العاب اون لاين: العاب بلياردو | العاب سيارات | العاب دراجات | العاب طبخ | العاب تلبيس |العاب بنات |العاب توم وجيري | العاب قص الشعر |
للشكاوي والاستفسار واستعادة الرقم السري لعضوية قديمة مراسلة الإدارة مراسلتنا من هنا |
|
|
|
أدوات الموضوع | التقييم: | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||
|
|||
صور وعبر للشيخ علي القرني حفظه الله
الحمد لله الذي نشر بقدرته البشر، وصرَّف بحكمته وقدَّر، وابتعث محمدًا إلى كافة أهل البدو الأرقم، فاختفى واستتر، إلى أن أعز الله الإسلام برجال كأبي بكر وعمر. فصلوات الله عليه، وعلى جميع أصحابه الميامين الغرر، وعلى تابعيهم بإحسان على السنة والأثر. صلوات الله عليه ما هطلت الغمائم بتَهْتَان المطر، وهَدَلت الحمائم على أفنان الشجر. وسلم تسليمًا كثيرًا على سيد البشر. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، من جَمعٍ الْتَقى حبًا في ذكر الله، وحيَّا الله قلوبًا أقبلت تأرز إلى بيوت الله، وعلى حبكم أيها الجمع أشهد الله، وأسأله أن يجمع قلوبنا على تقواه، وأن يظلنا تحت ظله، يوم لا ظل إلا ظله. اللهم اجعل هذا الجمع في صحائف الحسنات، في يوم تَعزُّ فيه الحسنات، واغفر اللهم لنا مايكون من زلات. اللهم بك نعتضد، ومن فيض جودك نستمد، اللهم اجعل هذه الكلمات خالصة لوجهك الكريم، ووصلة للفوز بجنات النعيم، وانفع بها من تلقاها بالقبول، وبلغنا وسامعها من الخير أجلّ المأمول، أنت أكرم مسئول على الدوام، وأحق من يرتجى منه حسن ختام. صور وعبر {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُّفْتَرَى} اقرَؤُوا التارِيخَ إذْ فيهِ العِبَر ضلَّ قَومٌ ليسَ يَدرُونَ الخَبَرْ سَائِلُوا التاريخَ عنَّا كيفَ كنَّا نحنُ أسَّسنا بِناءً أَحمديَّا أيها الأحبة في الله: إن أمر آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها، ولا يشك عاقل يؤمن بالله ورسوله أن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- هم خير الخلق بعد رسول الله، وأنه -صلى الله عليه وسلم- سيد ولد آدم، وصحابته أفضل قرن وأمة وجدت على الأرض، وإن معرفة أحوالهم وأخلاقهم وسيرهم لتضئ الطريق أمام المؤمن الذي يريد أن يعيش أسوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومن هنا كان لزامًا علينا معرفة أخبارهم، وسيرهم، ونشرها بين المسلمين؛ عظة وذكرى، لمن كان له قلب أو ألقى السمع. لماذا؟ لأنهم نقلوا الإسلام إلينا نقلا صحيحًا، ولأن المحافظة على الإسلام، تستوجب العناية بتاريخهم؛ لئلا يجد أعداء الإسلام سبيلا للطعن في الإسلام، عن طريق الطعن في نقلته، ولما كان الأمر كذلك، دعت الحاجة إلى تبين فضائلهم؛ ليكون ذلك ردعًا للموتورين، الذين كفَّروا الصحابة، وضللوهم، وأسقطوا عدالتهم؛ كي يهدموا الإسلام من قواعده، وأنى لهم ذلك!! لكنهم قوم لا يفقهون. كناطحِ صخرةٍ يومًا ليُوهِنَها فلم يوهنها وأَوهَى قَرنَهُ الوَعِلُ ولعل ديننا القويم قد تميز عن سابقيه من الأديان بمعجزة تتجدد في كل وقت وآن؛ ألا وهي معجزة الرجال الذين عاشوا حياتهم للإسلام، لم يعرفوا للراحة طعمًا، ولم يعهد الخمول إلى نفوسهم طريقًا، فكانوا حركة مشبوبة لا تهدأ، لا تفتر، لا تكلُّ، لا تمَلُّ، لا يهمها من الحياة مال ولا متاع، ولا تشغلها دون غاياتها زخارف الدنيا وبهجتها، وحَّدوا همتهم في إرضاء الله، محقوا من بواطنهم كل نية تشوبها الشوائب، فكانوا خالصين لله، فأكرمهم الله بأن جعلهم من معجزات نبيه الكريم، يثبتون للدنيا كلها أن دين الله تام مكمل، وأن شرع الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن الله متم نوره ولو كره الكافرون، ولو كره المنافقون والظالمون والفاسقون. إن أخبار هؤلاء الأخيار دواء للقلوب، وجلاء للألباب من الدنس والعيوب، وقدوة في زمن كادت القدوات أن تغيب، فهم مثال يُحتذى، ونبراس يُقتدى، ليعرف المتأخر للمتقدم فضله، ويسعى على دربه ونهجه. بالوقوف على أخبار هؤلاء الأخيار تحيا القلوب، وباقتفاء آثارهم تحصل السعادة، وبمعرفة سيرهم ومناقبهم، تحيا القلوب، وباقتفاء آثارهم تحصل السعادة، وبمعرفة مناقبهم تكون القدوة بجميل الخصال، وبنبيل المآثر والفعال. فحي هلا أيها الجمع الكريم، إلى الصور ذات العبر، ولست مدَّعيًا، ولست زاعمًا، أني سأبين العبرة من كل صورة، بل إن البعض منها سيسرد سردًا، تتبين فيه العبرة من خلال الصورة. "فاللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت تجعل الحزن –إذا شئت- سهلا". فإلى صورة من حياة رجل من أولئك الأخيار، رجل عظيم القدر، رفيع المنزلة، عَبدَ الله متأسيًا برسول الله، وجاهدَ في الله، وأنفق كل ماله في سبيل الله، نصر الرسول يوم خذله الناس، وآمن به يوم كفر به الناس، وصدقه يوم كذبه الناس. جهل فعله الكثير من أبناء المسلمين، بخسوه حقه، وهضموه منزلته، ولم يقدروه قدره. بعض أجيالنا يعرف عن مغنية، أو ممثل، أو تافه رخيص، أو ساقط أو ساقطة أكثر مما يعرفون عن هذا العلم، تجاهله لا أقول حتى العامة، بل تجاهله الخطباء والوعَّاظ والكتَّاب؛ ربما لأنه عظيم بجوار من هو أعظم، وكريم بجوار من هو أكرم، فطغت عظمة صاحبه وقدره ومنزلته على عظمته وقدره ومنزلته، إنه أفضل الصحابة، ما طلعت الشمس، ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على خير منه، إنه أول من آمن من الرجال -على الصحيح- إنه من وزن إيمانه بإيمان الأمة فرجح إيمانه، إنه الورع الحيي، الحازم الرحيم، التاجر الكريم، صاحب الفطرة السليمة من أدران الضلال، لم يُؤثَر عنه أنه شرب خمرًا قط، ولم يُؤثَرعنه أنه سجد لصنم قط، ولم يتعامل بِرِبًا قط، ولم يُؤثَر عنه كذب قط، كان شبيهًا بالرسول –صلى الله عليه وسلم- وأنعم به من شبه. رجل لا كالرجال، وسيرة لا كالسير، إنه من لا يخفى عليكم، ولا على مثلكم من المؤمنين، إنه أبو بكر –رضي الله عنه وأرضاه- ولعن الله من أبغضه وعاداه، إنه من دُعِيَ إلى الإسلام، فما كبا، ولا نبا، ولا تردد، وإنما بادر إلى الإسلام، وما تلبث، وما تلعثم، وما كان لأصحاب الفطر السليمة أن يتلبثوا عن خير دُعُوا إليه، وكيف يتلبث وقد صحب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة، وعلم صدقه وأمانته وحسن سجاياه وكرم خلقه، علم عدم كذبه على الخلق، فكيف يكذب –صلى الله عليه وسلم- على الخالق؟ لذا كان لسان حال أبي بكر –رضي الله عنه- يوم دعي إلى الله من جانب رسول الله ، (ما جربت عليك كذبًا)، أما لسان مقاله: فأشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فتمتد يده إلى المصطفى –صلى الله عليه وسلم- لتبايعه، فتكون أول يد تمتد إلى المصطفى –صلى الله عليه وسلم-. فحسبي وحسبكم هذه الليلة أن نقف مع بعض صور من حياة هذا العلم، وقفة تذكر وتدبر وعظة وعبرة في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى سير أمثال هؤلاء، والحال في الغالب قد تسرّ العدو، وتحزن الصديق. كل هذا ليعلم أن ما نحن فيه بسبب بعدنا عن نهج أبي بكر، وغيره من صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكل ذلك بما كسبت أيدينا، ويعفو الله عن كثير، ليعلم أننا يوم توارى أمثال هذا الرجل، ظهر الفساد وتطاول الأقزام، ونطق الرويبضة، وجدير إذا الليوث تولت، أن يلي ساحها جموع الثعالب. الصورة الأولى: قال الصِّديق: لا إله إلا الله، وقد أدرك ماذا تعني لا إله إلا الله. علم أنها تعني أن يسلم النفس كاملة لله –سبحانه وتعالى-. فاسمع إلى ابن كثير في سيرته، يوم يقول: عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: " لما اجتمع أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- ألحَّ أبو بكر على الرسول –صلى الله عليه وسلم- في الظهور وعدم الاختفاء، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يا أبا بكر، إنَّا قليل، فلم يزل أبو بكر يلح على إظهار النور، حتى وافقه –صلى الله عليه وسلم- على ذلك، وظهر رسول الله والمسلمون، وتفرقوا في نواحي المسجد، وقام أبو بكر خطيبًا في الناس، فكان أول خطيب دعا إلى الله، وإلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثار عليه المشركون، وثاروا على المسلمين معه، فضربوا أبا بكر ضربًا شديدًا، حتى أن عتبة دنا منه، فجعل يضرب وجهه بنعلين مخصوفتين، ثم ينزو على بطن أبي بكر، حتى ما يعرف وجهه من أنفه –رضي الله عنه وأرضاه- وجاء بنو تيم- قوم أبي بكر- وأجلوا عنه المشركين، وقالوا: لئن مات لنقتلن عتبة ثأرًا لأبي بكر، أما أبو بكر فمغمى عليه، لا يتكلم بكلمة، رجع إليه قومه ليكلموه فما تكلم إلا آخر النهار. ترى بما تكلم؟ قال: " ما فعل رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. همّه رسول الله والرسالة، سبه قومه وعزلوه إذ هم مشركون، ثم تركوه، أما أمّه فقامت تلحّ عليه أن يطعم شيئًا، وهو يقول: ما فعل رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. فتقول: –والله- يا بني ما لي علم بصاحبك. قال: اذهبي إلى أم جميل فاطمة بنت الخطاب، فاسأليها. خرجت إليها، فقالت: إن ابني يسأل عن محمد. قالت أم جميل: أتحبين أن أذهب معك إلى ابنك؟ –تريد سرية الأمر لئلا تفتن هي كما فتن هو وغيره- قالت: نعم. فمضت إلى أبي بكر، فوجدته صريعًا، قالت: والله إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو الله أن ينتقم الله لك منهم. رحمهم الله، ورضي عنهم؛ لقد كانوا يأوون إلى ركن شديد، فيقول أبو بكر: ما فعل رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟ قالت أم جميل: هذه أمك تسمع - ولم تكن آمنت بعد، وهذا وعي عظيم من فاطمة –رضي الله عنها- على سرية الدعوة، فلا تتكلم أمام مشركة، حتى ولو كانت أم أبي بكر –رضي الله عنه وأرضاه- قال: لا عليك يا فاطمة. قالت: إنه سالم صالح بحمد الله. قال: أين هو؟ قالت: في دار الأرقم بن أبي الأرقم، قال: فإن لله عليّ ألا أذوق طعامًا ولا شرابًا حتى آتي رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. أحب رسول الله حبًا يفوق النفس والمال والأهل والولد، وهكذا يجب أن يكون المؤمنون. انتظروا حتى هدأت الرِّجل، وسكن الناس، ثم خرجت أمه وأم جميل يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله –صلى الله عليه وسلم –فلما رآه – صلى الله عليه وسلم – قبله وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله رقة شديدة؛ لما يرى منه، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي ليس بي من بأسٍ إلا ما نال الفاسق من وجهي يا رسول الله، ثم قال: يا رسول الله هذه أمي بارّة بولدها، وأنت مبارك، فادعُ الله لها، وادعها إلى الله أن يستنقذها من النار، فدعاها، ودعا لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فشهدت أن لا إله إلا الله. همه -رضي الله عنه- أن يستنقذ الناس من النار، والأقربون أولى بالمعروف، والأم أقرب إنسان إليه، فما كان منه إلا أن دعاها فأسلمت، وكان من أعظم البر بأمه، أن يدعوها إلى الله -جل وعلا-. أرأيتم لهذا الموقف يا عباد الله؟ والله لموقف أبي بكر هذا مع رسول الله في سبيل الحق ساعة أفضل من عبادة أحدنا عمره كله. يقول بكر بن عبد الله المزني بإسناد صحيح: إن أبا بكر لم يفضل الناس بكثرة صلاة أو صيام –وإن كان لمكثرهما- وإنما فضلهم بشيء وقر في قلبه، إنه الإيمان، وكفى به هاديًا ودليلا إلى القلوب وحاديًا إلى جنات النعيم. بَشَّرها دَليلُها وقَالَ غدًا تَرينَ الطَّلحَ والجبالَ صورة أخرى: تلفت أبو بكر، وقد استغرق الإسلام عليه وقته، فوجوده للإسلام وهويته، ورسالته الإسلام، تجرد لله بكل خاطرة في قلبه، فما استبقى في نفسه بقية إلا استعبدها لله، تلفت فإذا ميدان جديد قد فتح، وإذ بالمستضعفين من المؤمنين قد صَبَّ عليهم طغاة الكفر، وصناديد الشرك، وسدنة الوثنية، سوء العذاب؛ حبسوهم، جوَّعوهم، عطشوهم، عذبوهم، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، ويا أيها الأحبة في الله، إن الضلال والجهل والكفر والنفاق، في كل زمان لا يمتلك الإقناع والحجة والبرهان، قد يمتلك القوة والبطش، لكن أنَّى لقلوب تسلل إليها النور أن تتدثر بالظلام بعد أن تسلل إليها النور. رأى أبو بكر نفوسًا مؤمنة أمضَّها العذاب، وأعيتها المعاناة، آلمها التعذيب، جُرُّوا في الرمضاء، وضربوا بالسياط، ألبسوا درع الحديد، صهروا في الشمس، كووا بالنار. في السيرة لابن كثير يقول ابن عباس: إن كانوا ليضربون أحدهم، ويوجعونه، ويعطشونه، ويسحبونه على وجهه في الرمضاء، حتى ما يقدر أن يستوي جالسًا من شدة الضر الذي نزل به، حتى يقول له: آللات والعُزى إلهان من دون الله؟ فيقول: نعم؛ افتداءًا منهم، وقلبه مطمئن بالإيمان، ففي مثل هذا أنزل الله {مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} الابتلاء سنة من سنن الله في هذا الكون، لا تتوقف ليميز الله الخبيث من الطيب، وهاهو رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح، يخبر ويقول: "لقد كان فيمن كان قبلكم، يؤتى بالرجل فتحفر له الحفرة، ثم يوضع فيها، فيوضع المنشار على مفرق رأسه، ثم يشق شقين، فيمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب" فالابتلاء سنة ماضية {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} أبو بكر يرى هذه المناظر من الابتلاءات، فآلمه ما يرى، جمع أمواله، وصفَّى تجاراته مباشرة، وكان من أكثر قريش تجارة، ثم انطلق يشتري الأرقاء، ويعتقهم لوجه الله، لا يريد منهم جزاءً ولا شكورًا، كل ذلك حماية لدينهم أن يفتنوا فيه، فينفق من أمواله أربعين ألف دينار في سبيل الله؛ ليحقق الشعور بالجسد الواحد، والبناء الواحد، والأمة الواحدة. يسمع أبو بكر ويرى بلالا يئن تحت وطأة التعذيب، وهو يقول: أَحَدٌ أَحَد ، قد هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فصاروا يطوفون به شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد، صخور عظيمة في حماء الظهيرة في رمضاء مكة -وأهل مكة أعرف بمكة- توضع على صدره، ثم يقول له أمية: لا تزال على هذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد. ولسان حال بلال، وهو الثابت: أَهفُو إلى جنةِ الفردوسِ مُحترِقًا بنارِ شوقِي إلى الأَمنَاءِ والغُرَفِ وقَد أمرُّ على الدنيَا وسَادَتَها مِن الطُّغاةِ مُرورَ الليثِ بالجِّيَفِ أما لسان مقاله: فأحد أحد، لم يظفروا منه بكلمة الكفر -رضي الله عنه وأرضاه- يسمعه أبو بكر وهو يقول ذلك فيقول: ينجيك الواحد الأحد. ويذهب أبو بكر إلى أمية، ويقول: أتبيع بلالا؟ قال: أبيعه، لا خير فيه، فباعه من أبى بكر بعبد أسود لأبي بكر، وقيل: بخمس أواقٍ من ذهب، ليعتقه أبي بكر لوجه الله –تعالى-، ونعم المال الصالح للعبد الصالح. يقول أمية: يا أبا بكر؛ لو أبيت إلا أوقية واحدة لبعتك بلالا، لا خير فيه، فيقول أبو بكر: والله لو أبيت إلا مائة أوقية ذهبًا لأعطيتكها، إعلانًا من أبي بكر للبشرية كلها: أن له موازين ومعايير ومقاييس غير مقاييس أمية وحزبه من الكفرة. أعتق أبو بكر بلالا وعامرًا وأم عميس وزنِّيرة وابنتها وغيرهم كثير، أعتق الله رقبته من النار، وبيض وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه. ويأتي أبوه -أبو أبي بكر- وهو شيخ كبير، ما زال حينها على دين قومه، فيقول: يا بني أما وقد أبيت إلا أن تضيع مالك، فهلا أنفقته على رجال أشداء جلداء، ينفعونك ويمنعونك وقت الشدائد. فيقول: يا أبت؛ إنما أريد ما أريد- ماذا يريد أبو بكر؟ أيريد السمعة؟ أيريد الرياء؟ أيريد الشهرة؟ والله لو أرادها لوضعها في الأشراف، والكبار بمقاييسهم، لكنه يريد وجه الله والدار الآخرة، وشتان بين طالب الدنيا وطالب الآخرة، ويأتي المنافقون الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات، إن أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا إذا هم يسخطون، يأتون في كل زمان ليهونوا من شأن أي عمل يقوم به المسلمون الصادقون، فيقولون: إنما أعتق أبو بكر بلالا ليدٍ كانت لبلال عنده، لمعروف كان لبلال عنده، وأبو بكر ليس في حياته متسع لمجادلة أصحاب هذا الفكر المظلم العفن النتن، وهذه النظرات القاصرة الخاسرة، تركهم ولم يرد عليهم، ولسان حاله يقول: الله أعلم ما في قلبي هو عالم السر وأخفى، لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء، وتتنزل الآيات من فوق سبع سماوات، من رب العزة والجلال لترد على هؤلاء ومن على شاكلتهم إلى قيام الساعة، كما أورد ذلك غير واحد من المفسرين يقول الله -جل وعلا-: {وَمَا لأحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} أي متاع يساوي ولسوف يرضى؟! أي زخرف يساوي ولسوف يرضى؟! أي دنيا تساوي ولسوف يرضى؟! لا الدنيا، ومتاعها، وزخرفها، ولذائذها، وزينتها، بل بحذافيرها، لا تساوي ولسوف يرضى، من الذي وعده بالرضى؟ إنه أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، وديَّان يوم الدين، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، ولسوف يرضى في يوم يقل فيه من يرضى، ولسوف يرضى في يوم يكثر فيه الفزع. { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} صورة أخرى: ويُسْرى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت المقدس، ويعرج به إلى السماوات العلى في ليلة ويعود في الصباح؛ ليخبر الخبر وهو الصادق- صلى الله عليه وسلم- ويطير الخبر في مكة، ويسري سريان النار في الهشيم، ويُكَذَّب المصطفى- صلى الله عليه وسلم- ويضطرب بعض المسلمين لهذا الخبر، ثم يذهبون لأبي بكر يريدون أن يزعزعوا عقيدته، يريدون أن يهزوا إيمانه، فيخبرونه الخبر وهم على ثقة أنه لن يصدق رسوله- صلى الله عليه وسلم- بعدها، ويرتد عن دينه، فما موقف هذا الرجل؟ وقف أمامهم كالطود الشامخ ليقول في كلماته الخالدة، التي حددت منهج الإيمان في حياته: " إن كان قال فقد صدق، والله إنه ليأتيه الخبر من السماء في ساعة من ليل أو نهار أصدقه، أفلا أصدقه الآن؟ أو كما قال: إن كان قال فقد صدق". وانظروا -يا إخوتي في الله- إلى الوضوح في الرؤية، وإلى الثبات على المبادئ، عاد هؤلاء خائبين خاسرين، واستحق أبو بكر أن يلقب بالصديق. أيها الأحبة في الله: لقد علمنا أبو بكر كيفية التعامل مع ما يأتي عن الله وعن رسوله، فلا مجال للرأي بعد ثبوت النقل ولا جدال، بل آمنا وصدقنا وعملنا، سمعنا وأطعنا، فوالله ما خرج من بين شفتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إلا الحق. صورة أخرى: لما أذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لصحابته بالهجرة إلى المدينة، تجهز أبو بكر يريد أن يكون الأول في كل شيء، يسابق إلى الخيرات، واتجه إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- يطلب الإذن بالهجرة، فقال- صلى الله عليه وسلم- له: لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبًا، يدخره رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لحدث ومنزلة لا يتكرر عبر تاريخ الحياة كلها، فقام بإعداد الرواحل، وقام بعلفها يعلفها من ورق السَّمُر؛ استعدادًا للهجرة، وكان من عادة المصطفى أن يأتي بيت أبي بكر في كل يوم مرتين؛ بكرة وعشيًا، قالت عائشة: " وبينما نحن جلوس يومًا في نحر الظهيرة، وإذ برسول الله- صلى الله عليه وسلم- متقنعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها أبدًا، فيقول أبو بكر: فداء له أبي وأمي، ما جاء إلا لأمر، فدخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجلس على سرير أبي بكر وقال: أخرج من عندك يا أبا بكر قال: إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: " فإن الله قد أذن لي في الهجرة"، قال أبو بكر وهو يبكي من الفرح: الصحبة يا رسول الله، قال: الصحبة يا أبا بكر، قالت عائشة: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيت أبي يبكي يومئذٍ من الفرح " أخرجه البخاري. يا لله! هل يبكي فرحًا بمنصب؟ هل يبكي فرحًا بمال، بجاه، بوظيفة؟! لا والله -الذي لا إله إلا هو- إنه ليعلم أن السيوف تنتظره، وأن القلوب الحاقدة تتلهف للقبض عليه، وأن الجوائز العظيمة تعلن للقبض عليه وعلى صاحبه لكن. (فما لجرحٍ إذا أرضاكم ألمُ) أولئك حزبُ الله آسادُ دينِه بهم عصبُ الطاغوتِ تشقى وتعطبُ أولئك أنصارُ النبي ورهطُه لهم يتناهى كل فخرٍ وينسبُ أولئك أقوامٌ إذا ما ذكرتهم جرت عبرات العينِ حَرَّى تقطبُ جزى الله خيرًا شيخَ تيمٍ وجنده فراياتُه في الخيرِ والبِرُ تَضْربُ وينطلق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مع أبي بكر إلى غار ثور، وفي حديث الهجرة صور أي صور! وعبر أي عبر! حقيقة بالتأمل والوقفات عندها، فهذا الشيخ الجليل- أبو بكر- قد خرج بكل ما يملك بعد أن أعلن حالات الطوارئ في بيته، واستنفر جميع أفراد أسرته لخدمة الرسالة، وجهز جميع إمكاناته لخدمة المصطفى- صلى الله عليه وسلم- ثم يمضي مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تاركًا لأهل والعشيرة والأولاد والخلاَّن والأصحاب؛ يريد وجه الله والدار الآخرة، ويلقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-مع أبي بكر نظرة على البيت الحرام، نظرة حزن، كما قال الإمام أحمد والترمذي وصححه: " والله إنك لأحب أرض الله إليّ، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت" دموعه تهراق على وجنتيه، لكنه يعلن إلى الجيل إلى قيام الساعة أن وطن الداعية حيث مصلحة دعوته، فلتُهْجَر الأوطان، فلتهجر الأوطان حتى ولو كانت أحب الأوطان إلى الله، نعم، حتى ولو كانت أحب الأوطان إلى رسول الله، نعم، ما دامت تتعارض مع مصلحة الدعوة إلى الله، وفي الطريق إلى الغار- كما في الدلائل للبيهقي- يرى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من أبي بكر عجبًا يسير أمامه مرة، وخلفه مرة، وعن يمينه مرة، وعن شماله مرة، فيسأله النبي- صلى الله عليه وسلم- لِمَ هذا الفعل؟ فيقول: يا رسول الله؛ أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأتذكر الرصد فأمشي أمامك، وعن يمينك، وعن شمالك فلا آمن عليك، فيقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: يا أبا بكر؛ لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني؟ قال: نعم، والذي بعثك بالحق إن قتلت أنا فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة كلها. وضوح في الرؤية، وفهم وذكاء، وتلك سمات المؤمن. ويصلان إلى الغار، وينزل الصديق بالغار قبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستبرؤه إن كان به أذى كان به دون المصطفى- صلى الله عليه وسلم- ثم ينزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويتوسد وينام قرير العين، وهو الطريد الشريد؛ لأنه واثق بنصر الله- سبحانه وتعالى-. وهنا تبدأ أسرة أبي بكر بأعظم دور تقوم به أسرة في التاريخ، فها هي أسماء وعائشة، شابة وطفلة في بيت أبي بكر تقوم بما يعجز عنه من حملن أعلى الشهادات من نساء المسلمين اليوم. لماذا؟ لأنهما حملتا أعظم شهادة؛ وهي شهادة: أن لا إله إلا الله، فتربين عليها وتربين بها، يأتي أبو جهل إلى أسماء فيقول: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ فتقول: لا أدري بعزة المؤمنة، فيرفع يده فيلطم خدها لطمة يطرح بها قرطها من أذنها، لطمه الله بنار تلظَّى، ولم تخبره رغم ذلك، وتثبت ثبات الرجال الأقوياء، ولم يثنها ذلك عن القيام بدورها مع أختها عائشة، تلكم الطفلة التي لم تبلغ الثمان سنوات، في تلك اللحظة قامت أسماء تجهز الطعام، وتشق نطاقها لتربط الطعام، فتلقَّب بذات النطاقين، وتأخذ الطعام وتذهب به إلى المصطفى- صلى الله عليه وسلم- لتوصله إليه وإلى أبيها هناك. فلو كان النساءُ كمَنْ ذكرنا لفُضِّلت النساءُ على الرِّجالِ وما التأنيثُ لاسم الشمسِ عيبٌ وما التذكيرُ فخرٌ للهلالِ أما عبد الله بن أبي بكر أخوها أخو أسماء، ذالكم الشاب، فكان يأخذ أخبار قريش في النهار، وكان فطنًا ذكيًا لبقًا، وفي الليل يوصلها إلى المصطفى- صلى الله عليه وسلم- وإلى أبيه، فهو الإعلامي الصادق الأمين الذي تفتقر إليه الأمة في عصرها الحاضر. أما راعي أبي بكر- حتى راعي أبو بكر كان له دور- وهو عامر- رضي الله عنه وأرضاه- فلقد كان يمر بغنمه على المصطفى- صلى الله عليه وسلم- وعلى أبي بكر فيخفي آثار أسماء وعبد الله، ويسقي النبي- صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر من لبن الغنم، كل ليلة يفعل ذلك. تضحيات ومفاخر خالدات، لم تجتمع إلا لآل أبي بكر- رضي الله عنهم- ولذا كان لأبي بكر ولآل أبي بكر منزلة أنزلهم إياها صدقهم وتقواهم. روى أبو الدرداء -بإسناد حسن- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رآه يمشي أمام أبي بكر فقال: " يا أبا الدرداء؛ أتمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة؟ ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين خير من أبي بكر". تلك المكارمُ لا قعبانَ من لبنٍ شِيبا بماءٍ فعادُوا بعدُ أبوالا النبي- صلى الله عليه وسلم- لا زال في الغار، ووصل المشركون إلى الغار، أبو بكر يقول: لو أن أحدًا نظر تحت قدميه لرآنا، فيقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ لا تحزن؛ إن الله معنا. لقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حالة من الأمن والطمأنينة لم يصل إليها بشر في الأرض، وهو يرى نفسه بين عدوه، لا يحول بينهما إلا التفاتة واحدة، لماذا؟ لأنه واثق بنصر الله. ومن كان الله معه فمن يخاف! {وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} يا أيها الأحبة: إن الذي يتملى حديث الهجرة ويتأمله، يعلم أنها لم تكن مجرد نجاة من عدو، أو هروب من محنة، لا بل كانت فاتحة تاريخ جديد، وابتداء وجود للمسلمين، وقاعدة عظيمة آمنة للدعوة، وهي المدينة النبوية، وحين يراجع المرء حدث الهجرة، يلاحظ أن الذين اختارهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لتنفيذ المخطط من الشباب، ليس فيهم إلا كهل واحد؛ هو أبو بكر –رضي الله عنه- لقد كان –صلى الله عليه وسلم- بهذا يمثل القائد الفذ الذي يختار أقدر العناصر على تأدية الدور المطلوب، فيفجر طاقاتها، ويعطها ما يتناسب مع إمكاناتها، سواءًا أكانت الطاقات أطفالا؛ كجابر، وعائشة. أو رجالا، وفتيات؛ كأسماء، وعبد الله. فيؤدي كل واحد دوره، ولا يرضى- صلى الله عليه وسلم- لعملية الصحبة في الهجرة إلا السابق، إلا أصحاب السوابق، بل إلا إلى واحد منهم وهو أبو بكر- رضي الله عنه وأرضاه- ذلكم الكهل الذي يتصاغر الشباب والرجال أمام همته العظيمة. فهو حارس الطريق ومهيأ المقيل، ومعد الزاد، ومظلل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين تلفحه الشمس، يقول عمر: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر؛ يقصد ليلة الغار. ثاني اثنين إذ هما في الغار. هو الذي يبكي وقد رأى الطلب وراء النبي- صلى الله عليه وسلم- ويقول: أما والله ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك يا رسول الله. إن أية دعوة إلى الله –عز وجل- لابد أن يكون عمادها عنصر الشباب الحي المضحي، الذي لا يعرف الخوف والخور والوهن سبيلا إليه، رجالا كانوا أو نساءً. ولقد رأينا الفتاة المسلمة شريكة في البيعة والهجرة والإعداد والائتمان عن السر. إن مسؤولية إقامة دين الله في الأرض تحتاج إلى تضافر جهود الشباب مع الكهول مع الرجال والنساء والأطفال. مِنْ جابر الذي لا يستطيع أن يرمي بحجر لصغره، إلى أبي بكر شاب الكهول، من عائشة ذات الثمان سنوات، إلى أم عمارة تلكم العجوز الفدائية التي لطالما شاركت وذبت عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكأن باكورة تاريخنا تقول: إن الأمة في مجملها بشيبها وشبابها ورجالها ونسائها وأطفالها كلهم أصحاب رسالة، يساهمون في حملها ونشرها، والصبر على الأذى في تبليغها، إننا أمة رسالة ولا شك، وحين نتخلى عنها تتنزل بنا المحن والمصائب والنكبات، ورسالة أمتنا في الحياة هي الدعوة إلى الله –عز وجل- على المنهج الصحيح الصادق، والله -عز وجل- قد جعل وظيفة الأنبياء هي الدعوة إلى الله، ونحن أمناء الله على رسالته، ونحن مستخلفون لتبليغ رسالة الله، ونحن المكلفون بقيادة البشرية، في ظل عدالتنا يعبد الله، وفي ظل حضارتنا يكرم الإنسان في أرض الله، وكل وضع يجعل قيادة البشرية لغير الأمة المسلمة فهو وضع نشاز طارئ، تضج منه الأرض والسماء، ويأثم المسلمون حتى يعيدوا القيادة لهم {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} فأنتم أمة رسالة، بل أنتم شهود الله في أرضه، فأين الشهادة على البشرية؟ أين الشهادة على البشرية يا عباد الله؟ أين حملنا لمنهج الدعوة إلى الله؟ أصبحت الدعوة إلى الله وظيفة أفراد قلائل، ليست وظيفة الأمة في مجموعها ومجملها، أصبحت وظيفة عالم أو داعية أو موظف في الدعوة، فأين نحن من التكليف الرباني؟ { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} ألست من أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ ألست ترضى بالسير على خطى محمد- صلى الله عليه وسلم-؟ إن كنت كذلك فلابد لك أن يكون لك من دعوته نصيب على بصيرة أنا ومن اتبعني. صورة أخرى: في الترمذي بسند حسن أن عمر -رضي الله عنه- قال: ندب النبي- صلى الله عليه وسلم- للصدقة ذات يوم، فوافق ذلك مالا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا من الدهر، قال: فجئت بنصف مالي، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم مثله. وكانوا أهل صدق، ما يعرفون التباهي بغير الحق، ولا يعرفون الالتواء، كانوا أصفياء أنقياء أتقياء –رضي الله عنهم-. ويأتي أبو بكر- رضي الله عنه- بكل ماله لم يبق منه قليلا ولا كثيرًا، فيقول –صلى الله عليه وسلم-: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فيقول عمر: فقلت في نفسي: لا أسابقك في شئ بعدها أبدًا ". أيقن عمر واقتنع عمر بأن المرتبة الأولى وأن المركز الأول أصبح محجوزًا لأبي بكر -رضي الله عنه- ولا شك، فلينافس فيما بعد ذلك المركز. في الفضائل للإمام أحمد بسند صحيح، قال- صلى الله عليه وسلم- :" أتاني جبريل فأخذ بيدي، فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي، فقال أبو بكر: وددت يا رسول الله أني معك حتى أنظر إليه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أما إنك يا أبا بكر أول من تدخل الجنة من أمتي". صور عجيبة، وحقيقة بالتأمل يا أيها الأحبة: أبو بكر ينفق كل ماله، وعمر نصف ماله، وعثمان ينفق حتى يقول- صلى الله عليه وسلم-:" ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم". وأبو ضمضم لم يجد ما ينفق، فتصدق بعرضه على المسلمين، فسامح كل من سبَّه وشاتمه وآذاه. من منا -أيها الأحبة- يلقى الله وقد أنفق عشر ماله، مرة واحدة في حياته في سبيل الله، ومآسي المسلمين في كل مكان، وجراحات المسلمين في كل مكان، شباب المسلمين تعصف بهم الشهوة فلا يجدون من يعينهم على إعفاف أنفسهم، بيوت تصاب بالتخمة، وأخرى بجوارها تصاب بالضعف والهزال، مسلم ينام على الحرير، وجاره ينام على الكراتين، فأين الشعور بالجسد الواحد يا أيها المسلمون؟ القرآن للصدقة يندبنا، والسنة تندبنا، وحال المجتمع يندبنا، وفيض المال من فضل الله- سبحانه وتعالى- بأيدينا يندبنا. من مِنَّا يلقى الله وفي صحيفة عمله أنه تصدَّق بعشر ماله مرة واحدة في حياته؟ يا أحفاد أبي بكر؛ ويا أحفاد عمر وعثمان وعلي؛ سيروا كما ساروا لتجنُوا ما جَنَوا لا يحصد الحبَّ سوى الزُّرَّاعِ وتيقظوا فالسيلُ قد بلغ الزُبى يا أيها النَّومى على الأنطاعِ واسترجعوا ما فات من أمجادِكم ما دمتم في مقلةِ استرجاعِ يا خاطب العلياءِ إن صداقَها صعبُ المنالِ على قصير الباعِ صورة أخرى: أخرج البخاري عن أبي الدرداء قال: " كنت جالسًا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى ركبته، فلما رآه - صلى الله عليه وسلم- قال: أما صاحبكم فقد غامر -معنى ذلك أنه قد وقع في هول وخطر- فأقبل حتى سلَّم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: يا رسول الله؛ إن كان بيني وبين عمر شئ فأسرعت إليه؛ أي أخفقت عليه، ثم إني ندمت على ما كان مني، فسألته أن يغفر لي فأبى عليّ، فتبعته البقيع كله حتى تحرَّز بداره مني، وأقبلت إليك يا رسول الله. فيقول –صلى الله عليه وسلم- يغفر الله لك يا أبا بكر، يغفر الله لك يا أبا بكر. ثم ندم عمر حين سأله أن يغفر له فلم يغفر له، فخرج يبحث عنه حتى أتى منزل أبي بكر، فسأل: هل ثم أبو بكر؟ فقالوا: لا نعلم، فعلم أنه عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأقبل إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حتى سلم عليه، فجعل وجه النبي- صلى الله عليه وسلم- يتمعَّر حتى أشفق أبو بكر أن يكون من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى عمر ما يكره، فجثا أبو بكر على ركبتيه وقال: يا رسول الله؛ كنت أظلم، كنت أظلم، مرتين –يقول: أنا أظلم له، أنا البادئ بذلك- فيقول –صلى الله عليه وسلم- مبينًا مكانة أبي بكر، وفضل أبي بكر: إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ فما أوذي الصديق بعدها أبدًا. وعن ربيعة الأسلمي –بسند صحيح كما في الفضائل للإمام أحمد- قال: كنت أخدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أعطاني أرضًا، وأعطى أبا بكر أرضًا، وجاءت الدنيا فاختلفنا في عِدْق نخلة، قلت: في نصيبي، وقال أبو بكر: هي في نصيبي، فكان بيني وبينه كلام، فقال أبو بكر كلمة كرهها وندم عليها، فقال: يا ربيعة؛ ردَّ عليَّ مثلها حتى يكون ذلك قصاصًا، قلت: ما أنا بفاعل، قال أبو بكر: لتردنها أو لأستعدين عليك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقلت: ما أنا بفاعل، فانطلق أبو بكر إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول ربيعة: وانطلقت أتلوه فجاء أناس من قوم أسلم فقالوا: رحم الله أبا بكر في أي شئ يستعدي عليك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو الذي قال ما قال، فيقول ربيعة وقد عرف منزلة أبي بكر عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: اسكتوا هذا ثاني اثنين إذ هما في الغار، هذا ذو شيبة المسلمين، لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فيغضب لغضبه، فيغضب الله لغضبهما، فيهلك ربيعة، وانطلق أبو بكر وتبعته حتى أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول ربيعة: فحدثه الحديث فرفع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- رأسه وقال: يا ربيعة؛ مالك وللصديق؟ قلت: يا رسول الله؛ قال كلمة كرهها، وطلب مني أن أقتص فأبيت، فقال -صلى الله عليه وسلم- أجل، فلا ترد على أبي بكر، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر، قال: فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر، قال الحسن: فولى أبو بكر يبكي. أيها الأحبة: قفوا وتأملوا، كلمة ليست من فاحش القول تزلزل كيان أبي بكر، ويأبى إلا القصاص منه، فيا لله! ماذا يقول الفاحشون؟ ماذا يقول اللعَّانون؟ ماذا يقول الطعانون؟ ماذا يقول المغتابون؟ ماذا يقول النمَّامون؟ ماذا يقول الوالغون في أعراض المسلمين؟ ماذا يقول من لم يلغوا في أعراض المسلمين عامة، لكنهم ولغوا في أعراض المسلمين خاصة، في خواص المسلمين وهم العلماء؟ ثم يدعون أنهم على منهج أبي بكر وعمر وسلف المؤمنين. وكل يدعي وصلا بليلى وليلى لا تقرُّ لهم بذاك رويدًا على علمائنا أيها الأحبة، رفقًا بورثة الأنبياء، حسن ظن بالعلماء، معرفة لحق العلماء، احترامًا وتوقيرًا وتقديرًا للعلماء، علماؤنا هم زهرة الدنيا، ومشعل نورها في دربنا المتعثر، أنفسنا لأنفس العلماء فداء، وأعراضنا لأعراضهم وقاء، أقلُّوا عليهم لا أبًا لأبيكم من اللوم، أو سدوا المكان الذي سدوا. صورة أخرى: في صلح الحديبية صعب على المسلمين تلكم الشروط التي تُدوِّلت في ذلك الصلح، كما أورد ابن اسحق في السيرة، وكما في الصحيح، والتي من هذه الشروط: أن من جاء من قِبَل المشركين مسلمًا رُدَّ عليهم، عندها قال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين من جاء مسلمًا؟ وبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل مندوب المشركين في الصلح، جاء أبو جندل يرسف في قيوده فضرب وجهه وأخذ بتلابيبه أبوه، أبوه مشرك؛ وهو سهيل، أخذ بتلابيبه، وضرب وجهه، وقال: يا محمد هذا أول من أقاضيك عليه أن تردَّه، فقال –صلى الله عليه وسلم-: إنَّا لم نقضِ الكتاب بعد، قال: فوالله لا أصالحك على شئ أبدًا، فوافق –صلى الله عليه وسلم- على رجوع أبي جندل إلى المشركين، وأبو جندل يصرخ بأعلى صوته يا معشر المسلمين؛ أَأُردُّ إلى المشركين بعد أن جئت مسلما؟ ألا ترون ما لقيت؟ وقد عُذِّب في ذات الله عذابًا شديدًا، فازداد الناس غمًّا على غم، وهمًا على همٍّ، ثم قال -صلى الله عليه وسلم- كما روى قال لأبي جندل: " يا أبا جندل؛ اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، إنَّا قد أعطيناهم عهد الله ولن نغدر بهم". لم يتحمل عمر الموقف، رأى أن الموقف موقف ذلة، وما أدرك تحت وطأة غضبه أن رسول الله نبي يوحى إليه، وأن ذلك الصلح فتح من الله مبين، ولكن العباد يعجلون، الله لا يعجل لعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد. لم يستذله الأمر، فأبى أن يعلن عن نفسه عمر حتى يجد الحق الذي يبرد به ما بكبده، فأتى عمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله؛ ألست نبي الله حقًا؟ قال: بلى. قال: أو لسنا المسلمين؟ قال: بلى، قال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلاهم في النار، وقتلانا في الجنة؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطى الدَّنيَّة في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا؟ فقال –صلى الله عليه وسلم-: " إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري" قال عمر: أو لست كنت تحدثنا أنا نأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرتك أنه تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به " أخرجه البخاري. ثم أتى عمر أبا بكر- رضي الله عنه- ثم قال: أو ليس رسول الله؟ أو لسنا المسلمين؟ أو لسنا على الحق؟ أو ليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟ قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وقد استحق أن يكون صديقًا-: يا عمر؛ إنه رسول الله، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، الزم غرزه حتى تموت، فوالله إنه على الحق. أشهد أنه رسول الله، فيقول عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله، وأنا أشهد أنه رسول الله، يقول عمر: والله مازلت أتصدق وأصلي وأصوم وأعتق مخافة محاورتي واعتراضي على كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وفي صحيح البخاري يقول: ولقد عملت لذلك والله أعمالا؛ يعني أعمالا صالحة عظامًا. أحبتي في الله: ليست الهدنة أو الصلح عن ضعف كما يُظَن، بل هي من موطن القوة، بل هي من الند للند، من كانوا يختفون بإسلامهم أصبحوا يفاوضون. حاول كفار قريش أن يثنوهم عن دخول مكة بالإرهاب والتخويف، ثم وجدوا أنفسهم مرغمين مسوقين إلى المفاوضات. إن هذا انتصار في حد ذاته، وإنه ليدل على عظمة القيادة النبوية، التي هي أسوتنا وقدوتنا، التي تسيطر على الموقف، وتواجه كل طارئ بما يناسبه، إنها لتدل –أيضًا- على عظمة الصف المسلم الذي بدأ أمام عدوه بأعلى مستوى من الانضباط والطاعة والاستعداد للفداء. وإن حصل ما يحصل من المواقف التي تستثير النفوس كموقف أبي جندل. إننا نحن الدعاة إلى الله، ونحن طلبة العلم اليوم، مدعوون إلى أخذ أنفسنا بالتربية النبوية، واتهام آرائنا أمام النصوص، مدعوون إلى أن نجاهد أنفسنا حتى نقترب من هذه القدوات السامقة السامية لتكون قاعدة صلبة منضبطة، تحارب حين يحارب وليها الصالح، وتسالم حين يسالم طاعة في المعروف، في اليسر والعسر والمنشط والمكره، عندها نؤهل للدعوة إلى الله، ثم للتمكين في الأرض، ونحقق موعود الله بنصره وتأييده {وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}. صورة أخرى: في يوم الاثنين من ربيع الأول من العام الحادي عشر للهجرة، وفي ضحى ذلك اليوم فاضت أطهر روح في الدنيا من أشرف جسد، وفي ضحى ذلك اليوم خرج أكرم إنسان في هذا الوجود من الدنيا كما جاء إليها، لم يترك مالا ولا متاعًا، وإنما ترك هداية وإيمانًا وشريعة خالدة ما تعاقب الليل والنهار، وترك أمة هي خير الأمم ما تمسكت بنهجه وطريقته، وشاع الخبر في المدينة كأفجع ما يكون الخبر، وأظلمت سماء المدينة، وضجَّت بالبكاء، وأغلقت القلوب بحزنها، وذرفت العيون بدمعها، وليس لعين لم يفض ماؤها عذر، ضاقت على المسلمين أنفسهم، وتبدلت الأرض فما هي بالأرض التي يعرفون، يقول أنس: ما رأيت يومًا كان أحسن من يوم دخل فيه علينا المصطفى- صلى الله عليه وسلم- المدينة، لقد أضاء منها كل شئ، وما رأيت يومًا أظلم من يوم مات فيه المصطفى- صلى الله عليه وسلم-. أما فاطمة -رضي الله عنها- فكانت تقول: يا أبتاه أجاب ربًا دعاه، يا أبتاه إلى جنة الفردوس مأواه، ثم تقول بعد دفنه: يا أنس؛ أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- التراب. فلا والله ما تسمع بعدها إلا النشيج والنحيب، ولسان حال أنس: ما طابت –والله- ولن تطيب، ولكنه امتثال لأمر الحبيب، والله ما دفن حتى أنكرنا أنفسنا. أما الفاروق فأذهله الخبر عن صوابه؛ فصار يتوعد وينذر، ويشهر السيف ويقول: ما مات لكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى وليرجعن، فليقطعن أيدي وأرجل رجال زعموا أنه مات. ويأتي أبو بكر- رضي الله عنه وأرضاه- فيدخل المسجد فلم يكلم أحدًا حتى دخل على عائشة ميمِّمًا وجهه نحو رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو مسجىً ببرد، فيكشف عن وجهه الشريف ثم يكب عليه يقبله ويبكي، ويقول: بأبي أنت وأمي ما أطيبك حيًا، وما أطيبك ميتًا، ثم خرج وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس على أبي بكر فقال: أما بعد، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} يقول ابن عباس: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس فلا أسمع بشرًا إلا يتلوها، أما عمر فيقول –كما في صحيح البخاري-: والله ما إن سمعت أبا بكر يتلوها حتى هويت إلى الأرض ما تقلني قدماي، وعلمت أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قد مات، ذلك موقف أبي بكر –رضي الله عنه وأرضاه- مع نبيه وحبيبه، وذلك موقف الصحابة جميعهم. والله لولا الإيمان الذي رجح بإيمان الأمة، ما كان لأبي بكر أن يقفه. معذورون صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن الخطب جسيم، والمصيبة عظيمة، قد كان- صلى الله عليه وسلم- كل شئ لهم في حياتهم، كان حاكمهم وحبيبهم وأباهم وأخاهم وقائدهم ومربيهم ومنقذهم وهاديهم، ففقدوا كل ذلك بساعة من نهار، فليهنأ الصديق إذ اختص بذلك الموقف، ومعه لم يكن يضعف وهو اللين الرقيق البكاء الحنون، إنه الإيمان الذي وقر في قلبه، فصدقه حيًا وميتًا. قال في حياته: إن كان قال فقد صدق، وقال بعد موته بلسان حاله: إن كان مات فقد بلغ وصدق. ولا ننسَ موقف الصحابة ووقوفهم عند كتاب الله يوم سمعوا الآية من فم أبي بكر -رضي الله عنه- صدقوا، وآمنوا، وثبتوا، وأيقنوا. كيف لا وهم خير القرون؟ بل هم تربية محمد –صلى الله عليه وسلم-. أحبتي في الله: إن مصاب الأمة بفقد النبي- صلى الله عليه وسلم- لا يعدله مصاب، فمن أصابته مصيبة فليتعزى في مصيبته بفقد النبي- صلى الله عليه وسلم-، ووالله ما لنا من عزاء إلا أن نمضي على نهجه وشرعته، فهي حية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولابد أن نتذكر عند ذكر موته وصاياه جميعها، ونخص منها وصاياه الأخيرة الثمينة، وأعظمها خشيته -صلى الله عليه وسلم- على أمته أن تنصرف عن عبادة الله إلى عبادته هو -صلى الله عليه وسلم- أو عبادة غيره. فيقول -صلى الله عليه وسلم-: " لا تتخذوا قبري وثنًا يعبد، لا تتخذوا قبري وثنًا يعبد". يريد لنا سلامة العقيدة، وتخرج ثمرة هذه الوصية واقعًا مطبق في قول أبي بكر ولما يدفن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد، في قول أبي بكر: " من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت". فإلى دعاة الأموات من دون الله، وإلى رواد الأضرحة يرجون منها كشف الكربات، وإلى المستغيثين حتى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- نقول: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" ومن وصاياه -صلى الله عليه وسلم-: الصلاة الصلاة ، فهلا وعينا هذه الوصايا من صاحبها القائل :" كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى". كان شغله الشاغل –صلى الله عليه وسلم- سلامة الصف الذي لا يمكن أن يسلم إلا بسلامة العقيدة، فلابد أن يبقى عند الدعاة إلى الله في الأرض همُّ هاتين القضيتين: سلامة العقيدة، يتبعها بالتالي سلامة الصف، ولعل آخر نظرة ألقاها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في فجر يوم وفاته قد أثلجت صدره وهو يرى أمته صفًا واحدًا، ورأى أبا بكر يصلي بهم، فيتبسم –صلى الله عليه وسلم- مشيرًا إلى غبطته بوحدة أمته وراء أبي بكر –رضي الله عنه- وتذهب اللحظات وما يطلع فجر اليوم الثاني إلا والمسلمون قد جعلوا الصديق خليفة لهم بعد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ليكون نموذجًا فريدًا من خريجي مدرسة محمد –صلى الله عليه وسلم- فيا له من نموذج! ويا لهما من لحظتين متضادتين؛ لحظة وداع مؤثرة تفت الأكباد، وتمزق القلوب، ولحظة أخرى هي لحظة تولي الصديق أمر الأمة، التي أثلج الله بها صدور المؤمنين يوم ولَّى عليها خيرها! فله الحمد والمنة والفضل أولا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا. ويأبى الله والمؤمنون إلا أبي بكر، صعد المنبر ليلقي أول خطاب على الأمة، فجالت في نفس الصديق خواطر، وجرى