورغم وجود فكر متشدد في هذه المدينة المتميزة إلا أن أهلها لا يصطدمون إلا فكريا» بمعنى انهم ليسوا أصحاب عنف. ويذكرنا قائلا ان «بريدة لا تنتج مثل بن لادن، أو فكره. ولا تنتج ثقافة العنف السائدة الان، لكن الجماعات الإسلامية المتطرفة دائما هي التي تأتي إلى مشايخ بريدة بحثا عن المشروعية والهوية، لتحظى بالدعم وتتلبس ثوب السلفية». وفي تاريخ بريدة الحديث ما يجهله الكثيرون، إلا التاريخ نفسه. ففي الستينات كان بمدينة بريدة مكتبة يشرف عليها الطلاب وتوزع بطاقات إعارة للشباب لاستعارة كتب ربما لا تجدها في بعض الدول العربية ذلك الوقت مثل الأدب الروسي المترجم كروايات فيدور ديتويفسكي وتولوستوي، وكتب لخيري حماد ومنير البعلبكي. حدث ذلك في الوقت الذي كانت فيه بريدة المدينة السعودية الوحيدة التي لم يفتتح فيها مدارس للبنات في الستينات إلا بحضور قوات الأمن السعودية.
ومع انه شاع عن بريدة تشددها ضد كل ما هو حديث إلا أن أول من أسس إذاعة خاصة في العاصمة السعودية قبل 40 عاما هو بريداوي اسمه عبد الله العويد، المعروف بلقب طامي توفي قبل عامين. أسس إذاعة عرفت باسم «إذاعة طامي» مستخدما مرسلة لاسلكية قديمة حولها إلى مرسلة إذاعية على الموجة القصيرة. ووفقا لدراسة أعدها الدكتور عبد الرحمن الشبيلي عن الإعلام في السعودية، فان إذاعة طامي بدأت سنة 1961 بداية بسيطة تبث المواد الترفيهية والإعلانات الطريفة، وتوقفت بعد اشهر من دخول الحكومة السعودية على الخط عندما قامت بتركيب مرسلة إذاعية في الرياض في أواخر عام .1962 ولد طامي في مدينة بريدة عام 1924، ورافق في صغره حملات العقيلات المشهورة إلى شمال الجزيرة العربية والحق بالجيش الفرنسي في الشام. كما عمل فترة قصيرة بوزارة الإعلام السعودية بعد توقف إذاعته، ومن ثم تفرغ للعمل الخاص. الدكتورة هناء المطلق من أبناء العقيلات في بريدة، أستاذة علم النفس بجامعة الملك سعود بالرياض وكاتبة صحافية وإذاعية لامعة. بدأ اهتمامها بعلم الطاقة (العلاج بالطاقة الذي يفسر الماورائيات) منذ قرابة خمسة أعوام. تقول بعد أن قامت بإلقاء محاضرات عن هذا العلم ان اكثر من يقومون بعيادتها هم من نساء القصيم، وبريدة على وجه الخصوص. ليس بسبب أمراض لديهن، بل حب معرفة الجديد. ومن واقع تجربتها العملية تقول الدكتورة هناء ان لدى أهل بريدة «استعداداً لكل ما هو جديد». مشاري الذايدي يقول «لا أعتقد أن إنتاج بريدة لهذه النماذج الثقافية المتباينة شيء غرائبي أو نوع من الشطح في التفكير كما يتبدى لبعض المراقبين». ويتابع الذايدي قائلا «بقدر ما تمور بريدة بالأسئلة والاختلاف بقدر ما تنتج الأجوبة المتعددة». لكن الذايدي يقول ان المدن التي تبدو صارمة كثيرا ما يتم «تداول التسامح فيها من تحت الطاولة».! وأمام كل ذلك، يبقى السؤال: هل بريدة مدينة حدية أو مدينة متناقضات؟ وهو سؤال ما زال يبحث عن إجابة له، فليس من السهل الخروج بإجابات جازمة في ظل عدم وجود دراسات اجتماعية بهذا الخصوص. لكن العثيم يقول ان «بريدة ليست مدينة حدية، لكنها مدينة تناقضات اجتماعية متأصلة، أي أنها لا تستورد فكرها وتناقضاتها»

تحقيق  نشرته الشرق الاوسط