العاب اون لاين: العاب بلياردو | العاب سيارات | العاب دراجات | العاب طبخ | العاب تلبيس |العاب بنات |العاب توم وجيري | العاب قص الشعر |
للشكاوي والاستفسار واستعادة الرقم السري لعضوية قديمة مراسلة الإدارة مراسلتنا من هنا |
|
|
|
أدوات الموضوع | تقييم الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
نصائح للقاعدة من التجارب السابقة -- جماعة الجهاد
الحمد لله والصلاة و السلام على رسول الله عظات للجماعة المسلمة من التجارب السابقة: وفي خلال التجربة تبرز بضع عظات أخرى جزئية ; كلها ذات قيمة للجماعة المسلمة في كل حين: من ذلك أن الحماسة الجماعية قد تخدع القادة لو أخذوا بمظهرها فيجب أن يضعوها على محك التجربة قبل أن يخوضوا بها المعركة الحاسمة فقد تقدم الملأ من بني إسرائيل من ذوي الرأي والمكانة فيهم إلى نبيهم في ذلك الزمان يطلبون إليه أن يختار لهم ملكا يقودهم إلى المعركة مع أعداء دينهم الذين سلبوا ملكهم وأموالهم ومعها مخلفات أنبيائهم من آل موسى وآل هارون فلما أراد نبيهم أن يستوثق من صحة عزيمتهم على القتال وقال لهم: ((هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا!)) استنكروا عليه هذا القول وارتفعت حماستهم إلى الذروة وهم يقولون له: ((وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا)) ولكن هذه الحماسة البالغة ما لبثت أن انطفأت شعلتها وتهاوت على مراحل الطريق كما تذكر القصة ; وكما يقول السياق بالإجمال ((فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم)) ومع أن لبني إسرائيل طابعا خاصا في النكول عن العهد والنكوص عن الوعد والتفرق في منتصف الطريق إلا أن هذه الظاهرة هي ظاهرة بشرية على كل حال في الجماعات التي لم تبلغ تربيتها الإيمانية مبلغا عاليا من التدريب وهي خليقة بأن تصادف قيادة الجماعة المسلمة في أي جيل فيحسن الانتفاع فيها بتجربة بني إسرائيل. ومن ذلك أن اختبار الحماسة الظاهرة والاندفاع الفائر في نفوس الجماعات ينبغي أن لا يقف عند الابتلاء الأول فإن كثرة بني إسرائيل هؤلاء قد تولوا بمجرد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم ولم تبق إلا قلة مستمسكة بعهدها مع نبيها وهم الجنود الذين خرجوا مع طالوت بعد الحجاج والجدال حول جدارته بالملك والقيادة ووقوع علامة الله باختياره لهم ورجعة تابوتهم وفيه مخلفات أنبيائهم تحمله الملائكة ومع هذا فقط سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولى وضعفوا أمام الامتحان الأول الذي أقامه لهم قائدهم((فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم)).. وهذا القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية فأمام الهول الحي أمام كثرة الأعداء وقوتهم تهاوت العزائم وزلزلت القلوب فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده وأمام هذا التخاذل ثبتت الفئة القليلة المختارة اعتصمت بالله ووثقت وقال: (( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)) وهذه هي التي رجحت الكفة وتلقت النصر واستحقت العز والتمكين. وفي ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة الحازمة المؤمنة وكلها واضحة في قيادة طالوت تبرز منها خبرته بالنفوس ; وعدم اغتراره بالحماسة الظاهرة وعدم اكتفائه بالتجربة الأولى ومحاولته اختبار الطاعة والعزيمة في نفوس جنوده قبل المعركة وفصله للذين ضعفوا وتركهم وراءه ثم وهذا هو الأهم عدم تخاذله وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة ; ولم يثبت معه في النهاية إلا تلك الفئة المختارة فخاض بها المعركة ثقة منه بقوة الإيمان الخالص ووعد الله الصادق للمؤمنين. والعبرة الأخيرة التي تكمن في مصير المعركة أن القلب الذي يتصل بالله تتغير موازينه وتصوراته ; لأنه يرى الواقع الصغير المحدود بعين تمتد وراءه إلى الواقع الكبير الممتد الواصل وإلى أصل الأمور كلها وراء الواقع الصغير المحدود فهذه الفئة المؤمنة الصغيرة التي ثبتت وخاضت المعركة وتلقت النصر كانت ترى من قلتها وكثرة عدوها ما يراه الآخرون الذين قالوا: (( لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده)) ولكنها لم تحكم حكمهم على الموقف إنما حكمت حكما آخر فقالت: (( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)) ثم اتجهت لربها تدعوه ((ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين)) وهي تحس أن ميزان القوى ليس في أيدي الكافرين إنما هو في يد الله وحده فطلبت منه النصر ونالته من اليد التي تملكه وتعطيه وهكذا تتغير التصورات والموازين للأمور عند الاتصال بالله حقا وعندما يتحقق في القلب الإيمان الصحيح وهكذا يثبت أن التعامل مع وعد الله الواقع الظاهر للقلوب أصدق من التعامل مع الواقع الصغير الظاهر للعيون! ولا نستوعب الإيحاءات التي تتضمنها القصة فالنصوص القرآنية كما علمتنا التجربة تفصح عن إيحاءاتها لكل قلب بحسب ما هو فيه من الشأن ; وبقدر حاجته الظاهرة فيه ويبقى لها رصيدها المذخور تتفتح به على القلوب في شتى المواقف على قدر مقسوم فنخلص إذن من هذا العرض العام إلى تفصيل النصوص: التجربة الأولى الخارجون حذر الموت : (( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ; فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون)) ..لا أحب أن نذهب في تيه التأويلات عن هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت من هم وفي أي أرض كانوا وفي أي زمان خرجوا فلو كان الله يريد بيانا عنهم لبين كما يجيء القصص المحدد في القرآن إنما هذه عبرة وعظة يراد مغزاها ولا تراد أحداثها وأماكنها وأزمانها وتحديد الأماكن والأزمان لا يزيد هنا شيئا على عبرة القصة ومغزاها.. إنما يراد هنا تصحيح التصور عن الموت والحياة وأسبابهما الظاهرة وحقيقتهما المضمرة ; ورد الأمر فيهما إلى القدرة المدبرة والاطمئنان إلى قدر الله فيهما والمضي في حمل التكاليف والواجبات دون هلع ولا جزع فالمقدر كائن والموت والحياة بيد الله في نهاية المطاف يراد أن يقال إن الحذر من الموت لا يجدي ; وإن الفزع والهلع لا يزيدان حياة ولا يمدان أجلا ولا يردان قضاء ; وإن الله هو واهب الحياة وهو آخذ الحياة ; وإنه متفضل في الحالتين حين يهب وحين يسترد ; والحكمة الإلهية الكبرى كامنة خلف الهبة وخلف الاسترداد وإن مصلحة الناس متحققة في هذا وذاك ; وإن فضل الله عليهم متحقق في الأخذ والمنح سواء: (( إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون)) إن تجمع هؤلاء القوم وهم ألوف وخروجهم من ديارهم حذر الموت لا يكون إلا في حالة هلع وجزع سواء كان هذا الخروج خوفا من عدو مهاجم أو من وباء حائم إن هذا كله لم يغن عنهم من الموت شيئا: (( فقال لهم الله موتوا)) كيف قال لهم كيف ماتوا هل ماتوا بسبب مما هربوا منه وفزعوا هل ماتوا بسبب آخر من حيث لم يحتسبوا كل ذلك لم يرد عنه تفصيل لأنه ليس موضع العبرة إنما موضع العبرة أن الفزع والجزع والخروج والحذر لم تغير مصيرهم ولم تدفع عنهم الموت ولم ترد عنهم قضاء الله وكان الثبات والصبر والتجمل أولى لو رجعوا لله... (( ثم أحياهم ))كيف هل بعثهم من موت ورد عليهم الحياة ; هل خلف من ذريتهم خلف تتمثل فيه الحياة القوية فلا يجزع ولا يهلع هلع الآباء ذلك كذلك لم يرد عنه تفصيل فلا ضرورة لأن نذهب وراءه في التأويل لئلا نتيه في أساطير لا سند لها كما جاء في بعض التفاسير.. إنما الإيحاء الذي يتلقاه القلب من هذا النص أن الله وهبهم الحياة من غير جهد منهم في حين أن جهدهم لم يرد الموت عنهم. إن الهلع لا يرد قضاء ; وإن الفزع لا يحفظ حياة ; وإن الحياة بيد الله هبة منه بلا جهد من الأحياء إذن فلا نامت أعين الجبناء! المغزى من ذكر هذه التجربة: ((وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم)).. هنا ندرك طرفا من هدف تلك الحادثة ومغزاها ; وندرك طرفا من حكمة الله في سوق هذه التجربة للجماعة المسلمة في جيلها الأول وفي أجيالها جميعا ألا يقعدن بكم حب الحياة وحذر الموت عن الجهاد في سبيل الله فالموت والحياة بيد الله قاتلوا في سبيل الله لا في سبيل غاية أخرى وتحت راية الله لا تحت راية أخرى.. قاتلوا في سبيل الله: ((واعلموا أن الله سميع عليم)).. يسمع ويعلم يسمع القول ويعلم ما وراءه أو يسمع فيستجيب ويعلم ما يصلح الحياة والقلوب قاتلوا في سبيل الله وليس هناك عمل ضائع عند الله واهب الحياة وآخذ الحياة. والجهاد في سبيل الله بذل وتضحية وبذل المال والإنفاق في سبيل الله يقترن في القرآن غالبا بذكر الجهاد والقتال وبخاصة في تلك الفترة حيث كان الجهاد تطوعا والمجاهد ينفق على نفسه وقد يقعد به المال حين لا يقعد به الجهد ; فلم يكن بد من الحث المستمر على الإنفاق لتيسير الطريق للمجاهدين في سبيل الله وهنا تجيء الدعوة إلى الإنفاق في صورة موحية دافعة:((من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون)) وإذا كان الموت والحياة بيد الله والحياة لا تذهب بالقتال إذا قدر الله لها البقاء فكذلك المال لا يذهب بالإنفاق إنما هو قرض حسن لله مضمون عنده يضاعفه أضعافا كثيرة يضاعفه في الدنيا مالا وبركة وسعادة وراحة ; ويضاعفه في الآخرة نعيما ومتاعا ورضى وقربى من الله. ومرد الأمر في الغنى والفقر إلى الله لا إلى حرص وبخل ولا إلى بذل وإنفاق ((والله يقبض ويبسط ))..والمرجع إليه سبحانه في نهاية المطاف فأين يكون المال والناس أنفسهم راجعون بقضهم وقضيضهم إلى الله((وإليه ترجعون)) وإذن فلا فزع من الموت ولا خوف من الفقر ولا محيد عن الرجعة إلى الله وإذن فليجاهد المؤمنون في سبيل الله وليقدموا الأرواح والأموال ; وليستقينوا أن أنفاسهم معدودة وأن أرزاقهم مقدرة وأنه من الخير لهم أن يعيشوا الحياة قوية طليقة شجاعة كريمة ومردهم بعد ذلك إلى الله... * * * التجربة الثانية ((بنو إسرائيل والجهاد)): يورد السياق التجربة الثانية وأبطالها هم بنو إسرائيل من بعد موسى ((ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين)).. ألم تر كأنها حادث واقع ومشهد منظور لقد اجتمع الملأ من بني إسرائيل من كبرائهم وأهل الرأي فيهم إلى نبي لهم ولم يرد في السياق ذكر اسمه لأنه ليس المقصود بالقصة وذكره هنا لا يزيد شيئا في إيحاء القصة وقد كان لبني إسرائيل كثرة من الأنبياء يتتابعون في تاريخهم الطويل لقد اجتمعوا إلى نبي لهم وطلبوا إليه أن يعين لهم ملكا يقاتلون تحت إمرته في سبيل الله وهذا التحديد منهم لطبيعة القتال وأنه في سبيل الله يشي بانتفاضة العقيدة في قلوبهم ويقظة الإيمان في نفوسهم وشعورهم بأنهم أهل دين وعقيدة وحق وأن أعداءهم على ضلالة وكفر وباطل ; ووضوح الطريق أمامهم للجهاد في سبيل الله . وهذا الوضوح وهذا الحسم هو نصف الطريق إلى النصر فلا بد للمؤمن أن يتضح في حسه أنه على الحق وأن عدوه على الباطل ; ولا بد أن يتجرد في حسه الهدف في سبيل الله فلا يغشيه الغبش الذي لا يدري معه إلى أين يسير وقد أراد نبيهم أن يستوثق من صدق عزيمتهم وثبات نيتهم وتصميمهم على النهوض بالتبعة الثقيلة وجدهم فيما يعرضون عليه من الأمر: ((قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا!)).. ألا ينتظر أن تنكلوا عن القتال إن فرض عليكم فأنتم الآن في سعة من الأمر فأما إذا استجبت لكم فتقرر القتال عليكم فتلك فريضة إذن مكتوبة ; ولا سبيل بعدها إلى النكول عنها إنها الكلمة اللائقة بنبي والتأكد اللائق بنبي فما يجوز أن تكون كلمات الأنبياء وأوامرهم موضع تردد أو عبث أو تراخ وهنا ارتفعت درجة الحماسة والفورة ; وذكر الملأ أن هناك من الأسباب الحافزة للقتال في سبيل الله ما يجعل القتال هو الأمر المتعين الذي لا تردد فيه: ((قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا)).. ونجد أن الأمر واضح في حسهم مقرر في نفوسهم إن أعداءهم أعداء الله ولدين الله وقد أخرجوهم من ديارهم وسبوا أبناءهم فقتالهم واجب ; والطريق الواحدة التي أمامهم هي القتال ; ولا ضرورة إلى المراجعة في هذه العزيمة أو الجدال. سمات بني إسرائيل ونقضهم للعهود: ولكن هذه الحماسة الفائرة في ساعة الرخاء لم تدم ويعجل السياق بكشف الصفحة التالية: ((فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا))منهم وهنا نطلع على سمة خاصة من سمات إسرائيل في نقض العهد والنكث بالوعد والتفلت من الطاعة والنكوص عن التكليف وتفرق الكلمة والتولي عن الحق البين ولكن هذه كذلك سمة كل جماعة لا تنضج تربيتها الإيمانية ; فهي سمة بشرية عامة لا تغير منها إلا التربية الإيمانية العالية الطويلة الأمد العميقة التأثير. وهي من ثم سمة ينبغي للقيادة أن تكون منها على حذر وأن تحسب حسابها في الطريق الوعر كي لا تفاجأ بها فيتعاظمها الأمر فهي متوقعة من الجماعات البشرية التي لم تخلص من الأوشاب ولم تصهر ولم تطهر من هذه العقابيل. والتعقيب على هذا التولي ((والله عليم بالظالمين)) وهو يشي بالاستنكار ; ووصم الكثرة التي تولت عن هذه الفريضة بعد طلبها وقبل أن تواجه الجهاد مواجهة عملية وصمها بالظلم فهي ظالمة لنفسها وظالمة لنبيها وظالمة للحق الذي خذلته وهي تعرف أنه الحق ثم تتخلى عنه للمبطلين ! إن الذي يعرف أنه على الحق وأن عدوه على الباطل كما عرف الملأ من بني إسرائيل وهم يطلبون أن يبعث لهم نبيهم ملكا ليقاتلوا في سبيل الله ثم يتولى بعد ذلك عن الجهاد ولا ينهض بتبعة الحق الذي عرفه في وجه الباطل الذي عرفه.. إنما هو من الظالمين المجزيين بظلمهم.. ((والله عليم بالظالمين)). معركة عين جالوت وكيف انتصرت الفئة القليلة على الكثيرة بإذن الله: (( وقال لهم نبيهم :إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا . قالوا: أنى يكون له الملك ونحن أحق بالملك منه، ولم يؤت سعة من المال؟ قال : إن الله اصطفاه عليكم، وزاده بسطة في العلم والجسم . والله يؤتي ملكه من يشاء . والله واسع عليم )) .. وفي هذه اللجاجة تتكشف سمة من سمات إسرائيل التي وردت الإشارات إليها كثيرة في هذه السورة .. لقد كان مطلبهم أن يكون لهم ملك يقاتلون تحت لوائه. ولقد قالوا: إنهم يريدون أن يقاتلوا (( سبيل الله )). فها هم يجادلون في اختيار الله لهم كما أخبرهم نبيهم ، ويستنكرون أن يكون طالوت –الذي بعثه الله لهم - ملكا عليهم. لماذا ؟ لأنهم أحق بالملك منه بالوراثة . فم يكن من نسل الملوك فيهم ! ولأنه لم يؤت سعة من المال تبرر التغاضي عن أحقيته الوراثة !وكل هذا غبش في التصور كما أنه من سمات بني إسرائيل المعروفة .. ولقد كشف لهم نبيهم عن أحقيته الذاتية ، وعن حكمة الله في اختياره : (( قال :إن الله اصطفاه عليكم ، وزاده بسطة في العلم والجسم ، والله يؤتي ملكه من يشاء ، والله واسع عليم )) .. إنه رجل قد اختاره الله .. فهذه واحدة .. وزاده بسطة في العلم والجسم ..وهذه أخرى .. والله (( يؤتي ملكه من يشاء)) .. فهم ملكه ، وهو صاحب التصرف فيه ، وهو يختار من عباده من يشاء .. (( والله واسع عليم )).. ليس لفضله خازن وليس لعطائه حد. وهو الذي يعلم الخير ، ويعلم كيف توضع الأمور في مواضعها .. وهي أمور من شأنها أن تصحح التصور المشوش ، وأن تجلو عنه الغبش .. ولكن طبيعة إسرائيل – نبيها يعرفها – لا تصلح لها هذه الحقائق العالية وحدها . وهم مقبلون على معركة . ولا بد لهم من خارقة ظاهرة تهز قولبهم ، وتردها إلى الثقة واليقين: (( وقال لهم نبيهم : إن الله آية ملكه أن يأتيكم التابوت، فيه سكينة من ربكم ، وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة . إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين )) .. وكان أعداؤهم الذين شردوهم من الأرض المقدسة –التي غلبوا عليها على يد نبيهم يوشع بعد فترة التيه ووفاة موسى –عليه السلام – قد سلبوا منهم مقدساتهم ممثلة في التابوت الذي يحفظون فيهم مخلفات أنبيائهم من آل موسى وآل هارون . وقيل : كانت فيه نسخة الألواح التي أعطاها الله لموسى على الطور .. فجعل لهم نبيهم علامة من الله ، أن تقع خارقة يشهدونها ، فيأتيهم التابوت بما فيه (( تحمله الملائكة )) فتفيض على قلوبهم السكينة .. وقال لهم :إن هذه الآية تكفي على صدق اختيار الله لطالوت ، إن كنتم حقا مؤمنين .. ويبدو من السياق أن هذه الخارقة قد وقعت، فانتهى القوم منها إلى اليقين . * * * ثم أعد طالوت جيشه ممن لم يتولوا عن فريضة الجهاد ، ولم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم من أول الطريق .. والسياق القرآني على طريقته في سياقة القصص .. يترك هنا فجوة بين المشهدين . فيعرض المشهد التالي مباشرة وطالوت خارج بالجنود: (( فلما فصل طالوت بالجنود قال : إن الله مبتليكم بنهم . فمن شرب منه فليس مني ، ومن لم يطعمه فإنه مني –إلا من اغترف بيده . فشربوا منه إلا قليلا منهم )) .. هنا يتجلى لنا مصدق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل .. إنه مقدم على معركة ، ومعه جيش من أمة مغلوبة ، عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة . وهو يواجه جيش أمة غالبة فلا بد إذن من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف به أمام القوة الظاهرة الغالبة . هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرادة . الإرادة التي تضبط الشهوات والنزوات ، وتصمد للحرمان والمشاق ، وتستعلي على الضرورات والحاجات ، وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها ، فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء .. فلابد للقائد المختار إذن أن يبلو إرادة جيشه ، وصموده وصبره : صموه أولا للرغبات والشهوات .. وصبره ثانيا على الحرمان والمتاعب .. واختار هذه التجربة وهم كما تقول الروايات عطاش . ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه ، ويؤثر العافية .. وصحت فراسته : (( فشربوا منه إلا قليلا منهم )) .. شربوا وارتووا . فقد كان أباح لهم أن يغترف منهم من يريد غرفة بيده ، تبل الظمأ ولكنها لا تشي بالرغبة في التخلف ! وانفصلوا عنه بمجرد استسلامهم ونكوصهم . انفصلوا عنه لأنهم لا يصلحون للمهمة الملقاة على عاتقه وعاتقهم. وكان من الخير ومن الحزم أ، ينفصلوا عن الجيش الزاحف ، لأنهم بذرة ضعف وخذلان وهزيمة , والجيوش ليست بالعدد الضخم ، ولكن بالقلب الصامد ، والإرادة الجازمة ، والإيمان الثابت المستقيم على الطريق . ودلت هذه التجربة على أن النية الكامنة وحدها لا تكفي، ولا بد من التجربة العملية ، ومواجهة واقع الطريق إلى المعركة قبل الدخول فيها . ودلت كذلك على صلابة عود القائد المختار الذي لم يهزه تخلف الأكثرية من جنده عند التجربة الأولى . بل مضى في طريقة . وهنا كانت التجربة قد غربلت جيش طالوت –إلى حد – ولكن التجارب لم تكن قد انتهت بعد : (( فلما جازوه هو والذين آمنوا معه قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده )) .. لقد صاروا قلة ، وهم يعلمون قوة عدوهم وكثرته : بقيادة جالوت . إنهم مؤمنون لم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم . ولكنهم هنا أمام الواقع الذي يرونه بأعينهم فيحسون أنهم أضعف من مواجهته . إنها التجربة الحاسمة، تجربة الاعتزاز بقوة آخرى أكبر من قوة الواقع المنظور . وهذه لا يصمد لها إلا من اكتمل إيمانهم ، فاتصلت بالله قلوبهم ، وأصبحت لهم موازين جديدة يستمدونها من واقع إيمانهم ، غير الموازين التي يستمدها الناس من واقع حالهم ! وهنا برزت الفئة المؤمنة . الفئة القليلة المختارة . والفئة ذات الموازين الربانية: (( قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله . والله مع الصابرين )) ..هكذا .. (( كم من فئة قليلة غلبة فئة كثيرة )) .. بهذا التكثير . فهده هي القاعدة في حس الذين يوقنون أنهم ملاقو الله . القاعدة : أن تكون الغالبة لأنها تتصل بمصدر القوى ، ولأنها تمثل القوة الغالبة .قوة الله الغالب على أمره ،القاهر فوق عباده ، محطم الجبارين، ومخزي الظالمين وقاهر المتكبرين. وهم يكلون هذا النصر لله : (( بإذن الله )) .. ويعللونه بعلته الحقيقية : (( والله مع الصابرين)) ..فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل .. ونمضي مع القصة . فإذا الفئة القليلة الواثقة بلقاء الله ، التي تستمد صبرها كله من اليقين بهذا اللقاء ، وتستمد قوتها كلها من إذن الله، وتستمد يقينها كله من الثقة في الله، وأنه مع الصابرين .. إذا هذه الفئة هي التي تقرر مصير المعركة . بعد أن تجدد عهدها مع الله ، وتتجه بقلوبها إليه ، وتطلب النصر منه وحده ، وهي تواجه الهول الرهيب : (( ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا : ربنا أفرغ علينا صبرا، وثبت أقدامنا ، وانصرنا على القوم الكافرين. فهزموهم بإذن الله ، وقتل داود جالوت ، وآتاه الله الملك والحكمة، وعلمه مما يشاء )) .. هكذا .. (( ربنا أفرغ علينا صبرا)) ..وهو تعبير يصور مشهد الصبر فيضا من الله يفرغه عليهم فيغمرهم ، وينسكب عليهم سكينة وطمأنينة واحتمالا للهول والمشقة ، (( وثبت أقدامنا)) .. فهي في يده –سبحانه- يثبتها فلا تتزحزح ولا تتزلزل ولا تميد (( وانصرنا على القوم الكافرين)) .. فقد وضح الموقف .. إيمان تجاه الكفر . وحق إزاء باطل . ودعوة إلى الله لينصر أولياءه المؤمنين على أعدائه الكافرين . فلا تلجلج في الضمير ، ولا غبش في التصور ولا شك في سلامة القصد ووضوح الطريق . وكانت النتيجة هي التي ترقبوها واستيقنوها : (( فهزموهم بإذن الله )) .. ويؤكد النصر هذه الحقيقة : (( بإذن الله )) .. ليعلمها المؤمنون أو ليزدادوا بها علما، وليتضح التصور الكامل لحقيقة ما يجري في هذا الكون ، ولطبيعة القوة التي تجريه .. إن المؤمنين ستار القدرة ، يفعل الله بهم ما يريد ، وينفذ بهم ما يختار ، .. بإذنه .. ليس لهم من الأمر شيء ، ولا حول لهم ولا قوة ، ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته ،فيكون منهم ما يريده بإذنه .. وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين .. إنه عبد الله . اختاره الله لدوره. وهذه منة من الله وفضل , وهو يؤدي هذا الدور المختار، ويحقق قدر الله النافذ . ثم يكرمه الله _ بعد كرامة الاختيار – بفضل الثواب .. ولولا فضل الله ما فعل، ولولا فضل الله ما أثيب.. ثم إنه هو منفذ لمشيئة الله الخيرة قائم بما يريد . استحق هذا كله بالنية الطيبة والعزم على الطاعة والتوجه إلى الله في إخلاص. ويبرز السياق دور داود عليه السلام: ((وقتل داود جالوت )) .. وداود كان فتى صغيرا من بني إسرائيل , وجالوت كان ملكا قويا وقائدا مخوفا .. ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجري بظواهرها ، إنما تجري بحقائقها . وحقائقها يعلمها هو . ومقاديرها في يده وحده . فليس عليهم إلا أن ينهضوا هم بواجبهم ، وفوا الله بعهدهم ، ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده , وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير .. ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف.. ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم .. وكان هنالك حكمة أخرى مغيبة يريدها الله . فلقد قدر أن يكون داود هو الذي يتسلم الملك بعد طالوت ، ويرثه ابنه سليمان ، فيكون عهده هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل ، جزاء انتفاضة العقيد في نفوسهم بعد الضلال والانتكاس والشرود: (( وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء )) .. وكان داود ملكا نبيا ، وعلمه الله صناعة الزرد وعدة الحرب مما يفصله القرآن في مواضعه في سورة أخرى .. أما في هذا الموضع فإن السياق يتجه إلى هدف آخر من وراء القصة جميعا.. وحين ينتهي إلى هذه الخاتمة ، ويعلم النصر الأخير للعقيدة الواثقة لا للقوة المادية، ولإرادة المستعلية لا للكثرة العددية .. حينئذ يعلن عن الغاية العليا من اصطراع تلك القوى .. إنها ليست المغانم والأسلاب ، وليست الأمجاد والهالات .. إنما هو الصلاح في الأرض وإنما هو التمكين للخير بالكفاح مع الشر . (( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض . ولكن الله ذو فضل على العالمين )) .. وهنا تتوارى الأشخاص والأحداث لتبرز من خلال النص القصير حكمة الله العليا في الأرض من اصطراع القوى وتنافس الطاقات وانطلاق السعي في تيار الحياة المتدفق وزحام إلى الغايات .. ومن ورائها جميعا تلك اليد الحكيمة المدبرة تمسك بالخيوط جميعا ، وتقود الموكب المتزاحم المتصارع المتسابق ،إلى الخير والصلاح والنماء ، في نهاية المطاف .. لقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفن لولا دفع الله الناس بعضهم بعض .. ولولا أن في طبيعة الناي التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهرية القريبة، لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع ، فتنفض عنها الكسل والخمول ، وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة ، وتظل أبدا يقظة عاملة، مستنبطة لذخائر الأرض مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة .. وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء ..يكون بقيام الجماعة الخيرة المهتدية المتجردة . تعرف الحق الذي بينه الله لها . وتعرف طريقها إليه والنماء .. يكون بقيام الجماعة الخيرة المهتدية المتجردة . تعرف الحق الذي بينه الله لها . وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب الله إلا أن تنهض بهذا الدور النبيل , وإلا أن تحتمل في سبيله ما تحتمل في الأرض طاعة لله وابتغاء لرضاه.. وهنا يمضي الله أمره ، وينفذ قدره ، ويجعل كلمة الحق والخير والصلاح هي العليا ، ويجعل حصيلة الصراع والتنافس والتدافع في يد القوة الخيرة البانية ، التي استجاش الصراع أنبل ما فيها وأكرمه ، وأبلغها أقصى درجات الكمال والمقدر لها في الحياة . ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر، ذلك أنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض ، وتمكين الصلاح في الحياة،إنها تنتصر لأنها تمثل غاية تستحق الانتصار . * * * وفي النهاية يجيء التعقيب الأخير على القصة:(( تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق ، وإنك لمن المرسلين )) .. تلك الآيات العالية المقام البعيدة الغايات (( نتلوها عليك )) .. الله _سبحانه وتعالى- هو الذي يتلوها وهو أمر هائل عظيم حين يتدبر الإنسان حقيقته العميقة الرهيبة .. (( نتلوها عليك بالحق )) . تحمل معها الحق . ويتلوها من يملك حق تلاوتها وتنزيلها ، وجعلها دستورا للعباد ، مدع ما لا يملك ، مبطل لا يستحق أن يطاع ، فإنما يطاع أمر الله ، وأمر من يهتدي بهدي الله .. دون سواه .. (( وإنك لمن المرسلين )) .. ومن ثم نتلو عليك هذه الآية ، ونزودك بتجارب البشرية كلها في جميع أعصارها ، وتجارب الموكب الإيماني كله في جميع مراحله ، ونورث ميراث المرسلين أجمعين. * * * سورة أل عمران الله ناصر للمؤمنين حتى لو قل عددهم الآيات ( آل عمران 12 : 13 ) (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ 12 قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ 13 ) تشير الآيات الكريمة إلى أحداث غزوة بدر ، وأن الخطاب فيها موجه إلى اليهود، وقد وردت في هذه الرواية عن ابن عباس –رضي الله عنهما – قال: لما أصاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم – قريشا يوم بدر ، وقدم المدينة وجمع اليهود، وقال: أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشا، قالوا: يا محمد : لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش أغمارا لا يعرفون القتال. إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله تعالى في ذلك: (( قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم.. – إلى قوله:- (( فئة تقاتل في سبيل الله _أي ببدر_ وأخرى كافرة )) .. أخرجه أبو داود . إن الأموال والأولاد منظمة حماية ووقاية،ولكنهما لا يغنيان شيئا في ذلك اليوم الذي لا ريب فيه، لأنه لا إخلاف لميعاد الله.