على ذهنه أمور، ذكره المنبر بصاحب المنبر –صلى الله عليه وسلم- تذكر حبيبه، وتذكر صاحبه وتذكر معلِّمه، فانصدع باكيًا، وكفكف دموعه، وأعلن مبدأه العظيم في كلماته القليلة التي لا تحتاج إلى تعليق، وإنما جدير بكل من ولي من أمر المسلمين شيئًا، جدير بالمدرس بمدرسته، والموظف بوظيفته، والرجل في أهله، وكل من ولي من أمر الأمة قليلا أو كثيرًا أن يتأمل هذه الكلمات؛ كلمات الصديق التي يقول فيها -كما في تاريخ ابن كثير بإسناد صحيح-: أيها الناس؛ إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد إلا خذلهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. دستور عظيم. فما القويُ قويًا رغمَ عزَّتِه عند الخصومةِ والصديقُ قاضِيها وما الضعيفُ ضعيفًا بعد حجته وإن تخاصم واليها وراعيها بدأ أبو بكر خلافته بتطبيق ذلك المنهج الذي أخذه من النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ بدأ ببعث جيش أسامة وكان –صلى الله عليه وسلم- قد عقد اللواء لأسامة وهو لم يجاوز الثامنة عشر، أمر الجيش بالتوجه إلى الشام في وقت ارتدت فيه بعض قبائل العرب، وعظم الخطب، ونجم النفاق وسار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية؛ لفقد نبيهم وكثرة عدوهم، فأشار الناس على الصديق بألا يبعث جيش أسامة، وأن يؤجل ذلك، ومن جملة من أشار بذلك عمر. فوثب أبو بكر وثبة الأسد، وأبى أشد الإباء، وقال: والذي نفسي بيده لا أحل عقدة عقدها رسول الله، والله -الذي لا إله إلا هو- لو ظننت أن الطير تخطفني، وأن السباع من حول المدينة، و أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين ما رددت جيشًا وجهه رسول الله، وما حللت لواءًا عقده رسول الله، والله لو لم يبق في القرى غيري لأنفذته، لسان حاله: أفأطيع رسول الله حيًا وأعصيه ميتًا؟ فيا للحزن! ويا للاتباع! أسد يقدم في ليل الوغى رحمة الله على ذاك الأسد استعرض الجيش، وأمره بالخروج رغم الأعداء، ورغم إحاطة الأعداء بموطن الدعوة، وبموطن الرسالة، ومع ذلك يخرج طاعة لله وطاعة لرسوله -صلى الله عليه وسلم- ويبلغ من تكريمه لأسامة -رضي الله عنه- أن خرج في توديعه ماشيًا، وأسامة راكبًا، يقول أسامة: لتركبن أو لأنزلن، فيعلن أن من تواضع لله رفعه، فيقول أبو بكر: والله لا نزلت ولا أركب، وما عليَّ أن أغبِّر قدميَّ هاتين ساعة في سبيل الله. لقد كان أبو بكر مسددًا رشيدًا، فإخراجه لجيش أسامة حقق للأمة مصالح عظيمة، فما مر الجيش بحي من أحياء العرب إلا أرعبهم، وأثبت أن الضعف لم يتسرب إلى الأمة بعد وفاة نبيها، تقول قبائل العرب التي ارتدت: ما أخرج أبو بكر الجيش إلا لقوة ومنعه عنده. اتجه أسامة بجيشه إلى البلقاء ورجع من هناك بعد سبعين يومًا، بعد أن قضى على كل من وقف بوجهه من أعداء الإسلام، رجع مظفرًا منصورًا، قد انتقم للمسلمين ولأبيه، وأرضى ربه، وأرضى نبيه، وأرضى المسلمين، وكل ذلك –والله- ثمرة للاتباع، أطاع أبو بكر ربه بإطاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله الرعب في قلوب أعداء الله فكان النصر الأول على الروم يشهد بعظمة الصديق، وسداد رأيه، وصلابة موقفه وحزمه، وكل ذلك كما قلت ثمرة للاتباع بمثل هذه المواقف ثبَّت الصديق أركان الدولة، وعزز هيبة المسلمين. لا تعرضنَّ بذكرنا مع ذكره ليس الصحيحُ إذا مشى كالمُقْعدِ وترتد كما قلنا بعض قبائل العرب بعد أن ظنوا أن شوكة الإسلام انكسرت بموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لكن أبا بكر علَّم الناس أن الإسلام لا يموت، ولا ينتهي، حتى وإن مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ثقل الأمر على الصديق إذا ارتدت قبائل العرب، ففي وقت من الأوقات لم تقم الجمعة إلا في مكة والمدينة. تقول عائشة: "نزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها، لكنه طار بحظها ". أعلن الحرب على المرتدين، فقال عمر - رضي الله عنه- مجتهدًا: ارفق بهم وتألفهم. أتقاتل الناس وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فمن قالها عصم مني ماله ودمه، إلا بحقه وحسابه على الله ؟ إنهم يشهدون أن لا إله إلا الله يا أبا بكر، فغضب أبو بكر- رضي الله عنه- غضبة لله وقال قولته الشهيرة: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب أجبار في الجاهلية خوَّار في الإسلام، رجوت نصرتك فجئتني بخذلانك، إنه قد تم الدين، وانقطع الوحي، والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم عليه. أيها الأحبة؛ لقد عامل الصديق مانع الزكاة كالمرتد تمامًا، وهذا من فقه أبي بكر –رضي الله عنه- فإنكار شريعة من الشرائع كفر وخروج من الإسلام يستحق صاحبه أن يقاتل. انشرح صدر عمر والمؤمنون لهذا الموقف، فمضى ذالكم الجيل الرباني يلاحق المرتدين في أوكارهم، يدك عروشهم، يفل جيوشهم، حتى يعودوا للإسلام أو يلقوا مصارعهم كافرين، وكان له ذلك. أحبتي في الله؛ أرأيتم إلى الحزم والعزم في تنفيذ أوامر الله وأوامر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من الصديق؟ إنها –والله- الكلمات الصادقة التي تخرج من القلوب الصادقة كالصواعق على أعداء الله، وكالبلسم على قلوب أولياء الله. والله –يا أيها الأحبة- إن الإنسان وهو يسمع تلك الكلمات التي سمعتموها من أبي بكر آنفًا ليذكره ذلك بصفحة مضيئة من تاريخنا –أيضًا- ومن صحابي آخر؛ ألا وهو خالد –رضي الله عنه- كما في تاريخ ابن كثير يوم يقول ماهان أحد قادة الروم: قد علمنا ما أخرجكم من بلادكم أيها العرب إلا الجوع، فهلموا نعطي كل واحد منكم عشرة دنانير وارجعوا، فإذا كان كل عام بعثنا لكم مثل ذلك، فقال خالد –بعزة المؤمن الذي يثق بنصر الله، والذي أرعب الناس بذلك الدين الذي يحمله في قلبه-: لا والذي نفس خالد بيده: ما خرجنا لذلك غير أننا قوم نشرب الدم، وبلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم، فجئنا لذلك ولن نرجع حتى نشرب من دمائكم، أو كما قال، فألقى الله الرعب في قلوبهم، فنصر الله خالدًا عليهم. خالد الذي يحاصر بلدة من البلدان أشهرًا وتستعصي عليه هذه المدينة فيكتب كتابه لقائدها، رسالة لقائدها من قلب صادق، تخرج الكلمات منه صواعق وقذائف، يقول لذلك القائد الرومي –وهو قائد بلدة قِنِّسرين-: من خالد بن الوليد إلى قائد الروم في بلدة قنسرين. أما بعد، فأين تذهبون منا؟ فوالله لو صعدتم إلى السحب لأصعدنا الله إليكم أو لأمطركم إلبنا، فما كان من ذلك القائد إلا أن رعب وفزع، وألقى الله الرعب في قلبه، فقال: اخرجوا وافتحوا أبواب المدينة فلا طاقة لنا بهؤلاء. خالد الذي يقال له في معركة اليرموك التي قابل فيها الروم وعددهم مائتان وأربعون ألفًا في مقابل أربعين ألفًا مع خالد؛ ربع مليون نصراني قريبون من قياداتهم، ومن مصادر تموينهم، ومن كل شيء، وأربعون ألفًا من المسلمين بينهم وبين أرض الخلافة صحاري شاسعة، يبيد فيها البيد، ويضيع فيها الذكي والبليد، يقال لخالد في هذه الظروف الحرجة الحالكة القاسية: ما أكثر الروم! فيقول خالد مغضبًا: " اسكت، بل ما أقلهم، إنما يكثر الروم بنصر الله، ويقلون بخذلانه، وددت أن الروم أضعفوا لنا العدد، وأن الأشقر برء من وجعه، فرسه قد أصيب بوجع في حافره فما أصبح يمشي كما ينبغي أصبح يضلع وهو يمشي". الله أكبر يا أيها الأحبة. إن الإنسان ليقف أمام هذه فيقول: قد وقعت هذه؟ نقول: والله لولا النقل الصحيح ما صدقنا ذلك؟ في عالم القوى المادية المؤمنة، وربع مليون نصراني لا يساوون ضلعًا في رجل فرس خالد -رضي الله عنه- لماذا؟ لأنه عَلِمَ عِلْمَ يقين أن الله سينصره. ووالله لا نصر لنا في حياتنا إلا بتطبيق منهج الله في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا، حتى نرى الله -سبحانه تعالى- يسيِّر أحداث الكون بقدرته لصالح تحقيق أهداف المؤمنين التي تتمثل في هدف واحد؛ وهو تحقيق العبودية لله وحده في الأرض لا شريك له. انظروا كيف تصبح كلمات أولياء الله قدرًا يجري في هذا الكون، لا يثبت أمامها شيء بإذن الله، ينطقون بالكلمة فيطوع الله لها كل شئ، فتبلغ مبلغًا عظيما لا يقدره إلا الله - جل وعلا-. أحبتي في الله؛ إن الدين الذي قاتل به خالد وأصحابه - رضوان الله عليهم- محفوظ غض طري بين أيدينا، نقاتل به مدى الحياة متى ما شئنا فننصر {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أيها الأحبة في الله؛ هكذا كان أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لا يثبت لهم العدو فواق ناقة عند اللقاء. نحن تحت ضغط الحياة المادية قد نعتبر هذا الكلام خيالا، لكن حتى الأعداء قد شهدوا بذلك، هاهو هرقل وهو على أنطاكية كما في تاريخ ابن كثير يقول لجنده وقد قدمت الروم منهزمة: ويلكم، أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم، أليسوا بشرًا مثلكم؟ قالوا: بلى، قال: أأنتم أكثر أم هم؟ قال: بل نحن أكثر منهم أضعافًا في كل موطن، قال: فما بالكم تنهزمون؟! فقال شيخ من عظمائهم: أأصدقك؟ قال: نعم، قال: لأنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصفون فيما بينهم، أما نحن فنشرب الخمر، ونزني، ونرتكب الحرام، وننقض العهد، ونغب ونظلم، ونأمر بالسخط، وننهى عما يرضي الله، ونفسد في الأرض، قال: هرقل: لقد صدقتني، ولقد أتانا منهم ما لا طاقة لنا به. هكذا كان الجيل الأول من أمة الإسلام؛ العبرة عندهم بقوة العقيدة لا بكثرة العدد ولا العُدَّة، إذ لا قيمة لسلاح في يد الجبان. شهد الأنامُ بفضلهم حتى العِدا والفَضلُ ما شَهِدت به الأعداءُ إنهم من هم؟ عبَّادُ ليل إذا جن الظلامُ بهم كم عابدٍ دمعه في الخد أجراه وأُسْدُ غابٍ إذا نادى الجهادُ بهم هبوا إلى الموتِ يستلقون رُؤْيَاه فما حالنا أيها الأخوة في الله؟ نسأل الله أن يمن علينا بنعمة منه؛ توقظ قلوبنا. مع الكفار استسلام وضعف وذلة وهزيمة، وبيننا أسود أشاوس أشداء جلداء، أسدٌ عليَّ، مع العدو نعامة! فيا لله للمسلمين! يا لله للمسلمين! يا لله للمسلمين! ألم يبق أوسٌ آخرون وخزرجُ ألم يبق للإسلامِ جيشٌ عرمرمُ فغاية ما نبدي من الجهدِ أننا نَسُبُ طواغيتِ اليهودِ ونشتمُ إذا اتَّسَمُوا باللؤمِ والغدرِ فالذي يفاوضهم منا أخسُ وألئمُ فيا أمة الإسلام إن شئت عزةً فإن كتاب اللهِ هادٍ مقوِّمُ وليس لكم شيءٌ سواه يعزكم ويحفظكم من كل سوءٍ ويعصم ومع ما نحن فيه أيها الأحبة، إلا أن هناك بشائر عظيمة، ومع ما نحن فيه فإنَّا نقول: اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلُك بالبلجِ في قمة الظلام يولد النور، ولا تزال طائفة على الحق منصورة حتى يأتي أمر الله وهي على ذلك، وإني لأرجو الله أن نكون من أهل هذه الطائفة. وإن عرف التاريخ أوسًا وخزرجًا فلله أوس قادمون وخزرج صورة أخرى: وحلَّت سكرات الموت بأبي بكر- رضي الله عنه وأرضاه- وقد عهد بالخلافة إلى عمر- رضي الله عنه وأرضاه- قائلا -واضعًا دستورًا معينًا-: إن عدل فذاك ظني فيه، وعلمي به، وإن بدَّل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. جاءته السكرة -رضي الله عنه- بعد أن قدم للرسالة والرسول والأمة ما قدم؛ حتى قال فيه المصطفى –صلى الله عليه وسلم- كما روى الترمذي وقال: حسن غريب " ما من صاحب يد إلا وقد كافأناه عليها، إلا أبا بكر فإن له عند الله يدًا يكافئه بها يوم القيامة" ثم يقول أبو بكر وهو في سكرات الموت لابنته عائشة – كما في كتاب الخلفاء للذهبي-: أما إنَّا قد ولينا أمر المسلمين فلم نأكل درهمًا ولا دينارًا، ولكنا أكلنا خشن طعامهم في بطوننا، ولبسنا خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا شيء من فيء المسلمين، فانظروا ما زاد من مالي فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي؟ فما تَرِكَة ما كانت ميزانية الأمة تحت يديه؟ اسمعوا، خلَّف عبدًا حبشيًا، وبعيرًا كان يسقى عليه، وعباءة لا تساوي خمسة دراهم بعث بها عائشة إلى عمر، فلما جاءته بكى عمر حتى سالت دموعه، ونشج وهو يقول: رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده، فيقول الصحابة: يا عمر؛ ردها على عياله؛ فهم أحوج لها. قال عمر: والذي بعث محمدًا بالحق نبيًا، لم يكن ليخرجها عند الموت وأردها على أهله بعد الموت، ولكن أهله أهلي، وعياله عيالي؛ أو كما قال –رضي الله عنه وأرضاه-. وهكذا أسلم الروح أبو بكر إلى باريها. فأُسْكِتَ فم لطالما جلجل بذكر الله، ودعا إلى الله، وأغمضت عينان لطالما سهرتا وبكتا من خشية الله، واستراحت يدان لطالما دافعت وجاهدت مع رسول الله. ودع الصديق الأمة بعد أن جعل من نفسه مثلا للداعية والمجاهد العابد والزاهد والخليفة والوالي، جاهد في الله حق جهاده طيلة أيام رسول الله، ثبت مع النبي –صلى الله عليه وسلم- في أحلك المواقف؛ في أحد والأحزاب وحنين وجميع المشاهد. ولما لحق الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى يوم وُسِّد الأمر إليه لم يَحُدْ عن منهاج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدر أُنْمُلَة، فحقق في سنتين ونيف ما لا يفعل في مئات السنين، والبشر لا تقاس بأعمارها لكن بهممها وأعمالها. وهكذا طويت صفحة مشرقة في تاريخ الإسلام، فرضي الله عن من خطها وأرضاه، وجزاه الله خير ما جازى خليفة عن رعيته، بل عن أمته المسلمة إلى يوم القيامة، قد حفظ الله به الدين، وأعز به الحق المبين، ونصر به الإسلام والمسلمين. أيها المسلمون؛ أولئك آباؤنا، وهاهم أجدادنا فمن نحن ؟ أبوابُ أجدادِنا منحوتةٌ ذهبًا وها هياكلنا قد أصبحت خشبا من زمزم قد سقينا الناسِ قاطبةً وبعضنا اليومَ من أعدائنا شَرِب لكن إني أبشر هذا الكونَ أجمعه أنا صحونا لنصبح للعُلا عجبا بفتيةٍ طهَّر القرآنُ أنفسهم كالأُسْد تزأر في غاباتِها غضبا عافوا حياة الخَنَا والرِّجس فاغتسلوا بتوبةٍ لا ترى في صفِهم جُنبا أنتم كهم، ومن يشابه أَبَه فما ظلم. فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرامِ فلاحُ
|
#2
|
|||
|
|||
بسم الله الرحمن الرحيم
بارك الله فيك اخي مجدي جزاك الله خير على المجهود الطيب في نقل وعرض الموضوع السابق وحفظ الله الشيخ على القرني وامده بالصحه و العافية والحمد لله رب العالمين
|
#3
|
|||
|
|||
أخي في الله نجم2 (( مشرف المنتدى الإسلامي )) شكرا لمرورك وجزاك الله خيرا وإلى الأمام إن شاء الله تعالى
|
#4
|
|||
|
|||
بارك الله فيك
ويزاك الله خير
|
#5
|
|||
|
|||
إيمان القلوب جزيت خيرا وشكرا لمرورك
|
#6
|
||||
|
||||
جزاك الله خير على الموضوع
|
#7
|
|||
|
|||
وأنت جزاك الله خيرا يا سيف العدالة على مرورك
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
وصف الرسول صلى الله عليه وسلم من الاحاديث | ماء القمر | المنتدى الإسلامي | 13 | 11-12-06 05:25 AM |
((الألفاظ المنهية والألفاظ الجائزة)) من 56 الى 105 سؤالاًً مجموعة رقم (( 2 )) | ابوعلي القصيمي | المنتدى الإسلامي | 1 | 28-02-05 05:22 PM |
بيان من تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين حول قتل مصور وكالة رويترز//تسجيل صور+فلم فديو | عبد24 | منتدى الأناشيد و التسجيلات الإسلامية | 2 | 09-01-05 06:30 PM |
100 سنه ثابته عن النبي صلى الله عليه سلم ؟ احفظها وانشرها ؟ تفضل بالدخول | المهذب | المنتدى الإسلامي | 6 | 31-08-04 06:27 AM |
راديو قصيمي نت | مطبخ قصيمي نت | قصص قصيمي نت | العاب قصيمي نت |