العاب اون لاين: العاب بلياردو | العاب سيارات | العاب دراجات | العاب طبخ | العاب تلبيس |العاب بنات |العاب توم وجيري | العاب قص الشعر |
للشكاوي والاستفسار واستعادة الرقم السري لعضوية قديمة مراسلة الإدارة مراسلتنا من هنا |
|
|
|
أدوات الموضوع | تقييم الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#21
|
|||||||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||||||
ودمتِ بحفظ الله ورعايته
|
#22
|
||||
|
||||
القصة السادسة
بعنوان: الانهيار بقلم عفيف شليوط دعاهم الليلة الى البيت بشكل مفاجىء ، وأصر أن يحضر جميعهم في الميعاد . لم يعتادوا على مثل هذه الدعوات المفاجئة ، انتظروا حلول المساء بفارغ الصبر لمعرفة سر هذه الدعوة غير العادية . مع حلول المساء توافد الواحد تلو الآخر ، وانتظروه في غرفة الاستقبال . أما هو فكان يجلس في غرفته طالباً عدم إزعاجه ، ولم يكن أحد يعرف ماذا يفعل وبماذا يفكر ، إلا أنهم شعروا بخطورة الموقف . عندما إكتمل النصاب القانوني ، دخل عليهم بخطوات بطيئة باردة ، نظر إليهم واحداً واحداً وكأنه يودعهم ، ثم دعاهم إلى تناول وجبة العشاء . جلسوا وهم يراقبون تصرفاته وحركاته ، كلهم كانوا يتوقون الى معرفة سر ما يجري الآن وهنا . وكان يأكل بصمت وهو ساهم يفكر ، كان حزيناً مطأطىء الرأس ، حزنه أفقده حيويته التي إعتادوا عليها ، لكن لم يتجرأ أحد على سؤاله عن سبب الدعوة أو الحزن أو التغيير . وقف بعد أن أنهى تناول الطعام وشرع في الحديث من دون مقدمات :" لا شك أنكم تنتظرون أن أتكلم لأخبركم سبب الدعوة . إسمعوا .. أنا أمّنت لكم مستقبلاً مضموناً وحياة رغيدة ، لم تعرفوا معنى الشقاء والعمل الصعب . كنت أقرر وحدي وأنتم تتمتعون بنجاحاتي من دون أن تتحملوا نتائج أخطائي . والآن يؤسفني أن أقف هذا الموقف ، بعد أن كنت دائماً الشخص القوي الذي طالما إحتجتم إليه . أقف اليوم لأخبركم بأمر خطير ، صدمة ربما لم تتوقعوها ، ولكن لا مهرب من قول الحقيقة ". تصبب العرق من جميع الحاضرين ، وبدا عليهم الخوف من المجهول . أما هو فتابع كلامه وكأنه جهاز محوسب يزودنا بالمعلومات دون إحساس أو مشاعر . " الآن ، أنا لست أنا ، وأنتم لستم أنتم . يجب أن يحدث تغيير جذري في حياتنا ... يجب أن تشمروا عن سواعدكم وتعملوا .. المصنع لم يعد قادراً على تأمين الحماية لنا .. المصنع .." ، وهنا تحرك الإنسان في داخله فأجهش بالبكاء . لم يصدق أحد ما يشاهد وما يسمع ، إنه يبكي ، يجهش بالبكاء ، إنه انسان مثلنا تماماً . ولكن لم يتجرأ أحد أن يسأله ماذا حصل للمصنع ، لم يتجرأ أحد أن يتكلم ، الصمت هو الذي سيطر على الموقف في تلك اللحظات . وقف فوقفوا ، دخل الى غرفته دون أن يتكلم ، أما هم فعادوا وجلسوا بصمت ، لم يتكلموا ، أخذ كل منهم يفكر بما قاله ، وكأنهم لا يدرون ما حصل ، أو بالأحرى أرادوا أن لا يعرفوا . كان ذلك المساء بارداً . كانت الريح في الخارج تتوعد ، لم يجرؤ أحد في الداخل أن يخرج لمواجهتها . كان الهدوء داخل غرفته مخيفاً . كانت النار في داخلهم تلتهمهم ، لكن لم يجرؤ أحدهم أن يدخل إليه للمواجهة . وأخيراً نطق أحدهم ، وهذه المرة كانت هي .. الأم ، فقالت :" كنت أشعر دائماً أن هذا اليوم لا بد أن يأتي ، كنت أنتظره ، توقعته ، إنه كان