وهم فيه: (( وقود النار )) بل أن الأموال والجاه ومعهما الجاه والسلطان، لا تغني شيئا في الدنيا، ((كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا، لأخذهم الله بذنوبهم ، والله شديد العقاب )) .. إذن فالذين كفروا وكذبوا بدعوة محمد –صلى الله عليه وسلم – وآيات الكتاب الذي نزله عليه بالحق ، معرضون لهذا المصير في الدنيا والآخرة سواء.. ومن ثم يلقن الرسول-صلى الله عليه وسلم –أن ينذرهم هذا المصير في الدارين، وأن يضرب لهم المثل بيوم بدر القريب، فعلهم نسوا مثل فرعون والذين من قبله في التكذيب والأخذ الشديد: (( قل للذين كفروا: ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد. قد كان لكم آية في فئتين التقيتا: فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، يرونهم مثليهم رأي العين، والله يؤيد بنصره من يشاء . إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار )).. وقوله تعالى: (( يرونهم مثليهم رأي العين)) يحتمل تفسيرين: فإما أن يكون ضمير ((يرون)) راجعا إلى الكفار ، وضمير (( هم )) راجعا إلى المسلمين ، ويكون المعنى أن الكفار على كثرتهم كانوا يرون المسلمين القليلين ((مثليهم)) .. وكان هذا من تدبير الله حيث خيل للمشركين أن المسلمين كثرة وهم قلة ، فتزلزلت قلوبهم وأقدامهم . وإما أن يكون العكس ، ويكون المعنى أن المسلمين كانوا يرون المشركين (( مثليهم))هم –في حني أن المشركين كانوا ثلاثة أمثالهم –ومع هذا ثبتوا وانتصروا. والمهم هو رجع النصر إلى تأييد الله وتدبيره.. وفي هذا تخذيل للذين كفروا وتهديد . كما أن فيه تثبيتا للذين آمنوا وتهوينا من شأن أعدائهم فلا يرهبونهم .. وكان الموقف-كما ذكرنا في التمهيد للسورة_يقتضي هذا وذاك .. وكان القرآن يعمل هنا وهناك . . وما يزال القرآن يعم بحقيقته الكبيرة . وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة . إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله، قائم في كل لحظة . ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة- ولو قل عددها-قائم كذلك في كل لحظة . وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ . وسنة ماضية لم تتوقف . وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة ,تثق في ذلك الوعد ، وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة، وتصبر حتى يأذن الله ، ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله ، المدير بحكمته المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة . (( إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار )) .. ولا بد من بصر ينظر وبصيرة تتدبر ،لتبرز العبرة ، وتعيبها القلوب ، وإلا فالعبرة ثمر في كل لحظة في الليل والنهار ! * * * غزوة أحد آل عمران ( 121 : 129 ) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 121 إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ 122 وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 123 إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ 124 بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ 125 وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ 126 لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ 127 لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ 128 وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 129 لم تكن معركة في الميدان وحده: غزوة أحد لم تكن معركة في الميدان وحده ،إنما كانت معركة كذلك في الضمير.. كانت معركة ميدانها أوسع الميادين.. لأن ميدان القتال فيها لم يكن إلا جانبا واحدا من ميدانها الهائل الذي دارت فيه .. ميدان النفس البشري.. وتصوراتها ومشاعرها، وأطماعها وشهواتها، ودوافعها وكوابحها ، على العموم .. وكان القرآن هناك . يعالج هذه النفس بألطف وأعمق،وبأفعل وأشمل ما يعالج المحاربون أقرانهم في النزال ! وكان النصر أولا، وكانت الهزيمة ثانيا، وكان الانتصار الكبير فيها بعد النصر والهزيمة.. انتصار المعرفة الواضحة والرؤية المستنيرة للحقائق التي جلاها القرآن، واستقرار المشاعر على هذه الحقائق استقرار اليقين . وتمحيص النفوس، والتمييز الصفوف، وانطلاق الجماعة المسلمة-بعد ذلك- متحررة من كثير من غبش التصور، وتميع القيم، وتأرجح المشاعر، في الصف المسلم . وذلك يتميز المنافقين في الصف إلى حد كبير، ووضوح سمات النفاق وسمات الصدق، في القول والفعل، وفي الشعور والسلوك ووضوح تكاليف الإيمان، وتكاليف الدعوة إليه، والحركة به،ومقتضيات ذلك كله من الاستعداد بالتجرد والاستعداد بالتنظيم ، والتزام الطاعة الإتباع بعد هذا كله ، والتوكل على الله وحده، في كل خطوة من خطوات الطريق، ورد الأمر إلى الله وحد في النصر والهزيمة، وفي الموت والحياة، وفي كل أمر وفي كل اتجاه. وكانت هذه الحصيلة الضخمة التي استقرت في الجماعة المسلمة من وراء الأحداث ، ومن وراء التوجهات القرآنية بعد الأحداث ، أكبر وأخطر-بما لا يقاس- من حصيلة النصر والغنيمة .. لو عاد المسلمون من الغزوة بالنصر والغنيمة.. وقد كانت الجماعة المسلمة إذ ذاك أحوج ما تكون لهذه الحصيلة الضخمة.. كانت أحوج إليها ألف مرة من حصيلة النصر والغنيمة ، وكان الرصيد الباقي منها للأمة المسلمة في كل جيل أهم وأبقى كذلك من حصيلة النصر والغنيمة. وكان تدبير الله العلي من وراء ما بدا في الموقعة من ظواهر النقص والضعف والتميع والغش في الصف المسلم ، ومن وراء الهزيمة التي نشأت عن هذه الظاهرة .. كان تدبير الله العلي من وراء هذا الذي وقع وفق سنة الله الجارية، حسب أسبابه الطبيعية الظاهرة، تدبيرا كله الخير للجماعة المسلمة في ذلك الحين ، لتنال هذه الحصيلة الضخمة من العبرة والتربية ، والوعي والنضج ، والتمحيص والتميز والتنسيق والتنظيم ، وليبقى للأمة المسلمة في أجيالها المتعاقبة هذا الرصيد من التجارب والحقائق والتوجهات التي لا تقدر بثمن. ولو كان هذا الثمن هو النصر والغنيمة! لقد انتهت المعركة في ميدان الأرض، ليبدأها القرآن في ميدانها الأكبر: ميدان النفس، وميدان الحياة الشاملة للجماعة المسلمة. وصنع بهذه الجماعة ما تصنعه يد الله، عن علم وعن حكمة ، وعن خبرة ، وعن بصيرة، وكان ما شاءه الله وما دبره . وكان فيه الخير العظيم ، من وراء الضر والأذى والابتلاء الشاق المرير . ولعل مما يلفت النظر في التعقيب القرآني على أحداث المعركة هو ذلك الازدواج العجيب بين استعراض النفوس، وتخليصها من غبش التصور، وتحريرها من ربقة الشهوات، وثقله المطامع، وظلام الأحقاد، وظلمة الخطيئة ، وضعف الحرص الشح . والرغبات الدفينة. * * * وقائع المعركة: كان المسلمون قد انتصروا في بدر ، ذلك الانتصار الكامل، الذي تبدو فيه – في ظل الظروف التي وقع فيها- رائحة المعجزة, وقد قتل الله بأيديهم أئمة الكفر ورءوسه من قريش. فرأس في قريش أبو سفيان بن حرب –بعد ذهاب أشرافهم في بدر- فأخذ يؤلب على المسلمين لأخذ الثأر، وكانت القافلة التي تحمل متاجر قريش قد نجت فلم تقع في أيدي المسلمين، فتآمر المشركون على رصد ما فيها من أموال لحرب المسلمين. وقد جمع أبو سفيان قريبا من ثلاثة آلاف من قريش وأحلافهم والأحابيش وخرج بهم في شوال من السنة الثالثة للهجرة ، وجاءوا معهم بنسائهم ليحاموا عنهن ولا يفروا. ثم أقبل بهم نحو المدينة ، فنزل قريبا من جبل أحد. واستشار رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أصحابه: أيخرج إليهم، أم يمكث ف المدينة؟ وكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة، وأن يتحصنوا بها، فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة ،والنساء من فوق البيوت. ووافقه على هذا الرأي عبدالله بن أبي (راس المنافقين) فبادرت جماعة كبيرة من الصحابة_ومعظمهم من الشبان ممن فاتهم يوم بدر- فأشاروا عليه بالخروج وألحوا عليه في ذلك, حتى بدا أن هذا هو الرأي السائد في الجماعة. فنهض –صلى الله عليه وسلم – ودخل بيته- بيت عائشة –رضي الله عنها – ولبس لأمته، وخرج عليهم، وقد انثنى عزم أولئك. وقالوا :أكرهنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم – على الخروج! فقالوا: يا رسول الله ، إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه)) .. وألقى عليهم بذلك درسا نبويا عاليا، فللشورى وقتها حتى إذا انتهت جاء وقت العزم والمضي والتوكل على الله ، ولم يعد هناك مجال للتردد ، وإعادة الشورى والتأرجح بين الآراء .. إنما تمضي الأمور لغاياتها ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء .. وكان رسول الله –صلى الله عليه وسلم – قد رأى في منامه: أن في سيفه ثلمة، ورأى أن بقرا تذبح ، وأنه أدخل يده في درع حصينة.. فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته. وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون, وتأول الدرع بالمدينة.. وكان إذن يرى عاقبة المعركة . ولكنه في الوقت ذاته كان يمضي نظام الشورى،ونظام الحركة بعد الشورى..لقد كان يربي أمة . والأمم تربى بالأحداث، وبرصيد التجارب فيمضي وفق مواقع هذا القدر، كما يحسها في قلبه الموصول.. وخرج رسول الله –صلى الله عليه وسلم – في ألف من أصحابه، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة. فما صار بين المدينة وأحد ، انعزل رأس النفاق : عبد الله بن أبي بنحو ثلث العسكر. وقال: يخالفني وسمع للفتية! فتبعهم عبدالله بن عمرو بن حرام –والد جابر بن عبدالله – رضي الله عنهما- يوبخهم ويحضهم على الرجوع . ويقول : تعالوا قاتلوا في سبيل الله ، أو ادفعوا. قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع! فرجع عنهم وسبهم . وسأله قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود.. فأبى –صلى الله عليه وسلم – فالمعركة هي معركة الإيمان والكفر فما ليهود بها ؟ والنصر من عند الله –حين يصح التوكل عليه وتتجرد القلوب له –وقال: (( هل من رجل يخرج بنا على القوم من كثب؟)) فخرج به بعض الأنصار حتى نزل الشعب من أحد في غدوة الوادي، وجعل ظهر إلى أحد ، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم. فلما أصبح تعبا للقتال في سبعمائة. فيهم خمسون فارسا، واستعمل على الرماة -وكانوا خمسين- عبد الله ابن جبير، وأمره وأصحابه أن يلزموا مركزهم ، وألا يفارقوه ولو رأوا الطير تتخطف العسكر. وكانوا خلف الجيش . وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم. وظاهر رسول الله –صلى الله عليه وسلم – بين درعين. وأعطى اللواء مصعب بن عمير.. وجعل على إحدى المجنبيتين الزبير بن العوام، وعلى الأخرى المنذر بن عمرو. واستعرض الشبان يومئذ ، فرد من استصغره عن القتال. وكان منهم عبد الله بن عمرو . وأسامة بن زيد، وأسيد بن ظهير، والبراء بن عازب ، وزيد ابن أرقم. وزيد بن ثابت، وعرابة بن أوس ، وعمرو بن حزام ، . وأجاز من رآه مطيقا. وكان منهم سمرة بن جندب ، ورافع بن خديج، ولهما خمسة عشرة سنة ! وتعبأت قريش للقتال وهم في ثلاثة آلاف. وفيهم مائتا فارس. فجعوا علي ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل . ودفع رسول الله –صلى الله عليه وسلم – سيفه إلى أبي دجانة سماك بن خرشة. وكان شجاعا بطلا يختال عند الحرب. وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر الفاسق. وكان يسمى (( الراهب)) فسماه رسول الله –صلى الله عليه وسلم – (( الفاسق)) . وكان رأس الأوس في الجاهلية. فلما جاء الإسلام شرق به ، وجاهر رسول الله –صلى الله عليه وسلم – بالعداوة، فخرج من المدينة، وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضهم على قتاله . ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه. فكان أول من لقي المسلمين. فنادى قومه، وتعرف إليهم. فقالوا له: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق!فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر! ثم قاتل المسلمين قتالا شديدا. ولما نشب القتال أبلى أبو دجانة الأنصاري بلاء حسنا. هو وطلحة بن عبد الله ، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب ، والنضر بن أنس ، وسعد بن الربيع .. وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار. حيث قتل من هؤلاء سبعون من صناديدهم، وانهزم أعداء الله وولوا مدبرين، حتى انهوا إلى نسائهم . وحتى شمرت النساء ثيابهن عن أرجلهن هاربات! فما رأى الرماة هزيمة المشركين انكشافهم، تركوا مراكزهم التي أمرهم رسول الله _صلى الله عليه وسلم – ألا يبرحوها. وقالوا : يا قوم ، الغنيمة ! الغنيمة! فذكرهم أميرهم عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم – لم يسمعوا ، وظنوا أن ليس للمشركين رجعة! فذهبوا في طلب الغنيمة، وأخلوا الثغر في أحد! عندئذ أدركها خالد، فكر في خيل المشركين،فوجدوا الثغر خاليا فاحتلوه من خلف ظهر المسلمين. ,أقبل المنهزمون من المشركين حين رأوا خالدا والفرسان قد علوا المسلمين ، فأحاطوا بهم ! وانقلبت المعركة ، فدارت الدائبة على المسلمين، ووقع الهرج والمرج في الصف، واستولى الاضطراب والذعر،لهول المفاجأة التي لم يتوقعها أحد . وكثر القتل استشهد من المسلمين من كتب الله له الشهادة. وخلص المشركون إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم – وقد أفرد إلا من نفر يعدون على الأصابع قاتلوا عنه حتى قتلوا. وقد جرح وجهه-صلى الله عليه وسلم- وكسر سنه الرباعية اليمنى في الفك الأسفل. وهشمت البيضة على رأسه. ورماه المشركون بالحجارة حتى وقع على جنبه، وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق قد حفرها وغطاها! يكيد بها المسلمين. وغاصت حلقتان من حلق المغفر في وجنته. وفي وسط هذا الهول المحيط بالمسلمين صاح صائح: أن محمدا قتل .. فكانت الطامة التي هدمت ما بقي من قواهم ،فانقلبوا على أعقابهم مهزومين هزيمة منكرة لا يحاولون قتالا، مما أصابهم من اليأس والكلال! لما انهزم الناس لم ينهزم أنس بن النضر- رضي الله عنه- وقد انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال المهاجرين والأنصار قد ألقوا ما بأيديهم ! فقال: ما يجلسكم؟ فقالوا: قتل رسول الله –صلى الله عليه وسلم – فقال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم – ثم استقبل المشركين ولقي سعد بن معاذ فقال: يا سعد واها لريح الجنة إني أجدها من دون أحد ! فقاتل حتى قتل .. ووجد به بضع وسبعون ضربة . ولم تعرفه إلا أخته . عرفته ببنانه.. وأقبل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- نحو المسلمين . وكان أول من عرفه تحت المغفر ، كعب بن مالك . فصاح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين ، أبشروا. هذا رسول الله-صلى الله عليه وسلم – فأشار بيده/ أن اسكت. واجتمع إليه المسلمون . ونهضوا معه إلى الشعب . وفيهم أبو بكر وعمر والحارث بن الصمة الأنصاري وغيرهم.. فما امتدوا صعودا في الجبل أدرك رسول الله _ صلى الله عليه وسلم – أبي بن خلف على جواه له اسمه العود. كان يطعمه في مكة ويقول: أقتل عليه محمد. فلما سمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بن أنا أقتفه إنشاء الله .. فما أدركه تناول_ صلى الله عليه وسلم – الحربة من الحارث وطعن بها عدو الله في ترقوته . فذهب يخور كالثور، وقد أيقن أنه مقتول.. كان قال رسول الله صلى الله علين وسلم – من قبل! ومات بالفعل في طريق عودته! وأشرف أبو سفيان على الجبل فنادى : أفيكم محمد؟ فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم – لا تجيبوه. فقال: أفيكم أبن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم عم بن الخطاب؟ فيم يجيبوه. ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة . فقال مخاطبا قومه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم. فلم يملك عم –رضي الله عنه – نفسه أن قال: يا عدو الله . إن الذين ذكرتهم أحياء . وقد أبقى الله لك ما يسوؤك! فقال: قد كان في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني! (يشير بذلك إلى ما صنعته زوجه هند بجثمان حمزة- رضي الله عنه- بعد أن قتله وحشي. حين بقرت بطنه ، واستخرجت كبده . فلاكتها ثم لفظتها ! ثم قال: اعل هبل ! فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم – ألا تجيبونه؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل. قال : لنا العزى ولا عزى لكم! قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ألا تجيبونه؟ قالوا. بماذا نجيبه؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم .. قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال. فقال عمر –رضي الله عنه -: لا سواء . قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. حمراء الأسد: ولما انقضت المعركة انصرف المشركون، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لسبي الذراري وإحراز الأموال. فشق ذلك عليهم .فقال النبي-صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب –رضي الله عنه- (( اخرج في آثار القوم ، فانظر ماذا يصنعون ، وماذا يريدون . فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة . وإن كانوا ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة.فوالذي نفيس بيده لو أرادوها لأسيرن إليهم ثم لأناجزهم فيها)) .. قال علي : فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون . فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ، ووجهوا مكة. فلما كانوا في بعض الطريق تلاوموا فيما بينهم ، وقال بعضهم : لم تصنعوا شيئا، أصبتم شوكتهم وحدهم، ثم تركتموهم وقد قي منهم رؤوس يجمعون لكم . فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم.. فبلغ ذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم – فنادى في الناس. وندبهم ،إلى المسير إلى لقاء عدوهم وقال: (( لا يخرج معنا إلا من شهد القتال. فقال له عبدا لله بن أبي : أركب معك ، قال: لا . فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد والخوف، وقالوا : سمعا وطاعة. واستأذنه جابر بن عبدالله . وقال : يا رسول الله إني أحب ألا تشهد مشهدا إلا كنت معك، وإنما خلفني أبي على بناته يوم أحد، فإذن لي أسير معك، فأذن له ، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد ، وأقبل معبد بن أبي معبد الخز اعي إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذله،فلحقه بالروحاء، ولم يعلم بإسلامه فقال: وما وراءك يا معبد؟ فقال: محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم، وخرجوا في جمع لم يخرجوا في مثله، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم، فقال: ما تقول؟ فقال : ما أرى أن ترتحل حتى يطلع الجيش وراء هذه الأكمة! فقال أبو سفيان : والله لق أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم . قال:فلا تفعل فإني لك ناصح! فرجعوا على أعقابهم إلى مكة . ولق أبو سفيان بعض المشركين يريدون المدينة، فقال : هل لك أن تبلغ محمدا رسالة ، وأوقر لك راحلتك زبيبا إذا أتيت إلى مكة ؟ قال: نعم . قال : أبلغ محمدا أنا قد جمعنا الكرة لنستأصله ونستأصل أصحابه، فلما بلغهم قوله قالوا: حسبنا الله وعم الوكيل. ولم يفت ذلك في عضدهم. وأقاموا ثلاثة أيام ينتظرون . ثم عرفوا أ، المشركين. أبعدوا في طريقهم إلى مكة منصرفين . فعادوا إلى المدينة.. * * * مثل وعبرة : وبعد فإن هذا الملخص لأحداث الغزوة لا يصور لكم جوانبها، ولا يسجل كل ما وقع فيها..مما هو موضع المثل والعبرة . ومن ثم نذكر بعض الوقائع الموحية، تكملة لرسم الجو واستحيائه: كان عمرو بن قيمئة من المشركين خلصوا إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم – حين أفرد ف فترة اضطراب المعركة،عقب تخلي الرماة عن أماكنهم ، وإحاطة الكفار بالمسلمين ، والصيحة بأن محمدا قتل ، وما صنعه في صفوف المسلمين وعزائمهم . وفي هذه الثغرة التي يطيش فيها الحليم كانت أم عمارة نسيبة بن كعب المازنية تقاتل عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قتالا شديدا . وقد ضربت عمر بن قميئة بسيفها ضربات عدة ، ولكن وقته درعان كانتا عليه . وضربها هو بالسيف فجرحها جرحا شديدا على عاتقها.. وكان أبو دجانة يترس بظهره على رسول الله –صلى الله عليه وسلم – والنبل يقع فيه ، وهو لا يتحرك ولا يكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان طلحة بن عبيد الله يثوب سريعا إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم – ويقف دونه وحده، حتى يصرع .. في صحيح ابن حيان عن عائشة قالت: قال أبو بكر الصديق : لما كان يوم أحد، انصرف الناس لكهم عن النبي –صلى الله عليه وسلم – فكنت أول من فاء إلى النبي –صلى الله عليه وسلم – فرأيت بين يديه رجلا يقاتل عنه ويحميه، قلت : كن طلحة ! فداك أبي وأمي ! كن طلحة! فداك أبي وأمي ! فم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح، وإذا هو يشتد كأنه طير، حتى لحقني ، فدفعنا إلى النبي –صلى الله عليه وسلم – فإذا طلحة بين يديه صريعا، فقال صلى الله عليه وسلم : (( دونكم أخاكم فقد أوجب)) . وقد رمي النبي صلى الله عليه وسلم في وجنته، حتى عابت حلقة من حلق المغفر في وجنته، فذهبت لأنزعها عن النبي-صلى الله عليه وسلم – فقال أبو عبيدة : نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني! قال: فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه، فجعل يضنضنه كراهة أن يؤذي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ثم استل السهم بفيه، فندرت ثنية أبي عبيدة . قال أبو بكر : ثم ذهبت لآخذ الآخر ، فقال أبو عبيدة: نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني ! قال : فأخذه ، فجعل يضنضنه حتى استله ، فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى.. ثم قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم –(( دونكم أخاكم فقد أوجب)) قال: فأقبلنا على طلحة نعالجه. وقد أصابته بضع عشرة ضربة. وجاء علي_كرم الله وجه_ بالماء لغسل جرح رسول الله _ صلى الله عليه وسلم- فكان يصب الماء على الجرح، وفاطمة_ رضي الله عنها_ تغسله. فلما رأت أن الدم لا يكف،أخذت قطعة من حصير ، فأحرقتها، فألصقتها بالجرح فاستمسك الدم . وقد مص مالك والد أبي سعيد الخدري جرح رسول الله _صلى الله عليه وسلم – حتى أنقاه . فقال له: (( مجه)) فقال: والله لا أمجه أبدا! ثم ذهب، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم :(( من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا )).. وفي صحيح مسلم أنه – صلى الله عليه وسلم – أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش . فلما رهقوه قال : (( من يردهم عني وله الجنة ؟)) ..فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قلت. ثم رهقوه فقال: (( من يردهم فله الجنة وهو رفيقي في الجنة)). فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة. فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-(( ما أنصفنا أصحابنا)) .. ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه. وترس عليه أبو دجانة بظهره كما أسلفنا، حتى انجلت الكربة .. وقد بلغ الإعياء برسول الله –صلى الله عليه وسلم – أنه وهو يصعد الجبل والمشركون يتبعونه أراد أن يعلو صخرة فلم يستطع لما به ، فجلس طلحة تحته حتى صعدها. وحانت الصلاة . فصلى بهم جالسا.
|
#2
|
||||
|
||||
ومن أحداث هذا اليوم كذلك: أن حنظلة الأنصاري ( الملقب بحنظلة الغسيل ) شد على أبي سفيان ، فلما تمكن منه حمل على حنظلة شداد بن الأسود فقلته. وكان جنبا. فإنه لما سمع صيحة الحرب وهو مع امرأته قام من فوره إلى الجهاد . فأخبر رسول الله صلى الله عليه ولسم أصحابه أن الملائكة تغسله . ثم قال: سلوا أهله ما شأنه؟ فسألوا امرأته، فأخبرتهم الخبر! وقال زيد بن ثابت : بعثني رسول الله –صلى الله عليه وسلم – يوم أحد أطلب سعد بن الربيع. قال : فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيته وهو بآخر رمق وبه سبعون ضربة ، ما بين طعنة برمح وضربة بسيف، رومية بسهم. فقلت : يا سعد . إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقرأ عليك السلام ، ويقول لك : أخبرني كيف تجدك؟فقال : وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام. قل له : يا رسول الله أجد ريح الجنة. وقل لقومي الأنصار : لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم _ وفيكم عين تطرف . وفاضت نفسه من وقته. ومن رجل من المهاجرين برجل من الأنصار،وهر يتشحط في دمه، فقال: يا فلان . أشعرت أن محمدا قد قتل ؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم . وقال عبدالله بن عمرو بن حرام: رأيت في النوم قبل أحد مبشر بن عبد المنذر يقول لي: أنت قادم علينا في أيام . فقلت : وأين أنت ؟. فقال: في الجنة، نسرح فيها حيث نشاء. قلت له ألم تقتل يوم بدر ؟. فقال: بلا. ثم أحييت . فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال: (( هذه الشهادة يا أبا جابر)) . وقال خيثمة- وكان ابنه قد استشهد مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم – يوم بدر : لقد أخطأتني وقعت بدر، وكنت والله عليها حريصا، حتى ساهمت ابني في الخروج، فخرج سهمه ، فرزق الشهادة. وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة . يسرح في ثمار الجنة وأنهارها يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقا. وقد- والله يا رسول الله- أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة. وقد كبرت سني ، ورق عظمي، وأحببت لقاء ربي. فادعو الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة، ومرافقة سعد في الجنة. فدعا له رسول الله –صلى الله عليه وسلم – بذلك. فقتل بأحد شهيدا . وقال عبدالله بن جحش في ذلك اليوم: اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غدا، فيقتلوني ، ثم يبقروا بطني ، ويجدعوا أنفي وأذني . ثم تسألني فيم ذلك؟ فأقول: فيك ! وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج، وكان له أربعة بنين شباب، يغزون مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا غزا. فلما توجه إلى أحد أراد أن يتوجه معه ، فقال له بنوه : إن الله قد جعل لك رخصة ، فلو قعدت ونحن نكفيك! وقد وضع الله عنك الجهاد. فأتى عمرو بن الجموح رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله . إن بني هؤلاء يمنعونني أن أخرج معك . والله إني لأرجو أن استشهد، فأطأ بعرجتي هذه الجنة .. فقال له رسول الله –صلى الله عليه وسلم – (( أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد )). وقال لبنيه: (( وما عليكم أن تدعوه؟ لعلى الله عز وجل أن يرزقه الشهادة؟ )) . فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم أحد شهيدا.. وفي مضطرب المعركة نظر حذيفة بن اليمان. إلى أبيه والمسلمون يريدون قتله لا يعرفونه، وهم يظنونه من المشركين . فقال حذيفة: أي عباد الله ، أبي . فلم يفهموا قوله . حتى قتلوه . فقال: يغفر الله لكم . فأراد رسول الله –صلى الله عليه وسلم – أن يؤدي ديته . فقال حذيفة: قد تصدقت بديته على المسلمين . فزاد ذلك حذيفة خيرا عند رسول الله –صلى الله عليه وسلم - . وقال وحشي غلام جبير بن مطعم يصف مصرع حمزة سيد الشهداء في هذه الغزوة: قال لي جبير: إن قتلت حمزة عم محمد فأنت عتيق. قال: فخرجت مع الناس. وكنت رجلا حبيشي، أقذف بالحربة قذف الحبشة. قلما أخطيء بها شيئا . فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره، حتى رأيته كأنه الجمل الأورق ، يهدي الناس بسيفه هدا ، ما يقوم له شيء . فوالله إني لأتهيأ له أريده ، وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو مني، إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى ، فلما رآه حمزة ضربه ضربة كأنما اختطف رأسه ، فهززت حربتي حتى إذا رضيت عنها دفعتها إليه ، فوقعت في ثنته (( أحشائه)) حتى خرجت من بين رجليه. وذهب لينوء نحوي فغلب وتركته وإياها حتى مات.ثم أتيته فأخذت حربتي ورجعت إلى المعسكر ، فقعدت فيه إذ لم تكن لي بغيره حاجة . إنما قتلت لأعتق.. وقد جاءت هند بن عتبة زوج أبي سفيان، فبقرت بطن حمزة، وأخرجت كبده، ولاكتها فم تقدر عليها فألقتها.. ولما وقف رسول الله –صلى الله عليه وسلم – بعد المعركة على جثمان حمزة-رضي الله عنه- تأثر تأثرا شديدا.وقال –صلى الله عليه وسلم-: (( لن أصاب بمثلك أبدا، . وما وقفت قط موقفا أغيظ إلي من هذا)) .. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أكلت شيئا؟))قالوا: لا . قال: (( ماكان الله ليدخل شيئا من حمزة في النار )) .. وقد أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يدفن شهداء أحد في مصارعهم، ولا ينقلوا إلى مقابر المدينة. وكان بعض الصحابة قد نقلوا قتلاهم. فنادى منادي رسول الله _ صلى الله عليه وسلم – برد القتلى إلى مصارعهم فردوا. ووقف- صلوات الله وسلامه عليه – يدفن الرجلين والثلاثة في اللحد الواحد . وكان يسأل : أيهم أكثر أخذا في القرآن ؟ فإذا أشاروا إلى رجل قدمه في اللحد. ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة . فقال (( ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد . هذه بعض اللقطات من المعركة التي تجاور فيها النصر والهزيمة . لا تفرق بينهم إلا لحظة من الزمان، وإلا مخالفة عن الأمر ، وإلا حركة من الهوى وإلا لفتة من الشهوة! والتي تجاورت فيها القيم العالية والسفوح الهابطة ! والنماذج الفريدة في تاريخ الإيمان والبطولة ، وفي تاريخ النفاق والهزيمة! وهي مجموعة تكشف عن حالة من عدم التناسق في الصف حينذاك ، كما تكشف عن حالة من الغبش في تصورات بعض المسلمين وهذه وتلك أنشأت – وفق سنة الله وقدره_ هذه النتائج التي ذاقها المسلمون، وهذه التضحيات الجسام، التي تتراءى على قمتها تلك التي أصابت رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي لا شك أن الصحابة حين ذاك كانوا يحسونها بعمق وعنف ، ويرونها أشد ما نالهم من الآلام . وقد دفعوا الثمن غاليا ليتلقوا الدرس عاليا ، وليمحص الله القلوب ويميز الصفوف، وليعد الجماعة المسلمة للمهمة العظمى التي ناطها بها : مهمة القيادة الراشدة للبشرية ، وإقرار منهج الله في الأرض في صورته المثالية الواقعية. فلننظر إذن كيف عالج القرآن الكريم الموقف بطريقة القرآن. إن النص القرآني لا يعرض الحوادث عرضا تاريخيا مسلسلا بقصد التسجيل، إنما هو يعرضها للعبرة والتربية واستخلاص القيم الكامنة وراء الحوادث، فهي تتضمن الحقائق الباقية من وراء الأحداث الزائلة، والمباديء المطلقة من وراء الحوادث المفردة، والقيم الأصيلة من وراء الظواهر العارضة, والرصيد الصالح بغض النظر عن اعتبارات الزمان والمكان.. وهذه الحصيلة الباقية تدخرها النصوص القرآنية لكل قلب يتفتح بالإيمان، في أي زمان وفي أي مكان.. * * * حضور الله سبحانه معهم: (( وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال، والله سميع عليم، إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا، والله وليهما، وعلى الله فليتوكل المؤمنون)) ؟؟ هكذا يبدأ باستعادة المشهد الأول للمعركة واستحضاره- وقد كان قريبا من نفوس المخاطبين الأولين بهذا القرآن ومن ذاكرتهم. ولكن ابتداء الحديث على هذا النحو، واستحضار المشهد الأول بهذا النص، من شأنه أن يعيد المشهد بكل حرارته وبكل حيويته، وأن يضيف إليه ما وراء المشهد المنظور- الذي يعرفونه- من حقائق أخرى لا يتضمنها المشهد المنظور. وأولها حقيقة حضور الله –سبحانه- معه، وسمعه وعلمه بكل ما كان وما دار بينهم ، وهي الحقيقة الأساسية الكبيرة، التي أقام عليها الإسلام منهجه التربوي، والتي لا يستقيم ضمير على المنهج الإسلامي.بكل تكاليفه، إلا أن تستقر فيه هذه الحقيقة بكل قوتها، وبكل حيوتها كذلك: (( وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال .. والله سميع عليم.. )) والإشارة هنا إلى غدو النبي –صلى الله عليه وسلم – من بيت عائشة- رضي الله عنها- وقد لبس لأمته ودرعه، بعد التشاور في الأمر، وما انتهى إليه من عزم على الخروج من المدينة للقاء المشركين خارجها.. وما أعقب هذا من تنظيم الرسول- صلى الله عليه وسلم – للصفوف، ومن أمر للرماة باتخاذ موقفهم على الجبل.. وهو مشهد يعرفونه، وموقف يتذكرونه.. ولكن الحقيقة الجديدة فيه هي هذه: (( والله سميع عليم )).. ويا له من مشهد، الله حاضره! ويا له من موقف، الله شاهده! ويا لها من رهبة إذن ومن روعة تحف به ، وتخالط كل ما دار فيه من تشاور. والسرائر مكشوفة فيه لله . وهو يسمع ما تقوله الألسنة ويعلم ما تهمس به الضمائر. واللمسة الثانية في هذا المشهد الأول ، هي حركة الضعف والفشل التي راودت قلوب طائفتين من المسلمين ، بعد تلك الحركة الخائنة التي قام بها رأس النفاق (( عبدالله بن أبي بن سلول)) حين انفصل بثلث الجيش، مغضبا أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يأخذ برأيه ،واستمع إلى شباب أهل المدينة! وقال: (( لو نعلم قتالا لاتبعناكم!)) فدل بهذا على أن قلبه لم يخلص للعقيدة ، وأن شخصه ما يزال يملأ قلبه، ويطغى في ذلك القلب على العقيدة.. العقيدة التي لا تحتمل شركة في قلب صاحبها ، ولا تطيق لها شريكا! فإما أن يخلص لها وحدها، وإما أن تجانبه هي وتحتويه! (( إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا، والله وليهما، وعلى الله فليتوكل المؤمنون)) .. وهاتان الطائفتان_ كما ورد في الصحيح- من حديث سفيان بن عيينه – هما بنو حارثة وبنو سلمة .أثرت فيهما حركة عبدالله بن أبي، وما أحدثته من رجة في الصف المسلم، من أور خطوة في المعركة. فكادتا تفشلان وتضعفان. لولا أن أدركتهما ولاية الله وتثبيته، كما أخبر هذا النص القرآني: (( والله وليهما)) .. قال عم-رضي الله عنه- سمعت جابر بن عبدالله يقول: فينا نزلت : (( إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا)) .. قال: نحن الطائفتان.. بنو حارثة وبنو سلمة .. وما نحب ( أو وما يسرني) أنها لم تنزل، لقوله تعالى: (( والله وليهما)) .. (رواه البخاري ومسلم) . وهكذا يكشف الله المخبوء في مكونات الضمائر، والذي لم يعلمه إلا أهله، حين حاك في صدورهم لحظة، ثم وقاهم الله إياه، وصرفه عنهم ، وأيدهم بولايته، فمضوا في الصف.. يكشفه لاستعادة أحداث المعركة واستحياء وقائعها ومشاهدها. ثم .. لتصور خلجات النفوس ،وإشعار أهلها حضور الله معهم ، وعلمه بمكنونات ضمائرهم- كما قال لهم (( والله سميع عليم )) – لتوكيد هذه الحقيقة وتعميقها في حسهم. ثم لتعريفهم كيف كانت النجاة، وإشعارهم عون الله وولايته ورعايته حين يدركهم الضعف، ويدب فيهم الفشل، ليعرفوا أين يتوجهون حين يستشعرون شيئا من هذا وأين يلتجئون . ومن ثم يوجههم هذا الوجه الذي لا وجه غيره للمؤمنين:(( وعلى الله فليتوكل المؤمنون)) .. على وجه القصر والحصر.. على الله وحده فليتوكل المؤمنون ، فليس لهم – إن كانوا مؤمنين- إلا هذا السند المتين. وهكذا نجد في الآيتين الأوليين ، التين يستحضر بهم القرآن مشهد المعركة وجوها ، هذين التوجهين الكبيرين الأساسين في التصور الإسلامي ، وفي التربي الإسلامية: (( والله سميع عليم )) ..(( وعلى الله فليتوكل المؤمنون)) .. مجدها في أوانهما المناسب، وفي جوهما المناسب، حيث يلقيان كل إيقاعاتهما ، وكل إيحاءاتهما، في الموعد المناسب،وقد تهيأت القلوب للتلقي والاستجابة الانطباع.. ويتبين – من هذين النصين التمهيديين- كيف يتولى القرآن استحياء القلوب وتوجيهها وتربيتها ، بالتعقيب على الأحداث ،وهي ساخنة! ويتبين الفرق بين رواية القرآن لأحداث وتوجيهها ، وبين سائر المصادر التي قد تروي الأحداث بتفصيل أكثر ولكنها لا تستهدف القلب البشري ، والحياة البشرية ، بالإيحاء والاستجاشة. وبالتربية والتوجيه. كما * * * هكذا يبدأ الحديث عن المعركة التي ينتصر فيها المسلمون- وقد كادوا- وهي قد بدأت بتغليب الاعتبارات الشخصية عل العقيدة عند المنافق عبدالله بن أبي، وتابعه في حركته أتباعه الذين غلبوا اعتباره الشخصي على عقيدتهم. وبالضعف الذي كاد يدرك طائفتين صالحتين من المسلمين. ثم انتهت بالمخالفة عن الخطة العسكرية تحت مطارق الطمع في الغنيمة! فلم تغن النماذج العالية التي تجلت في المعركة ، عن المصير الذي انتهت إليه ، بسبب ذلك الخلل في اصف ، وبسبب ذلك الغبش في التصور.. وقبل أن يمضي في الاستعراض والتعقيب على أحداث المعركة التي انتهت بالهزيمة، يذكرهم بالمعركة التي انتهت بالنصر- معركة بدر- لتكون هذه أمام تلك، مجالا للموازنة وتأمل الأسباب والنتائج ، ومعرفة مواطن الضعف ومواطن القوة، وأسباب النصر وأسباب الهزيمة. ثم بعد ذلك- ليكون اليقين من أن النصر والهزيمة كليهما قدر من أقدار الله ، لحكمة تتحقق من وراء النصر كما تتحقق من وراء الهزيمة سواء. وأن مرد الأمر في النهاية إلى الله على كلا الحالين ، وفي جميع الأحوال: (( ولقد نصركم الله ببدر- وأنتم أذلة- فاتقوا الله لعلكم تشكرون. إذ تقول للمؤمنين: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين؟ بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا ، يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين. وما جعله الله إلا بشرى لكم ، ولتطمئن قلوبكم به . وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم. ليقطع طرفا من الذين كفروا ، أو يكبتهم فينقلبوا خائبين – ليس لك من الأمر شيء- أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون. ولله ما في السماوات وما في الأرض، يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء ، والله غفور رحيم )) .. النصر في بدر ورائحة المعجزة: والنصر في بدر كان فيه رائحة المعجزة- كما أسلفنا- فقد تم بغير أداة من الأدواة المادية المألوفة للنصر. لم تكن الكفتان فيها- بين المؤمنين والمشركين- متوازنتين ولا قريبتين من التوازن . كان المشركون حوالي ألف خرجوا نفيرا لاستغاثة أبي سفيان، لحماية القافلة التي كانت معه ،مزودين بالعدة والعتاد، والحرص على الأموال، والحمية للكرامة، وكان المسلمون حوالي ثلاثمائة، لم يخرجوا لقتال هذه الطائفة ذات الشوكة، إنما خرجوا لرحلة هينة . لمقابلة القافلة العزلاء وأخذ الطريق عليها، فلم يكن معهم-على قلة العدد – إلا القليل من العدة . وكان وراءهم في الدينة مشركون لا تزال لهم قوتهم، ومنافقون لهم مكانتهم، ويهود يتربصون بهم.. وكانوا هم بعد ذلك كله قلة مسلمة في خضم من الكفر والشرك في الجزيرة. ولم تكن قد زالت عنهم بعد صفة أنهم مهاجرون مطاردون من مكة، وأنصار أووا هؤلاء المهاجرين ولكنهم ما يزالون نبته غير مستقرة في هذه البيئة! فبهذا كله يذكرهم الله –سبحان- ويرد ذلك النصر إلى سببه الأول في وسط هذه الظروف: النصر من عند الله: (( ولقد نصركم الله ببدر. وأنتم أذلة . فاتقوا الله لعلكم تشكرون)) .. إن الله هو الذي نصرهم ، ونصرهم لحكمة نص عليها في مجموعة هذه الآيات. وهم لا ناصر لهم من أنفسهم ولا من سواهم . فإذا اتقوا وخالفوا فليتقوا وليخافوا الله ، الذي يملك النصر والهزيمة، والذي يملك القوة وحده والسلطان. فلعل التقوى أن تقودهم إلى الشكر، وأن تجعله شكرا وافيا لائقا بنعمة الله عليهم على كل حال . هذه هي اللمسة الأولى في تذكيرهم بالنصر في بدر.. ثم يستحضر مشهدها ويستحيي صورتها في حسهم، كأنهم اللحظة فيها:(( إذ تقول للمؤمنين: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة ألاف من الملائكة منزلين؟ بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين)) .. وكانت هذه كلمات رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يوم بدر ، للقلة المسلمة التي خرجت معه ، والتي رأت نفير المشركين، وهي خرجت لتلقى طائفة العير الموقرة بالمتاجر ، لا لتلقى طائفة النفي الموقرة بالسلاح! وقد أبلغهم الرسول –صلى الله عليه وسلم – ما بلغه يومها ربه ، لتثبيت قلوبهم وأقدامهم، وهم بشر يحتاجون إلى العون في صورة قريبة من مشاعرهم وتصوراتهم ومألوفاتهم.. وأبلغهم كذلك شرط هذا المدد.. إنه الصبر والتقوى، الصبر على تلقي صدمة الهجوم، والتقوى التي تربط القلب بالله في النصر والهزيمة: (( بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين)) .. فالآن يعلمهم الله أن مرد الأمر كله إليه ، وأن الفاعلية كلها منه –سبحانه- وأن نزول الملائكة ليس إلا بشرى لقلوبهم ،لتأنس بهذا وتستبشر، وتطمئن به وتثبت . أما النصر فيمنه مباشرة، ومتعلق بقدره وإرادته بلا واسطة ولا سبب ولا وسيلة:(( وما جعله الله إلا بشرى لكم ، ولتطمئن قلوبكم به ، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم)) .. وهكذا يحرص السياق القرآني على رد الأمر كله إلى الله ، كي لا يعلق بتصور المسلم ما يشوب هذه القاعدة الأصيلة: قاعدة رد الأمر جملة إلى مشيئة الله الطليقة ، وإرادته الفاعلة ، وقدره المباشر، وتنحيه الأسباب الأصيلة: قاعدة رد الأمر جملة إلى مشيئة الله الطليقة ، وإرادته الفاعلة، وقدره المباشر، وتنحيه الأسباب والوسائل عن أن تكون هي الفاعلة. وإنما هي أداة تحركها المشيئة . وتحقق بها ما تريده. (( وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم)) .. وقد حرض القرآن الكريم على تقرير هذه القاعدة في التصور ، الإسلامي وعلى تنقيتها من كل شائبة، وعلى تحيه الأسباب الظاهرة والوسائل والأدوات عن أن تكون هي الفاعلة.. لتبقى الصلة المباشرة بين العبد والرب، بين قلب المؤمن وقدر الله . حواجز ولا عوائق ولا وسائل ولا وسائط. كما هي في عالم الحقيقة.. وبمثل هذه التوجهات المكررة في القرآن ، المؤكدة بشتى أساليب التوكيد، استقرت هذه الحقيقة في أخلاد المسلمين ، على نحو بديع، هاديء ، عميق، مستنير. عرفوا أن الله هو الفاعل-وحده- وعرفوا كذلك أنهم مأمورون من قبل الله باتخاذ الوسائل والأسباب،وبذل الجهد، والوفاء بالتكاليف.. فاستيقنوا الحقيقة ، وأطاعوا الأمر، في توازن شعوري وحركي عجيب! ولكن هذا إنما جاء مع الزمن، ومع الأحداث، ومع التربية بالأحداث، والتربي بالتعقيب على الأحداث.. كهذا التعقيب ، ونظائره الكثيرة ، في هذه السورة.. وفي هذه الآيات يستحضر مشهد –بدر والرسول-صلى الله عليه وسلم- يعدهم الملائكة مددا من عند الله، إذا هم استمسكوا بالصبر والتقوى والثبات في المعركة- حين يطلع المشركون عليهم من وجههم هذا .. ثم يخبرهم بحقيقة المصدر الفاعل_ من وراء نزول الملائكة- وهو الله .