يعمل جاهداً لتأجيل قدومه ، ولكنه لم يدرك جيّداً أنه لن يمنع قدومه ". هذا كان أول خنجر يدخل في نعشه . في صباح اليوم التالي إنتظروه لتناول الطعام ، إلا أنه لم يخرج . نظر أحدهم الى الآخر على أمل أن يقوم أحدهم بالتطوع للدخول الى غرفته ، لكن الرؤوس كانت تنزل الى الأسفل لإخفاء العيون من نظرات العيون الأخرى . البنت الصغرى رفضت أن تلحق بربعها ، دخلت الى غرفة الطعام ، غابت برهة من الزمن وعادت تحمل صينية وضعت عليها ما تيسر من طعام واتجهت الى باب غرفته . الأعين تراقب حركاتها بصمت قاتل ، وقفت أمام الباب ، نظرت إليهم ثم الى الباب ، قرعت الباب . إنتظرت ، إنتظروا ، فلم تسمع ولم يسمعوا رداً . لملمت كل ما لديها من شجاعة وفتحت الباب .. حاول الجميع أن يحبس أنفاسه لئلا يفقد سماع تنهيدة ، همسة ، أو أي صوت آخر مستحدث أو لم يسمعوه من قبل . أغلقت الباب وغابت . إنتظروها . إنتظروها وانتظروها وانتظروها دون أن يبدي أحدهم إنتظاره لئلا يلحظ ذلك الآخرون . نظرات تتجول في أنحاء المكان دون أن يصطدم بعضها ببعض ، ومن دون أن تقول شيئاً . يبدو أن هذه العيون أتقنت جيداً فن الهروب الأزلي . خرجت والخوف بعينيها تتأمل الحاضرين .. ثم غابت مرة أخرى في غرفة الطعام . لم يسألها أحد عمّا يحدث في الداخل ، إنهم يستمرون في ممارسة لعبة الهروب الأزلي بواسطة أعينهم . إنه في الداخل يتململ . أخذ يشعر بأن جسمه يتقلص . إنه يحاول أن يختفي ويجتهد في التقلص أكثر فأكثر لعله يتلاشى ، أو يصبح غير مرئي ليرتاح من النظرات التي تطارده في خياله . جسمه أصبح بحجم كفة اليد ، إختفى رأسه ويداه ، ورجلاه تحولتا الى أرجل صغيرة ورفيعة ، وبدأت تنمو على ظهره مادة صلبة تماماً كالسلحفاة . وفجأة دخلت عليه ابنته الصغرى مرة أخرى ، فأدخل جسمه داخل قوقعته الجديدة خجلاً وربماً خوفاً ، لأنه لم يعد أباها ، بل أصبح جسماً غريباً أقرب الى السلحفاة منه الى الإنسان . ما أن رأته على هذه الحال حتى صرخت من الرعب ، وحاولت الهرب من الغرفة ، ولكنها تذكرت أن هذا الشيء هو والدها . فاقتربت منه رويداً رويداً ، أمسكت به بإشمئزاز في البداية ، ثم بحنان . في الخارج استقبلوا الخبر بذهول مجبول بحيرة ، فمن سيتابع المشوار ومن سيتحمل المسؤولية من بعده . والسؤال الأكبر ماذا سيجيبون السائلين عنه في العمل والعارف والأقارب . قرروا إغلاق البيت ، إسدال الستائر ، عدم الرد على الهاتف وقطع كل إتصال مع الخارج الى أن يتوصلوا لإيجاد حل لهذه الأزمة . هل يحتاج هذا الجسم الغريب الى غذاء ؟ جميعهم حسموا الموقف بأنه لا يحتاج . أما البنت الصغرى فقالت بثورة غاضبة :"طلا إنه يحتاج .. إنه كائن حي". دخلت إليه ، حاولت أن تطعمه لكنها لم توفق قي ذلك ، فلم تجد له فماً ولا حتى رأساً . بكت وبكت وبكت .. ثم وضعت الطعام الى جانبه وخرجت . مرت الأيام والجسم الغريب لا يأكل ، والباب مغلق والستائر مسدلة ولا يرد أحد على الهاتف . البنت الصغرى إستمرت في الدخول الى الغرفة ، تضع الطعام ، تبكي ، وتخرج . لكن هذه المرة قررت أن تقول شيئاً ، خرجت إليهم من دون أن تغلق الباب ، نظرت إليهم واحداً واحداً ثم قالت :"إنه لا يتحرك". الإبن الأكبر أصبح يخرج من البيت ليعمل ، ولكنه كان يجيد إغلاق الباب جيداً عند خروجه . الستائر بقيت مسدلة ، ولا أحد يرد على رنين الهاتف ، إذا كان هنالك رنين . الأم قلقة من بقاء الجسم داخل البيت . بقاؤه بسبب المشاكل ويبقيهم مدفونين في داخل هذا البيت ، ولكن كيف تتخلص منه دون أن يثير شبهات الآخرين ؟ في صباح أحد الأيام ، في الصباح الباكر ، قبل خروج الناس الى أعمالهم ، وقبل بزوغ الفجر ، خرجت الأم من الغرفة تحمل كيساً وهي تنظر حولها بحذر ، خرجت من البيت ثم عادت تعدو بفزع ، إنتظرت الى جانب النافذة المحاذية للشارع .. توقفت شاحنة قرب عربة النفايات ، خرج منها شخصان ، أمسكا بعربة النفايات ، ووضعا محتوياتها في داخل الشاحنة وانطلقت الشاحنة الى مكان آخر ، بينما تنفست الأم الصعداء .. فتحت الباب ونوافذ البيت على مصاريعها وسمحت بالرد على الهاتف .
|
#23
|
||||
|
||||
القصة السابعة
شبح الماضي تمر الأيام خلسة، وينحسر العمر على قارعة الحنين إلى أنوار الزمن المتشبث بالذكرى. فهذا صيف آخر يحمل وحدتي برفق إلى مطافات المؤمنين بجدوى تأمل الأشياء الميتة. هذا صيف آخر أطل عليه من نوافذ الرغبة، ويطل علي من أبواب الحكمة، فلا ألقاه ولا يلقاني. والأشياء التي أكتب لها الأبدية لا تستجيب، لا تتحرك؛ تنعم في السكون الذي يرافق النهايات. تمر الأيام محملة بنجوم لا تضيء دربي، وشمس لا تدفئ قلبي، وأحداث لا تلون الأشياء في عيني، فكأنني محكوم بالغفلة من أمري؛ أمر الحياة. أمد يد الخيال المسالمة كالضعفاء إلى الرابية التي عراها الزمن من ورود الحلم والفرح. استنهضها عتاباً، استنهضها ملامة، استنهضها ثائراً، وأسوق لها مشاهداً من ليال خوال تصلبت في ثغرات العمر كمرافئ تيه. لكنها لا تستجيب. لا تنهض من أحزان البشر الذين كتبوا أحلامهم على صدرها ثم أضاعوا الطريق إليها، أو أنهم غضوا النظر. تمر الأيام وتمد مسافات في بادية الضباب الذي نفخه صدري في لحظة جنون، ولفظه صدرها في لحظة انتقام فارتفع كهامات القدر؛ أضاعني وأضاعها على أطراف الوصال المتقطعة. أرقب النيران التي أججتها على الدروب الطويلة المفضية إلى معالم الفردوس على الأرض. إنها تنطفئ بلا شفقة، وتتحول الوعود المتراقصة على ألسنة اللهب إلى بواخر من ورق تعوم في بحار بلا نهايات. أتطلع إلى الأضواء التي أشعلتها في متاهات الروح بالسر وبالعلنية، في البداية وفي النهاية، في الحضور وفي الغياب، فأنارت ليالي الشتاء وعلقت المصير خارج الزمن. يا الهي كيف يخف النظر عندما يسقط الإنسان من فضاء منير بشدة إلى هاوية مظلمة بشدة! ويمر خيالها أمام مساءي المحاصر بالهدوء شبحاً تعملقه الذكريات الطيبة المصلوبة في وجهي كشاهد على بقايا عبورها من هاهنا. يقف على بعد كاف من الشِباك التي أبنيها له. يتأملني كأطلال تفيد في لحظة الحسرة، وفي ساعة الاحتجاج، و يهز رأسه عطفاً. يتمسك بالصمت حتى اللحظة الأخيرة. لا يقول وداعاً. لا يقول إلى اللقاء. يقول: - الرصاصة التي قتلت غصون دُفنت معها. تعال إلى أسفل الوادي، وجرب أن تلوي ذراعي. - ألست أنت غصون؟ سؤال لا يستحق الجواب. لا يستحق بسمة سخرية أو تكشيرة تأنيب. غبي، أو تافه، أو مرتبك، أو خجول، لكنه على الأرجح مشبعاً بالجبن والبلادة كحضن ماء راكد. الشبح العملاق يمضي، فتلحقه النجوم والقمر كمشاعل سيارة، وتحل العتمة التي تشل مفاصل الحركة ومفاصلي. ثم تنتصب اللوحة السوداء منتعشة بالأضواء البعيدة، وبتلك الجملة المكتوبة عليها بأحرف يد دامية: الأبعاد الضائعة تخفف الوزن بين الناس! ضاقت جفوني على احتواء فاصل من نوم. كان ذلك في بداية الصيف في الذكرى السنوية الخامسة لهمساتها الأخيرة التي وصلتني من لسان إلى لسان: أسدلوا ستار الأكاذيب المارقة والنفاق المتجذر في كتبكم على وجهي كي لا تروا قبحكم. تب لكم يا قوم يغسل الحاضر بزفرات التاريخ المبهم. سيأتي الصبح لا محال، وسأعرف كيف ألوي ذراعك أيها الشبح المتربع على دقائق مساءي يوماً بعد يوم. سأعرف كيف أقتلع لعنة إبليس من جلدي، وكيف أهتدي إلى الرتابة في التنفس والأكل والنوم والقراءة وشم الأزهار البرية التي تنبت على رواب لم تشهد بعد ولادة حب أو موت حلم. الصبح رحاب أمل؛ لكن يجب أن نراه صبحاً لا فراغاً نشازاً بين ليلة وليلة. بدا لي فجر الهمة والإرادة دقيقة صمت امتدت حتى ساعة متأخرة من الضحى، وتجلت فيها كوامن النفس التواقة إلى لوي ذراع. انتعلت حذاء سميكاً يقيني نتوءات الصخور والأحجار وأشواك الغابة، ويشد من عزم الخطوات، ومضيت على الطريق الطويل المؤدي صعوداً ونزولاً إلى شجرة الصنوبر المنفردة بالمكان في أسفل الوادي. تسلحت بأقوال مأثورة تمنح المرء قوة وصلابة وتخلصه من الحسابات التي تؤدي إلى التردد أو إلى الخوف، واندفعت نحو المتن الأكبر، أو التحدي الأعظم، أو بكلمة بسيطة، نحو الحسم الموجع على نحو الخيارات المتوازنة الخاسرة في كل حال. طويت المسافة بخطوات واسعة، سريعة، واثقة من أن تجريب لوي ذراع عملاق فيه من الفضائل فضيلة المحاولة وأكثر. عبرت الغابة المكتظة بأشجار مسنة متشابكة الفروع متلاحمة. خرجت من طرفها الآخر، وصار البحر الممتد في أفق النظر ينزعني من وحشة التفرد الطويل مع الذكرى. وعندما كنت أنحدر نحو أسفل الوادي شاهدت على حين غرة شبح "غصون" يمر بجانبي راكضاً، مجلجلاً، ويلقي عليّ نظرة ساخرة. أشار بيده المنتهية بأظافر متآكلة الأطراف كسيوف من عهد بابل إلى موقع النزال، وسبقني إليه. قال: - الرصاصة التي قتلت غصون لا زالت في جسدها. جرب ألا تنسى! تجاوزني. سبقني. ظل يركض منحدراً إلى شجرة الصنوبر المتعالية في وحدتها. تلفت إلى الخلف؛ إليِّ، من فينة إلى فينة، وتشدق بالضحك المتحد، الهازئ، الكافر بجدوى الرأفة الإنسانية عندما تحين لحظة الفصل ولحظة الوقوف العاري أمام النفس العارية. لاح لي بيده يحثني على السير السريع إلى محطة الحساب فكأنه يشجعني على عمل المستحيل ضده. لكن ملامح الروح كانت تميل إلى توطين الحزن المتمرد بترقب وصمت على حملات ماجنة لمنح الذكرى حياة أو حركة. ثمة قدسية مُحيرة تُصاحب النوايا بالقطيعة مع الأشخاص الذين يمدون بعداً في أقدارنا ويمضون إلى العدم. ثمة أسف مؤلم لا يحتمل العلاج عندما تكلح ألوان العيش التي علقناها على مشجب يرتفع إلى أعالي السماء على جناحي حلم. اقتربت من دائرة المصير التي طوقتني بالحيرة زمناً، ولونت مشاعري بالخيبة والخذلان واحتجاج الضمير. صرت أشعر كالجندي الذي دخل المعركة. رجل متحرر من الخوف لأن الخوف فوق طاقته، وأكبر من المكان، وخارج حدود الساعة. وصار "الشبح" يلغي الفواصل بين أفكاري، فيشمر عن ساعده المنفوخ بمدارات الخيال المبالغ، ويشد أسنانه النافرة كعيب في كمال إلى بعضها بقوة مهيبة ومجنونة. لمحته يتمطى كقط قام لتوه من كبوة. كان في الحقيقة يستعد للنزال على طريقته الخاصة وضمن طقوسه المربكة والمحيرة. أبصرته أيضا يرفع يديه إلى السماء فكأنه يلفت عناية الرب إلى حاجته به. لكن الأمر لم يكن كذلك. الأشباح تتواصل مع حقائق الماضي من خلال التوسل إلى ذوات الماضي المتدثرة بعباءة الغيب. وعندما بلغت المكان؛ تحت شجرة الصنوبر الماثلة للعيان كمآذن التقوى، حييت مَن لا يُجيب على التحية. لا ضرر؛ فالسلام لله عندما ترفضه الأحياء وتتكبر مجبولة بالظرف أو مشحونة بالعقد. ثم أن الشبح هو على حال لا يتغير؛ إما يكون متجهماً، أو يكون ساخراً، أو لا يكون. - الرصاصة التي قتلت غصون لازالت في صدرها. حاول ألا تستكين! هددني بلباقة لا تنفع؛ لا تزيد الإرادة الهائجة في صدري بالخروج من دوائر الذكرى والموت المطبقة على أنفاسي كقدر خطه السلطان بجور وظلم، ولا تلطف قناعتي بصواب الحسم كيفما المردود جاء. استلقى الشبح على صدره فوق العشب الرطب الذي حماه فيء شجرة الصنوبر من الاحتراق بأشعة الشمس. غرس كوعه في الأرض بثبات وحنى ساعده بزاوية ضيقة، وشزرني. ذراعه ثقيل كرمال البحر المبللة، وسمين كبطن الخيل، ومشدود كحبال المراكب العملاقة؛ فمن يستطيع أن يثنيه؟ وكيف أثنيه أنا الخارج للتو من عزلة خانقة على هامش ضيق من مجريات الحياة؟ وكيف أثنيه أنا الممزق كعش الفأر ما بين التمسك بالذكرى المفرغة من الأمل، ومن الحلم، وحتى من الوهم، وما بين الوقوف اليومي على حقائق الرصاصة التي انتزعت "غصون" من الحياة؛ من حياتي أنا وأطفأت المصابيح على الدروب؟ كان لب د من الامتثال. لم آت إلى هنا من أجل أن أعود إلى دوائر العزلة والانطواء على الذات المتطلعة بسذاجة جمة إلى إعادة بعث الحياة وتقليد الأبدية لأشياء مرغوبة تسكن في الوجدان وحسب. فعندما خطوت على طريق المحاولة للوي ذراع مهيب، حملت معي كل الأماني بأن أنتقل من عالم إلى عالم وبشكل نهائي؛ فإما لا أعود أبداً، وإما أعود منعتقاً من زوايا الرصد المتواصل للحظة الوداع القسري. إما أخرج من هامش الحياة إلى فضاء الله، وإما أخرج منه إلى فضاء الحرية الخالصة من قيود الذكرى والمنبر الإجتماعي وإرادة ألا فعل. الجمود هو شيء لعمري، يُفسد العيش وملذات الروح وتطلعات النفس. استلقيت قبالة الشبح المحقون بالتحدي والجبروت والثقة بعضلات الساعد والنفس. ثبت كوعي بالأرض على نحو ما فعل هو تقريباً، على مقربة منه، وحنيت الذراع. شبكت كفي بكفه فأحسست حرارة اللقاء القديم معها على الرابية المطلة بفوقية وسمو على منابع الشقاء والكدر والخشية والغدر المورث من جد إلى جد، ومن سلطان إلى سلطان، ومن زمان إلى زمان، ومن أنانية إلى أنانية، ومن يوم إلى يوم. شددت كفي على كفه، فأحسست أنني أقبض على رأس الحيوان الذي جمد حركتي وعقلي وعواطفي في جانب ميت من وقائع الحياة والأحياء. وشعرت أن قيم القبيلة تتجمع وتتكاتف على أمري، وتدفعني معصوب العينين إلى الانتقام الشرس من أعباء بدائية حملني إياها تقاليد ثقيلة الفهم من الحس السليم، وحدث مفاجئ، واعتزاز بالنفس مبالغ، وانطواء مستسلم على النفس التواقة إلى التفرد مع قيم البقاء في تلك الساعة التي شهدت غياب "غصون" الأبدي من دلائل نهاري ومحتواه. ضغط الشبح يدي وسحبني من فضاء الخيال المنهزم من الواقع، ومرغ أنفي بالتحدي الماثل. حقنت دمائي وقوتي في ساعدي وحاولت أن ألوي ذراعه. لكن عبثاَ. ذراعه خازوق معدني ثخين مثبتاً في الأرض كجذور شجرة الصنوبر التي تفرد أبعادها فوقنا. دفعت ساعده إلى اليسار، فبدا لي أنني أدفع صنماً عظيماً من معتقدات دينية قديمة. - الرصاصة التي قتلت غصون لا زالت في جسدها. حاول أن تحتج. قال لي فاتضح من نبرته الهادئة وأنفاسه الرتيبة أنه لا يبذل جهداً كي يقاوم حماسي للوي ذراعه. كما أنه لم يأتِ بفعل ما للوي ذراعي. إنه يمنحني الفرصة وحسب. أنه متجمد في عراء الوجد المتجمد في تطلعاتي ليس إلا. شعرت بالعجز المخيب للطموح، وكدت أن أسلم به وله وأرجع إلى تلك الزاوية الضيقة من تغليف حقائق الحياة بدقائق الوقوف على الأطلال المكتنزة زخماً من الصمت الذي يشهد على نهاية محزنة. فجأة نهضت "غصون" من مدفن الذكريات، باسمة بحياد. تأملتني عن بعد فكأنها لا تعرفني. لديها بعض الحق. غيرتني خمس سنوات من التواصل مع عوالمي المرسومة على أوراق الحيرة والتردد والانزواء. كثرت السنوات في ملامحي وصرت شبيه بالفالتين من حدود العمر المحتمل. الخيبة التي أرثها لي الرحيل المفاجئ لشخص يحمل أحلامي ومنابع السرور فتكت بمظاهر التسلط على المصير. كانت أقداري بيدي، وصرتُ بيد الأقدار التي تتهافت على مسالكي وفي ممراتي. شبكت كفي بكفه من جديد. ثمة عصفور يغرد بين أغضان شجرة الصنوبر نفض شيئاً من بطنه على قبضاتنا. لم يهتم، ولم أكترث. حثثت قواي وآثرت التركيز. صرخت بقوة الألم المتأتي من العجز والرغبة في عمل المستحيل، فاهتز المكان والكيان. حقنت دمائي في وجهي وحبست أنفاسي في صدري وضغطت ذراع الشبح في محاولة مستميتة للويه. بيد أن ذلك لم يؤدِ إلى نتيجة أو حتى إلى زحزحة قد تشجعني على المواصلة. - فكر بطريقة أخرى لفتح الأبواب الموصدة. قالت "غصون" وذابت في الهواء. اعتبرتها تحكي هذياناً لا صلة له بالمعطيات. أمامي مهمة لا تُنجز سوى بطريقة واحدة. ضغطت الساعد الصلب المنازل بقوتي الممكنة الأخير وعضضته في آن، فنزفت أسناني وتوجعت، وخدرت عضلاتي، وارتقى الشعور بالفشل إلى أعلى درجات الاعتراف والحكمة. سحبت كفي من قبضته المتينة، ونهضت واقفاَ أمام لعنة إبليس المستمرة، ومسحت الخجل المتكاثف في سحنتي. نهض هو أيضاَ، وتصنم قبالتي كمعبد قديم يحمل قدسية الماضي وينم عن سخرية الحاضر. حدقت في مقلتيه الهادئتين والمقفرتين كليل الصحراء، وحملق في عينيّ المضطربتين كبحر تحت عاصفة، وتوقف الزمن شاهداً على ما قد يحصل. والزمن في اللحظات الحرجة يقيس تطورات النفس لا حركة الشمس. طال وقوفنا الصامت عن النوايا، المتوتر بالغموض والانتظار. ثم، وعلى حين غرة، رأيته يشبك كفيه حول رأسي من الخلف، ويشدني نحوه بسرعة خاطفة، وينطح وجهي بشدة. سقطت على الأرض مع الدماء الساقطة من أنفي وفمي، وضاعت الرؤية في دوامة الألم. وعندما كان ينقشع دخان الصدمة وتتضح الأشياء أمام ناظري من جديد، أنحنى عليّ، وأنهضني شداً من شعر رأسي. تفقد معالم عنفه البارزة في وجهي بغضب يائس، وقال بمرارة لا يخفيها: - الجندي المحصن بقلة الشرف، والذي غرس رصاصة في جسد غصون، لازال يملك المزيد من الرصاص. حاول أن تجرده منها. ولتعلم، لا يستطيع أحد أن يلوي ذراع الماضي، ولا يعفى أحد من محاولة لوي ذراع المستقبل.