الذي تتعلق الأمور لكها بإرادة، ويتحقق النصر بفعله وإذنه. (( الله العزيز الحكيم)) .. فهو (( العزيز )) القوي ذو السلطان القادر على تحقيق النصر. وهو (( الحكيم)) الذي يجري قدره وفق حكمته، والذي يحقق هذا النصر ليحقق من ورائه حكمة.. ثم يبين حكمة هذا النصر.. أي نصر .. وغاياته التي ليس لأحد من البشر منها شيء: (( ليقطع طرفا من الذين كفروا, أو يكبتهم فينقلبوا خائبين-ليس لك من الأمر شيء- أو يتوب عليهم. أو يعذبهم فإنهم ظالمون)).. إن النصر من عند الله . لتحقيق قدر الله . وليس للرسول-صلى الله عليه وسلم- ولا للمجاهدين معه في النصر من غاية ذاتية ولا نصيب شخصي. كما أنه ليس له ولا لهم دخل في تحقيقه، وإن هم إلا ستار القدرة تحقق بهم ما تشاء! فلا هم أسباب هذا النصر وصانعوه، ولا هم أصحاب هذا النصر ومستغلوه! إنما هو قدر الله يتحقق بحركة رجاله، وبالتأييد من عنده. لتحقيق حكمة الله من ورائه وقصده: (( ليقطع طرفا من الذين كفروا)) فينقص من عددهم بالقتل، أو ينقص من أرضهم بالفتح،أو ينقص من سلطانهم بالقهر ، أو ينقص من أموالهم بالغنيمة، أو ينقص من فاعليهم في الأرض بالهزيمة! (( أو يكبتهم فينقلبوا خائبين)) .. أي يصرفهم مهزومين أذلاء ، فيعودوا خائبين مقهورين. (( أو يتوب عليهم )) .. فإن انتصار المسلمين قد يكون للكافرين عظة وعبرة، قد يقودهم إلى الإيمان والتسليم، فيتوب الله عليهم, من كفرهم ، ويختم لهم بالإسلام والهداية.. (( أو يعذبهم فإنهم ظالمون)) .. يعذبهم بنصر المسلمين عليهم. أو بأسرهم، أو بموهم على الكفر. الذي ينتهي بهم إلى العذاب.. جزاء لهم على ظلمهم بالكفر، وظلمهم بفتنة المسلمين ، وظلمهم بالفساد بالأرض، وظلمهم بمقاومة الصلاح الذي يمثل منهج الإسلام للحياة وشريعته ونظامه ,, إلى آخر صنوف الظلم الكامنة في الكفر والصد عن سبيل الله . وعلى أية حال فهي حكمة الله وليس لبشر منها شيء.. حتى رسول الله –صلى الله عليه وسلم – يخرجه النص من مجال هذا الأمر، ليجرده لله وحده –سبحانه- فهو شأن الألوهية المتفردة بلا شريك. بذلك ينسلخ المسلمون بأشخاصهم من هذا النصر.. من أسبابه ومن نتائجه! وبذلك يطامنون من الكبر الذي يثيره النصر في نفوس المنتصرين ، ومن البطر والعجب والزهو الذي تنتفخ به أرواحهم وأوداجهم! وبذلك يشعرون أن ليس لهم من الأمر شيء ، إنما الأمر كله لله أولا وأخيرا. وبذلك يرد أمر الناس- طائعهم وعاصيهم- إلى اله .فهذا الشأن شأن الله وحده –سبحانه- شأن هذه الدعوة وشأن هؤلاء الناس معها : طائعهم وعاصيهم سواء..وليس للنبي –صلى الله عليه وسلم – وليس للمؤمنين معه إلا أن يؤدوا دورهم ، ثم ينفضوا أيديهم من النتائج ، وأجرهم من الله على الوفاء ، وعلى الولاء، وعلى الأداء . وملابسة أخرى في السياق اقتضت هذا التنصيص: (( ليس لك من الأمر شيء)) فسيرد في السياق قول بعضهم : (( هل لنا من الأمر من شيء؟)) .. وقولهم : (( لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا . )) .. ليقول لهم : ‘ن أحدا ليس له من الأمر من شيء . لا في نصر ولا في هزيمة. إنما الطاعة والوفاء والأداء هي المطلوبة من الناس. وأما الأمر بعد ذلك فكله لله . ليس لأحد منه شيء . ولا حتى لرسول الله .. فهي الحقيقة الأصيلة في التصور الإسلامي. وإقرارها في النفوس أكبر من الأشخاص وأكبر من الأحداث ، وأكبر من شتى الاعتبارات.. ويختم هذا التذكير ببدر ، وهذا التقرير للحقائق الأصيلة في التصور، بالحقيقة الشاملة التي ترجع إليها حقيقة أن أمر النصر والهزيمة مرده إلى حكمة الله وقدره.. يختم هذا التقرير بتقرير أصله الكبير: وهو أن الأمر لله في الكون كله ، ومن ثم يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وفق ما يشاء: (( والله غفور رحيم )) .. والباب مفتوح أمام العباد لينالوا مغفرته ورحمته ، بالعودة إليه، ورد الأمر كله له ، وأداء الواجب المفروض وترك ما وراء ذلك لحكمته وقدره ومشيئته المطلقة من وراء الوسائل والأسباب. * * * سنن الله في الأرض الآيات ( آل عمران 137 : 143 ) قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ 137 هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ 138 وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 139 إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ 140 وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ 141 أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ 142 وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ 143 لقد أصاب المسلمين القرح في الغزوة ، وأصابهم القتل والهزيمة، أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير. قتل منهم سبعون صحابيا، وكسرت رباعية الرسول-صلى الله عليه وسلم – وشج وجهه، وأرهقه المشركون، وأثخن أصحابه بالجراح.. وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس ، وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في بدر حتى قال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم : (( أنى هذا ؟ )) وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن مسلمون؟! والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض . يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمم . فهم ليسوا بدعا في الحياة ، فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف. والأمور لا تمضي جزافا، إنما هي تتبع هذه النواميس ، فإذا هم درسوها، وأدركوا مغازيها ، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع ، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام . واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق, ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين، لينالوا النصر والتمكين ، بدون الأخذ بأسباب النصر، وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول. والسنن التي يشير إليها السياق هنا ، ويوجه أبصارهم إليها هي : عاقبة المكذبين على مدار التاريخ . ومداولة الأيام بين الناس . والابتلاء لتمحيص السرائر ، وامتحان قوة الصبر على الشدائد ، واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين . وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع على الاحتمال، والمواساة في الشدة ، والتأسية على القرح، الذي لم يصبهم وحدهم ، إنما أصاب أعداءهم كذلك وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفا، وأهدى منهم طريقا ومنهجا، والعاقبة بعد لهم ، والدائرة على الكافرين. (( قد خلت من قبلهم سنن ، فسيروا في الأرض ، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين. هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين )) ..إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها ، وحاضرها بماضيها، فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها. وهؤلاء العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم ، ولم تكن معارفهم ، ولم تكن تجاربهم – قبل الإسلام – لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة. لولا هذا الإسلام – وكتابة القرآن – الذي أنشأهم به الله نشأة أخرى، وخلق به منهم أمة تقود الدنيا . . إن النظام القبلي الذي كانوا يعيشون في ظله ، ما كان ليقود تفكيرهم إلى الربط بين سكان الجزيرة ومجريات حياتهم، فضلا على الربط بين سكان هذه الأرض وأحداثها . فضلا على الربط بين الأحداث العالمية والسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة جميعا.. وهي نقلة بعيدة لم تنبع من البيئة ، ولم تنشأ من مقتضيات الحياة. في ذلك الزمان! وإنما حملتها إليهم هذه العقيدة . بل حملتهم إليها ! وارتقت بهم إلى مستواها ، في ربع قرن من الزمان على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير العالي إلا بعد قرون وقرون، ولم يهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس الكونية، إلا بعد أجيال وأجيال.. فلما اهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس نسوا أن معها كذلك طلاقة المشيئة الإلهية، وانه إلى تصير الأمور .. فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله ، واتسع له تصورها ، ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة ، فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن الله الثابتة والإطمئنان- بعد هذا إلى مشيئته الطليقة! (( قد خلت من قبلهم سنن )) .. وهي هي التي تحكم الحياة . وهي هي التي قررتها المشيئة الطليقة . فما وقع منها إلا غير زمانكم فسيقع مثله – بمشيئة الله – في زمانكم ، وما انطبق منها على مثل حالكم فهو كذلك سينطبق على حالكم . (( فيسروا في الأرض )) .. فالأرض كلها وحدة. والأرض كلها مسرح للحياة البشرية . والأرض والحياة فيها كتاب مفتوح تتملاه الأبصار والبصائر. (( فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)) ..وهي عاقبة تشهد بها آثارهم في الأرض، وتشهد بها سيرهم التي يتناقلها خلفهم هناك.. وقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من هذه السير ومن هذه الآثار في مواضع منه متفرقة. بعضها حدد مكانه وزمانه وشخوصه . وبعضها أشار إليه بدون تحديد ولا تفصيل.. وهنا يشير هذه الإشارة المجملة ليصل منها إلى نتيجة مجملة:إن ما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغدا . ذلك كي تطمأن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة. وكي تحذر الانزلاق مع المكذبين من جهة أخرى . وقد كان هناك ما يدعو إلى الطمأنينة وما يدعو إلى التحذير. وفي السياق سيرد من هذه الدواعي كثير. وعلى إثر بيان هذه السنة يتجاوب النداء للعظة والعبرة بهذا البيان : (( هذا بيان للناس. وهدى وموعظة للمتقين)) .. هذا بيان للناس كافة . فهو نقلة بشرية بعيدة ما كان الناس ببالغيها لولا هذا البيان الهادي . ولكن طائفة خاصة هي التي تجد فيه الهدى ، وتجد فيه الموعظة ، وتنتفع به وتصل على هداه ..طائفة (( المتقين)) .. إن الكلمة الهادية لا يستشرفها إلا القلب المؤمن المفتوح للهدى . والعظة البالغة لا ينتفع إلا القلب التقي الذي يخفق لها ويتحرك بها .. والناس قلما ينقصهم العلم بالحق والباطل ، وبالهدى والضلال.. إن الحق بطبيعته من الوضوح والظهور بحيث لا يحتاج إلى بيان طويل . إنما تنقص الناس الرغبة في الحق ، والقدرة على اختيار طريقه.. والرغبة في الحق والقدرة على اختيار طريقه لا ينشئهما إلا الإيمان ، ولا يحفظهما إلا التقوى.. ومن ثم تتكرر في القرآن أمثال هذه التقريرات. تنص على أن ما في هذا الكتاب من حق . ومن هدى ، ومن نور ، ومن موعظة ، ومن عبرة.. إنما هي للمؤمنين وللمتقين. فإيمان والتقوى هما اللذان يشرحان القلب للهدى والنور والموعظة والعبرة . هما اللذان يزينان للقلب اختيار الهدى والنور وانتفاع بالموعظة العبرة .. واحتمال مشقات الطريق .. وهذا هو الأمر ولب المسألة .. لا مجرد العلم والمعرفة .. فكم من من يعلمون ويعرفون ، وهم في حمأة الباطل يتمرغون . إما خضوعا لشهوة لا يجدي معها العلم والمعرفة ، وإما خوفا من أذى ينتظر حملة الحق وأصحاب الدعوة ! وبعد هذا البيان العريض يتجه إلى المسلمين بالتقوية والتأسية والتثبيت: (( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون. إن كنتم مؤمنين)) ..لا تهنوا – من الوهن والضعف- ولا تحزنوا – لما أصابكم ولما فاتكم – وأنتم الأعلون.. عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده ، وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه ! ومنهجكم أعلى . فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله ، وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله! ودوركم أعلى . فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها ، الهداة لهذه البشرية كلها ، وهم شاردون عن النهج ، ضالون عن الطريق ، ومكانكم في الأرض أعلى ، فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها ، وهم إلى الفناء والنسيان صائرون. فإن كنت مؤمنين حقا فأنتم الأعلون .. وإن كنتم مؤمنين حقا فلا تهنوا ولا تحزنوا. فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا ، على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص: (( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا ، ويتخذ منكم شهداء. والله لا يحب الظالمين. وليمحص الله الذين أمنوا ويمحق الكافرين)) .. وذكر القرح الذي أصابهم وأصاب المكذبين قرح مثله ، قد يكون إشارة إلى غزوة بدر. وقد مس القرح فيها المشركون وسلم المسلمون . وقد يكون إشارة إلى غزوة أحد وقد انتصر فيها المسلمون في أول الأمر . حتى هزم المشركون وقتل منهم سبعون ، وتابعهم المسلمون يضربون أفقيتهم حتى لقد سقط علم المشركين في ثنايا المعركة فلم يتقدم إليه منهم أحد . حتى رفعته لهم امرأة فلاثوا بها وتجمعوا عليها .. ثم كانت الدولة للمشركين حينما خرج الرماة على أمر رسول-صلى الله عليه وسلم – واختلفوا فيما بينهم فأصاب المسلمين ما أصابهم في نهاية المعركة. جزاء وفاقا لهذا الاختلاف وذلك الخروج، وتحقيقا لسنة من سنن الله التي لا تتخلف ، إذ كان اختلاف الرماة وخروجهم ناشئين من الطمع في الغنيمة . والله قد كتب النصر في معارك الجهاد لمن يجاهدون في سبيله ، لا ينظرون إلى شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد . وتحقيقا كذلك لسنة أخرى من سنن الله في الأرض، وهي مداولة الأيام بين الناس-وفقا لما يبدو من عمل الناس ونيتهم – فتكون لهؤلاء يوما ولأولئك يوما. ومن ثم يتبين المسلمون ويتبين المنافقون . كما تتكشف الأخطاء . وينجلي الغبش. مداولة الأيام وتمييز الصفوف: (( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا)) .. إن الشدة بعد الرخاء، والرخاء بعد الشدة، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس، وطبائع القلوب، ودرجة الغبش فيها والصفاء ، ودرجة الهلع فيهما والصبر ، ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط، ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح! عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن : مؤمنين ومنافقين ، ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم ، وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم، ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده، وهم مختلطون مبهمون! والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين , والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور . ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء، وتجعله واقعا في حياة الناس ، وتحول الإيمان على عمل ظاهر، وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر ، ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء. فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعمله من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم . ومداولة الأيام ، وتعاقب الشدة والرخاء، محك لا يخطيء، وميزان لا يظلم . والرخاء في هذا كالشدة . وكم من نفوس تصبح للشدة وتتماسك ، ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل . والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء ، وتتجه إلى الله في الحالين ، وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله . وقد كان الله يربي هذه الجماعة – وهي من مطالع خطواتها لقيادة البشري- فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بع الابتلاء بالرخاء، والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر العجيب- وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة. للتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة . ولتزيد طاعة لله ، وتوكل عليه ، والتصاقا بركنه. ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين. ويمضي السياق يكشف للأمة المسلمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث المعركة ، وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس وفيما بعد تمييز الصفوف ، وعلم الله للمؤمنين : (( و يتخذ منكم شهداء)) .. وهو تعبير عجيب عن معنى عميق- إن الشهداء لمختارون . يختارهم الله من بين المجاهدين ، ويتخذهم لنفسه سبحانه فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد . إنما هو اختيار وانتقاء ، وتكريم واختصاص.. إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة.. ليستخلصهم لنفسه-سبحانه- ويخصهم بقربه . ثم هم شهداء يتخذهم الله ، و يستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس . يستشهدهم فيؤدون الشهادة . يؤدونها أداء لا شبهة فيه ، ولا مطعن عليه ، ولا جدال حوله . يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق ، وتقريره في دنيا الناس . يطلب الله –سبحانه وتعالى- منهم هذه الشهادة ،على أن ما جاءهم من عنده الحق ،وعلى أنهم آمنوا به ،وتجردوا له ، وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه ، وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق ، وعلى أنهم هم استيقنوا هذا ، فلم يألوا جهدا في كفاح الباطل و طرده من حياة الناس ، و إقرار هذا الحق في عالمهم و تحقيق منهج الله في حكم الناس .. يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون ..وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت . وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال ! وكل من ينطق بالشهادتين : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله . لا يقال له إنه شهد . إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها . و مدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إلها . ومن ثم لا يتلقى الشريعة إلا من الله . فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد ، وأخص خصائص العبودية التلقي من الله .. ومدلولها كذلك ألا يتلقى من الله إلا عن محمد بما أنه رسول الله . ولا يعتمد مصدرا آخر للتلقي إلا هذا المصدر .. ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض ، كما بلغها محمد – صلى الله عليه وسلم- هو المنهج السائد والغالب والمطاع ، وهو النظام الذي يصرف حياة الناس كلها بلا استثناء . فإذا اقتضى هذا الأمر أن يموت في سبيله ، فهو إذن شهيد . أي شاهد طلب الله إليه أداء هذه الشهادة فأداها . واتخذه الله شهيدا .. ورزقه هذا المقام . هذا فقه ذلك التعبير العجيب:((ويتخذ منكم شهداء..)) .. وهو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، ومقتضاه ..لا ما انتهى إليه مدلول هذه الشهادة من الرخص والتفاهة والضياع ! ((والله لا يحب الظالمين)) ... والظلم كثيرا ما يذكر في القرآن و يراد به الشرك . بوصفه أظلم الظلم وأقبحه . وفي القرآن : ((إن الشرك لظلم عظيم)) .. وفي الصحيحين عن ابن مسعود : أنه قال : قلت:يا رسول الله . أي الذنب أعظم ؟ قال : ((أن تجعل لله ندا وهو خلقك ...))... وقد أشار السياق من قبل إلى سنة الله في المكذبين , فالآن يقرر أن الله لا يحب الظالمين . فهو توكيد في صورة أخرى لحقيقة ما ينتظر المكذبين الظالمين الذين لا يحبهم الله . والتعبير بأن الله لا يحب الظالمين ، يثير في نفس المؤمن بغض الظلم والظالمين . وهذه الإثارة في معرض الحديث عن الجهاد والاستشهاد ، لها مناسبتها الحاضرة . فالمؤمن إنما يبذل نفسه في مكافحة ما يكرهه الله ومن يكرهه . وهذا هو مقام الاستشهاد ، وفي هذا تكون الشهادة ، ومن هؤلاء يتخذ الله الشهداء .. ثم يمضي السياق القرآني يكشف عن الحكمة الكامنة وراء الأحداث ، في تربية الأمة المسلمة وتمحيصها و إعدادها لدورها الأعلى ، ولتكون أداة من أدوات قدرة في محق الكافرين ، وستارا لقدرته في هلاك المكذبين : ((وليمحص الله الذين آمنوا و يمحق الكافرين)) .. والتمحيص درجة بعد الفوز والتمييز . التمحيص عملية تتم في داخل النفس ، وفي مكنون الضمير .. إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية ، وتسليط الضوء على هذه المكنونات . تمهيدا لإخراج الدخل و الدغل و الأوشاب ، و تركها نقية واضحة مستقرة على الحق ، بلا غبش ولا ضباب.. وكثيرا ما يجهل الإنسان نفسه ، ومخابئها و دروبها و منحنياتها . وكثيرا ما يجهل حقيقة ضعفها و قوتها ، و حقيقة ما استكن فيها من رواسب ،لا تظهر إلا بمثير ! وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله –سبحانه- بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء ، يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير : محك الأحداث والتجارب و المواقف العملية الواقعية . ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص .. ثم إذا هو يكشف – على ضوء التجربة العملية ، وفي مواجهة الأحداث الواقعية – أن في نفسه عقابيل لم تمحص . وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط ! ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه ، ليعاود المحاولة في سكبها من جديد ، على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة هذه الدعوة ، وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة ! والله – سبحانه- كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرية ، وكان يريد بها أمرا في هذه الأرض. فمحصها هذا التمحيص ، الذي تكشف عنه الأحداث في الأحداث في أحد ، لترفع إلى مستوى الدور المقدر لها . وليتحقق على يديها قدر الله الذي ناطه بها: (( ويمحق الكافرين )) .. تحقيقا لسنته في دمغ الباطل بالحق متى استعلن الحق، وخلص من الشوائب بالتمحيص.. وفي سؤال استنكاري يصحح القرآن تصورات المسلمين عن سنة الله في الدعوات. وفي النصر والهزيمة وفي العمل والجزاء. ويبين لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره . وزاده الصبر على مشاق الطريق ، وليس زاده التمني والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص: (( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة . ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين , ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أ، تلقوه. فقد رأيتموه وأنتم تنظرون)) .. إن صيغة السؤال الاستنكارية يقصد بها إلى التنبيه بشدة إلى خطأ هذا التصور: تصور أنه يكفي الإنسان أن يقولها كلمة باللسان : أسلمت وأنا على استعداد للموت. فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي تكاليف الإيمان ، وأن ينتهي إلى الجنة والرضوان! إنما هي التجربة الواقعية . والامتحان العملي .وإنما هو الجهاد وملاقاة البلاء، ثم الصبر على تكاليف الجهاد، وعلى معاناة البلاء. وفي النص القرآني لفتة ذات مغزى:(( ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم)) .. (( ويعلم الصابرين)) .. فلا يكفي أن يجاهد المؤمنون. إنما هو الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضا. التكاليف المستمرة المتنوعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان . فربما كان الجهاد في الميدان أخف تكاليف هذه الدعوة التي يطلب لها الصبر ويختبر بها الإيمان. إنما هنالك المعاناة اليومية التي لا تنتهي : معاناة الاستقامة على أفق الإيمان. والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك ، والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني: في النفس وفي الغير، ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليومية، والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال. والصبر على أشياء كثيرة ليس الجهاد في الميدان إلا واحدا منها ، في الطريق المحفوف بالمكاره. طريق الجنة التي لا تنال بالأماني وبكلمات اللسان! (( ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه . فقد رأيتموه وأنتم تنظرون)).. وهكذا يقفهم السياق وجها لوجه مرة أخرى أمام الموت الذي واجهوه في المعركة ، وقد كانوا من قبل يتمنون لقاءه. ليوازنوا في حسهم بين وزن الكلمة يقولها اللسان، ووزن الحقيقة يواجهها في العيان , فيعلمهم بهذا أن يحسبوا حسابا لكل كلمة تطلقها ألسنتهم، ويزنوا حقيقة رصيدها الواقعي في نفوسهم، على ضوء ما واجهوه من حقيقتها حين واجهتهم! وبذلك يقدرون قيمة الكلمة ، وقيمة الأمنية ، وقيمة الوعد ، في ضوء الواقع الثقيل! ثم يعلمهم أ، ليست الكلمات الطائرة ، والأماني المرفرفة هي التي تبلغهم الجنة، إنما هو تحقيق الكلمة ، وتجسيم الأمنية، والجهاد الحقيقي، والصبر على المعانة. حتى يعلم الله منهم ذلك كله واقعا كائنا في دنيا الناس! (نشر لأول مرة في مجلة الجهاد الناطقة بإسم جماعة الجهاد المصرية)
|
#3
|
||||
|
||||
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته جزاك الله خير علي الموضوع القيم لكن عندي ملاحظة في مقالة قرائتها تبرا هند بنت عتبة من دم اسد الله حمزة واليك هي والله اعلم وفي انتظار ردك تبرئة هند بنت عتبة من دم أسـد الله حمزة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد : أحبتي في الله كم قرأنا عن غزوة أحد ، و ما صاحبها من أحداث ، لكن هل فكر أحدنا يوماً ما أن يقف مع كل حدث و ينظر إليه نظرة فاحص ناقد ، خاصة بعد أن خرج علينا من يسمون أنفسهم بالمفكرين الناقدين ، خرجوا بآراء و نظريات ، تدعوا إلى عدم قبول كل ما يقال أو يروى ، من معجزات وأمور خارقة للعادة صاحبت تلك الغزوة ، و أنا هنا لست بصدد الرد على تلك النظريات – لها مقال مستقل بإذن الله - ، و لكن للرد على بعض تلك المرويات التي يدندن حولها المستشرقون ، و يصفق و يطبل لها الرافضة ، عليهم من الله ما يستحقون ؛ ألا وهي قصة مقتل حمزة أسد الله رضي الله عنه وأرضاه ، واتهام هند بنت عتبة رضي الله عنها بكونها السبب في تحريض وحشي رضي الله عنه على قتله ، و من ثم قيامها بعد ذلك ببقر بطنه و التمثيل به ، من إخراج كبده و جدع أنفه وأذنه إلى غير ذلك من الأمور . أولاً : ذكر المرويات الصحيحة في الموضوع: 1 - أخرج البخاري في صحيحه ( برقم 4072) و أحمد في مسنده (3/501) والبيهقي في الدلائل (3/241) و الطبري في تاريخه مختصراً (2/516-517 ) و ابن إسحاق بسند البخاري و حديثه ، أنظر ابن هشام (3/102-105) ، من حديث وحشي نفسه الذي رواه عنه جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال : خرجت مع عبيد الله بن عدي بن الخيار إلى الشام ، فلما قدمنا حمص قال لي عبيد الله : هل لك في وحشي نسأله عن قتل حمزة ؟ قلت : نعم ، و كان وحشي يسكن حمص ، قال : فسألنا عنه فقيل لنا : هو ذاك في ظل قصره كأنه حَميت – أي : زق كبير مملوء - ، قال فجئنا حتى وقفنا عليه بيسير فسلمنا ، فرد السلام ، قال : و عبيد الله متعجر بعمامته ما يرى وحشي إلا عينيه و رجليه ، فقال عبيد الله : يا وحشي أتعرفني ؟ قال : فنظر إليه ثم قال : لا والله ، إني أعلم أن عدي بن الخيار تزوج امرأة يقال لها أم قتال بنت أبي العيص ، فولدت له غلاماً بمكة فكنت أسترضع له – أي أطلب من يرضعه - ، فحملت ذلك الغلام مع أمه فناولتها إياه فلكأني أنظر إلى قدميك – زاد ابن إسحاق : و الله ما رأيتك منذ ناولتك أمك السعدية التي أرضعتك بذي طوى ، فإني ناولتكها وهي على بعيرها فأخذتك فلمعت لي قدمك حين رفعتك ، فما هي إلا أن وقفت عليّ فعرفتها ، قال الحافظ : و هذا يوضح قوله في رواية الباب (فكأني أنظر إلى قدميك) يعني أنه شبه قدميه بقدم الغلام الذي حمله فكأنه هو ، و بين الرؤيتين قريب من خمسين سنة ، فدل ذلك على ذكاء مفرط ومعرفة تامة بالقافة . الفتح (7/426) – قال : فكشف عبيد الله عن وجهه ثم قال : ألا تخبرنا بقتل حمزة ؟ قال : نعم ، إن حمزة قتل طعيمة بن عدي بن الخيار ، فقال لي مولاي جبير بن مطعم : إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر ، قال : فلما أن خرج الناس عام عينين – وعينين جبل بحيال أحد بينه و بينه واد – خرجت مع الناس إلى القتال ، فلما اصطفوا للقتال خرج سباع فقال : هل من مبارز ؟ قال : فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب ، فقال : يا سباع يا ابن أم أنمار مقطعة البظور ، أتحاد الله و رسوله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : ثم شد عليه ، فكان كأمس الذاهب – أي صيره عدماً و هي كناية عن قتله – قال : و كمنت لحمزة تحت صخرة ، فلما دنا مني رميته بحربتي فأضعها في ثنته – عانته ، و قيل ما بين السرة والعانة – حتى خرجت من بين وركيه ، قال : فكان ذاك العهد به ، فلما رجع الناس رجعت معهم ، فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإسلام ، ثم خرجت إلى الطائف ، فأرسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً ، فقيل لي : إنه لا يهيّج الرسل ، قال : فخرجت معهم حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رآني قال : أنت وحشي ، قلت : نعم ، قال أنت قتلت حمزة ؟ قلت : قد كان من الأمر ما بلغك ، قال : فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني ؟ - وفي رواية عند الهيثمي في المجمع ( 6/121) و الطبراني في الكبير ( 22/139) بإسناد حسن من حديث وحشي ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لي : وحشي ؟ قلت : نعم ، قال : قتلت حمزة ؟ قلت : نعم ، و الحمد لله الذي أكرمه بيدي ولم يهني بيده ، فقالت له قريش – أي للنبي صلى الله عليه وسلم - : أتحبه و هو قاتل حمزة ؟ فقلت : يا رسول الله فاستغفر لي ، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض ثلاثة ، ودفع في صدري ثلاثة و قال : وحشي أخرج فقاتل في سبيل الله كما قاتلت لتصد عن سبيل الله - . قال : فخرجت ، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج مسيلمة الكذاب ، قلت : لأخرجن إلى مسيلمة لعلي أقتله فأكافئ به حمزة ، قال : فخرجت مع الناس ، فكان من أمره ما كان ، قال : فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر الرأس – أي لونه مثل الرماد من غبار الحرب - ، قال فرميته بحربتي ، فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه ، قال : ووثب رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته ، قال : قال عبدالله بن الفضل : فأخبرني سليمان بن يسار أنه سمع عبد الله بن عمر قول : فقالت جارية على ظهر بيت : وا أمير المؤمنين قتله العبد الأسود . 2 - عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : كان حمزة يقاتل يوم أحد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيفين و يقول : أنا أسد الله . ابن سعد (3/ 6 ) و الحاكم (3/194) و صححه و وافقه الذهبي ، و انظر سير أعلام النبلاء (1/177) . 3 - ومن حديث كعب بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد : من رأى مقتل حمزة ؟ فقال رجل أعزل : أنا رأيت مقتله ، قال : فانطلق أرناه ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على حمزة فرآه وقد شق بطنه ، و قد مثل به ، فقال : يا رسول الله ، مثل به والله ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينظر إليه ، و وقف بين ظهراني القتلى فقال : أنا شهيد على هؤلاء ، كفنوهم في دمائهم فإنه ليس جرح يجرح في الله إلا جاء يوم القيامة يدمي ، لونه لون الدم ، و ريحه ريح المسك ، قدموا أكثرهم قرآناً فاجعلوه في اللحد . المطالب العالية ( برقم 4325 ) وقال الهيثمي في المجمع ( 6/ 119) : رواه الطبراني و رجاله رجال الصحيح . و لفظة ( أنا شهيد على هؤلاء ) أخرجها البخاري ( برقم 4079) و أبو داود ( برقم 3138) و الترمذي ( برقم 1036) والنسائي (3/62) وابن ماجة ( برقم 1514) . من حديث جابر . 4 – و في رواية : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يلتمس حمزة ، فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده و مثل به ، فجدع أنفه و أذناه . و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى ما به : لولا أن تحزن صفية ، و يكون سنّة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير ، و لئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن ، لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم ، فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم و غيظه على من فعل بعمه ما فعل ، قالوا : والله لئن أظفرنا الله بهم يوماً من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب . رواه ابن إسحاق بإسناد منقطع ، أنظر ابن هشام (3/138-139) و روي عن طريقه و عن طريق آخرين و كلها بأسانيد ضعيفة ، و لهذا الحديث شواهد منها :- أ - حديث أبي هريرة رواه الحاكم في المستدرك (3/197) ، و ابن سعد في الطبقات (2/13-14) والبزار في مسنده (2/326-327) والطبراني في الكبير (3/156-157) والبيهقي في الدلائل (3/288) والواحدي في أسباب النزول (ص291) و ابن عدي في الكامل (4/1381) ، جميعهم من طريق صالح بن بشير المري ، و هو ضعيف . ب - حديث ابن عباس ، الذي أخرجه ابن إسحاق ، أنظر : ابن هشام (3/140) بإسناد ضعيف ، لإبهام ابن إسحاق اسم من حدثه . جـ - و صح من غير هذا الطريق كما رواه الترمذي (5/299-300) و أحمد كما في الفتح الرباني (18/192-193) والحاكم (2/359) و صححه و وافقه الذهبي . د - و يستأنس بمرسل محمد بن كعب القرظي الضعيف جداً ، و الذي رواه ابن إسحاق ، أنظر : ابن هشام (3/140) و ذلك لعلتي الإرسال و كون شيخه بريدة بن سفيان من المتروكين . هـ - و كذلك يستأنس بمرسل عطاء بن يسار الضعيف جداً ، والذي رواه ابن إسحاق كما نقله عنه ابن كثير في التفسير (2/592) و ذلك لأنه لم يصح إلى مرسله ، و فيه رجل مبهم لم يسم كما ذكر ابن كثير ، و مثله لا يصح للاستشهاد . و أصل الحديث أخرجه الترمذي (8/559-560) و عبد الله بن الإمام أحمد في الزوائد (5/135) و الطبراني في الكبير (3/157) وابن حبان في صحيحه (برقم 1695) و الحاكم (2/358-359) ، جميعهم من حديث أبي بن كعب ، قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، و صححه الحاكم وأقره الذهبي و الألباني في السلسلة الضعيفة ( 2/28-29) . وبالجملة فالحديث صحيح لغيره بمجموع هذه الشواهد . 5 - و نزل قول الله تعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به و لئن صبرتم لهو خير للصابرين } [النحل /126] ، فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم و صبر ونهى عن المثلة . رواه ابن إسحاق بإسناد منقطع ، أنظر : ابن هشام (3/140) ، و رواه من غير طريق ابن إسحاق : الترمذي (5/299-300) و قال : هذا حديث حسن غريب ، و أحمد في المسند ، الفتح الرباني (18/192-193) والواحدي في أسباب النزول ( ص 191-192) و الحاكم (2/359) بمثل رواية الترمذي و أحمد ، و صححه و وافقه الذهبي . و أنظر : الصحيح المسند من أسباب النزول للشيخ مقبل الوادعي (ص 143) . 6 - ومن حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قتل حمزة ، بكى ، فلما نظر إليه شهق . أنظر كشف الأستار ( برقم 1794) و قال الهيثمي في المجمع (6/118) : رواه البزار و فيه عبد الله بن محمد بن عقيل ، و هو حسن الحديث على ضعفه . 7 - و من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : قتل حمزة يوم أحد و قتل رجل من الأنصار ، فجاءته صفية بنت عبد المطلب بثوبين ليكفن فيهما حمزة ، فلم يكن للأنصاري كفن ، فأسهم النبي صلى الله عليه وسلم بين الثوبين ، ثم كفن كل واحد منهما في ثوب . قال الهيثمي في المجمع (6/120) رواه الطبراني و رجاله ثقات ، و انظر الطبراني في الكبير ( برقم 12152) . 8 - ومن حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه قال : إنه لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى حتى كادت أن تشرف على القتلى ، قال : فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن تراهم ، فقال : المرأة ، المرأة . قال الزبير : فتوسمت أنها صفية ، قال : فخرجت أسعى إليها ، قال : فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى ، قال : فَلَدَمَتْ في صدري ، و كانت امرأة جلدة ، قالت : إليك عني لا أرض لك ، فقلت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم عليك ، قال : فوقفت وأخرجت ثوبين معها فقالت : هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة ، فقد بلغني مقتله فكفِّنوه فيهما ، قال : فجئنا بالثوبين لنكفن فيهما حمزة فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار قتيل فعل به كما فعل بحمزة ، قال : فوجدنا عضاضة و خنى أن يكفن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له ، فقلنا لحمزة ثوب و الأنصاري ثوب ، فقدّرناهما ، فكان أحدهما أكبر من الآخر ، فأقرعنا بينهما ، فكفنا كل واحد منهما في الثوب الذي طار له . المسند (1/165) ، كشف الأستار ( برقم 1797) والهيثمي في المجمع (6/118) ، و البيهقي في السنن ( 4/401-402) ، و في الدلائل (3/290) و أبو يعلى في مسنده (برقم 686) . بسند حسن ، و قال الأرنؤوط : إسناده جيد ، أنظر سير أعلام النبلاء (1/173) . 9 - و من حديث أبي سعيد الساعدي رضي الله عنه قال : أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر حمزة بن عبد المطلب ، فجعلوا يجرون النمرة – الثوب المخطط من مآزر العرب – على وجهه فينكشف قدماه ، فيجرونها على قدميه فينكشف وجهه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعلوها على وجهه و اجعلوا على قدميه من هذا الشجر ، قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه فإذا أصحابه يبكون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يأتي على الناس زمان يخرجون إلى الأرياف والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، لا يصبر على لأوائها و شدتها أحد إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة . المطالب العالية ( برقم 4322) و الهيثمي في المجمع ( 6/119 ) و قال رواه الطبراني و رجاله ثقات . 10 - ومن حديث ابن عمر و أنس بن مالك رضي الله عنهم ، قالا : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد سمع نساء الأنصار يبكين ، فقال : لكن حمزة لا بواكي له ، فبلغ ذلك نساء الأنصار فبكين حمزة ، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم استيقظ و هن يبكين ، فقال : يا ويحهن مازلن يبكين منذ اليوم فليبكين ، ولا يبكين على هالك بعد اليوم . أخرجه ابن ماجة ( برقم 1591) و أحمد ( 7/106-107) وقال الساعاتي سنده جيد ، و الهيثمي في المجمع (6/120 ) ، و صححه الحاكم (3/195) و قال الحافظ ابن كثير في البداية (4/48) : هو على شرط مسلم ، وأنظر سير أعلام النبلاء (1/173) . ثانياً : ذكر المرويات الضعيفة في الموضوع : 1 - روى موسى بن عقبة ، أن وحشياً بقر عن كبد حمزة وحملها إلى هند بنت عتبة فلاكتها فلم تستطع أن تستسيغها . ذكره ابن كثير في البداية والنهاية (4/43) دون إسناد ، فهو ضعيف . 2 - وروى ابن إسحاق أن هنداً هي التي بقرت عن كبد حمزة ، و زاد أن هنداً اتخذت من آذان الرجال و أنفهم خدماً ( أي خلاخل ) و قلائد ، و أعطت خدمها و قلائدها و قرطتها وحشياً . ابن هشام (3/133) بإسناد منقطع موقوف على شيخه ابن كيسان ، فهي ضعيفة . 3 - و روى الواقدي أن وحشياً عندما قتل حمزة حمل كبده إلى مكة ليراها سيده جبير بن مطعم . المغازي (1/332) ، والواقدي متروك ، فروايته ضعيفة جداً . 4 - و ذكر الشامي أن الواقدي والمقريزي – في الإمتاع – رويا أن وحشياً شق بطن حمزة وأخرج كبده و جاء بها إلى هند فمضغتها ثم لفظتها ، ثم جاءت معه إلى حيث جثة حمزة ، فقطعت من كبده و جدعت أنفه و قطعت أذنيه ، ثم جعلت مَسَكَتين ومعضدين و خدمتين حتى قدمت بذلك مكة . سبل الهدى والرشاد (4/321) . و لعل رواية الواقدي و المقريزي التي أشار إليها الشامي تفيد الجمع بين روايتي ابن عقبة وابن إسحاق ، وتوافقهما في المضمون . و هي ضعيفة . و ختاماً أحبتي في الله نستطيع أن نقول : أنه من خلال الجمع بين الروايات الصحيحة والضعيفة ، نخرج بملاحظتين :- الأولى : أن التمثيل بجثة حمزة فقد ثبت بطرق صحيحة كما ذكرنا ، مما يدل على أن قصة بقر كبد حمزة – التي ذكرها أهل المغازي والسير – لها أصل . الثانية : أن هنداً بريئة من هذا الفعل المشين ، و ذلك لضعف جميع الطرق التي جاءت تفيد بأن هند هي التي قامت ببقر كبرد حمزة والتمثيل بجثته . هذا والله أعلم بالصواب و صلى الله على نبينا محمد و على آله وصحبه وسلم ، والحمد لله رب العالمين .
|
#4
|
|||
|
|||
اخى فى الله
ابو خالد المصري تنظيم القاعده ليس كتنظيم الجهاد المصري فتنظيم القاعده عالمي وتنظيم الجهاد المصري مرتبط بقضايا معينه داخل مصر متى ما انتهت انتهى التنظيم لذلك ما تفسيرك على انضمام كثير من اعضاء جماعة الجهاد المصريه الى تنظيم القاعده ؟؟؟؟؟ وعلى رأسهم الشيخ الدكتور ايمن الظواهري حفظه الله ورعاه وهو المؤسس لتنظيم جماعة الجهاد المصريه التى انشقت عن الجماعه الاسلاميه فى مصر بقيادة الشيخ عمر عبدالرحمن فك الله اسره من سجون امريكا ؟؟؟؟؟؟؟؟ فلذلك ايضا تختلف القضايا التى يتبناها تنظيم القاعده عن القضايا التى يتبناها تنظيم الجهاد المصري واهمها ان الثاني يريد الوصول الى الحكم عن طريق القتال ضد الحكومه بعد ان حاد الاخوان المفلسون عن النهج الذي رسمه لهم الشيخ حسن البنا رحمه الله فلذلك انشقت عنها الجماعه الاسلاميه وانشق من الجماعه الاسلاميه تنظيم الجهاد المصري فكل ما فى الامر فى رأيي الخاص انه لا مقارنة بين التنظيمين وخاصة ان تنظيم القاعده قد تفوق فى مجال الجهاد ضد اعداء الله من الصليبيين واليهود فى شتى بقاع الارض وتحيتي لك وبارك الله فيك
|
#5
|
||||
|
||||
أخي عمرو حفظه الله
تبرئة هند من عدمها لن تؤثر في شئ نسأل الله تعالى أن تكون قد تبرأت من الفعل و هي في الجنة إن شاء الله ولن يفرق معنا سواء تبرأت أو لم تتبرأ، أما من كان يفرق معهم فقد مضى عهدهم و ولوا، ففعلتها كانت طعنة في الدولة الأموية (لو ثبتت) و لذلك قد يكون هناك من حاول تبرئتها بروايات محددة .. لكن في كل الأحوال فهي صحابية نسأل الله أن يرضى عنها و يغفر لها وحسابها على الله فلسنا في مجال شخصيتها الأخ المكرم حكمتيار ادرك ما تقول و ما القاعدة إلا وليد الجهاد و الفكر الذي عليه القاعدة حالياً من بنات أفكار الشيخ أيمن حفظه الله والتطور الذي وصلوا إليه الآن لا يعني أن نترك التنظيم الأم بدون ذكر خصوصاً عندما تكون الفائدة مستمرة.
|
#6
|
||||
|
||||
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الأخ ابو خالد جزاك الله خير انا في انتظار ردك علي اسئلتي وهي ماعلاقة الشيخ عمر عبد الرحمن بتنظيم الجهاد واغتيال السادات من هو لويس عطية الله ماسبب سجن الشيخ عمر عبد الرحمن في امريكا انا في انتظارك وارجوا ان لاتنساني والله يعطيك العافيه
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
بطلان اشتراط وجود الإمام والراية لمشروعية الجهاد في سبيل الله | سـ11ــبتمبر | المنتدى الإسلامي | 0 | 06-01-05 08:12 PM |
إتحاف البريه بأقوال زكية من فتاوى شيخ الاسلام ابن تيميه فى الجهاد فى سبيل الله ,,,, | حـكـمـتـيـار | المنتدى الإسلامي | 7 | 02-01-05 11:16 AM |
راديو قصيمي نت | مطبخ قصيمي نت | قصص قصيمي نت | العاب قصيمي نت |