|
#24
|
||||
|
||||
القصة الثامنة
ومضات إنسانية بقلم الكاتبة ليلى مقدسي ما زالت مغروسة في قعر وحدتها ، وقد ألصقت وجهها بزجاج نافذتها الباردة منتظرة مجيء أختها البعيدة ، والتي أبرقت إليها منذ أيام أن تأتي . فالمرض ينسل من عروقها المرهقة ، وروحها تئن تحت أسياج الظلام في أزقّة ضيّقة والسنوات سلخت كل آثار قرابتها ، حتى الشمس من خلال نافذتها تراها مجعّدة في أشعتها، وقد تكدّست فوق ظلالها الباهتة في برك النور المتجمّدة ، ظل زوجها الراحل ينتزعها من وحدة الزمن ، وعائلتها الصغيرة اندثرت ، لم يبقَ لها سوى الأخت الوحيدة المتزوجة في بلد آخر . يتراءى الظل ، يقترب منها ، ووهج حنانه يلفحها ، وذراعاه تسكبان الدفء على صدرها ، لقد استطاع زوجها أن يغني لها كل أغاني الطيور ، وأن يلملم غربة روحها ، لأنها حُرِمَت من الإنجاب وعوّضها عن كل حنان الأرض والأهل والأبناء . بعد ربع قرن وأكثر ، لحظة مشحونة ابتلعت لها الحنان . عاصفة غبار نتن هبّت على حياتها ، واقتلعت الجذر الحامي . ولقد بعثرت على قبره آخر زهورها ، ومنذ ذلك اليوم ونحيب الذكريات المؤلمة يلاحقها ، تقفز لتنهش الهدوء من حولها .. دوائر الزمن حولها تتسع وتضيق ، وذكريات تنفرط وتتجمّع . كم تسللت منتظرة مروره ، أحبّته وهماً نائياً ، وجذبتها أبخرة الوهم . وتفيض الخواطر المؤلمة والفرحة من جوارحها تمزّق صمتها ، في أمسية هاربة من دوائر الزمن التقيا . تأمّلته بفضول . كان عميق الحزن ، وابتسامته غلالات كبرياء هادئة ، ووجهه كروض تعبث به زهور الربيع . تعددت اللقاءات ، وانبثق الحب شلال صفاء ، حدثها بتعرٍ حقيقي عن ذاته ، كان صوته مقنعاً وساحراً.. يسقط الصدق تحت وطأة كثافته والدوامة الرهيبة لفحولة الرجولة تؤلمه ، تشده ، تجعله يحسّ بأسف عميق لأنه لا يستطيع الإنجاب لنقص ما في تركيبه الفيزيولوجي كنت أتأمّل عينيه ، ولم أكن بحاجة إلى سماع بقية القصّة ، ولم أهرب بيدي من أتون يده ، وتعجز الكلمات أحياناً عن استيعاب انفعالاتنا ، ألا يمكن العيش بلا أولاد ؟.. ألا يمكن أن نتجرّد من أنانيتنا ؟.. الوجوه ، الأشياء أبخرة تتطاير في فضاء الطائرة ، وهي عروس له بثوبها الأبيض ، وعيناه لا ترحمان لحظة الانجذاب الخفية كان شتاءً مدهشاً ، وكنا نطير فراشتين بين ضحكات مطر الأرض . تتراكض السنون ، تبتعد ، بصعوبة تفتح عينيها ، تنهض بتثاقل من غيبوبتها . الباب يقرع ، هذا وجه أختها يطلّ من البعد ، وفرحة اللقاء تشعّ تسير إلى جانبها تتحسس الأرض بعصاها ، تغرف الحنان من وجه أختها ، تحدّثها تجلس معها ويغمرها ارتياح مبهم . أنياب الوحدة تشتد على الجسد المسترخي تحت لسعات المرض والقهر .. لن تكون وحيدة بعد الآن . السيارة الضخمة تترنّح في الدرب الطويل ، تمدّ يدها إلى حقيبتها التي بقيت لها ، تتحسس الأوراق المالية ثمن منزلها ، بعد أن أقنعتها أختها ببيعه والسفر معها . وسوف تزدهر أموالها في مشروع تجاري تقاسمها به . تشتدّ كآبتها كلّما أسرع السائق . لقد اقتلعت من جذورها وتزداد التصاقاً بأختها . لقد وصلتا ، وضمّها دفء منزل أختها شهوراً ، ثم وجدت نفسها من جديد تنحدر تحت الأرض ، وتنزلق الأحداث ، وتتفجر الحروف وغربان الغدر تنهش أعماقها المحزنة وتترسب ليالي عذابها السوداء ، وتتابع بصوت متهدج : عادت الغربة تضغط على عنقي ، بتّ عارية من كلّ شيء حتى من صلة القربى ، لقد رمتني أختي هنا في /دار العجزة/ .. وجوع أختي الجشع إلى ثروتي من منزلي الصغير المباع جعلها تقبض على كل شيء ، وتقذفني إلى هذا المصير .. لماذا ترتعد ؟ ربما يحزنها إعادة الأحداث الأليمة ، فالحرب نفثت غضبها الأهوج على لبنان واقتلعت منزل أختها ، عرفت ذلك في مساء اليوم التالي بعد أن توقف القصف . ومن زوايا غرفتها يتراءى لها شقوق منزل أختها المخرّب وآلاف آلاف الليرات . تهذي باكية خائفة .. أصوات غامضة أشباح تطاردها ، وصوتها ينوح في نهاية الأشياء .. رحمك الله يا أختي ويغرورق دعاء الكلمات من شفتيها بالدمع .. لكن هل تموت الومضات الإنسانية ؟!..
|
#25
|
||||
|
||||
يرفع للفائدة
|
#26
|
||||
|
||||
بوح الزمن الأخير للكاتبة حنان درويش اقتعدت الرصيف، وليس في ثنايا ثوبها البالي سوى خلايا ميّته، كأنمّا جلبت من قبور، ما أو من احتضار زمن. جسمها يترنحّ. العالم يترنحّ، فتهمّ بالسقوط. في كلّ يوم تواجه مصيراً جديداً، وتتعرّف ملجأ جديداً، وتستسلم لذبح جديد. الدروب المؤديّة إلى غياهب الماضي باتت سالكة بصعوبة أو مستحيلة العبور. لملمت أطراف ذكرياتها، وقفلت راجعة تطوي أيّامها، وتغيّب حضورها تباعاً. كلُّ الذين كبروا تحت جناحها، طاروا عندما نبتت بواكير ريشهم. كل الذين أقسموا في حضرتها على الوفاء غدت أيمانهم أوراقاً صفراء تتلاعب بها الريح.. البيت، والأولاد، والكنف الدافئ، وعريشة الياسمين.. أصبح بينها وبينهم أراض وفياف وقفار، لو حاولت اجتيازها لابتلعتها مفاجآت بعيدة عن الحنان. " أين سأبيت الليلة؟؟.." واجهها النحيب بعدم الإجابة. لم يتنام إلى سمعها أيّ صوت، ولم تبادر أيّة رحمة إلى انتشالها سوى رحمة الأرصفة. بدا الفراغ الهلامي أمامها مقفراً، إلاّ من بعض الراكضين وبعض غريبي الأطوار، وبعض المظلاّت السوداء، والحمراء، والبنفسجيّة. الليلة الشرهة تعوي في عظامها. يودع البرد سياطه فوق صفحة وجهها. ثمّة مطر غزير، وثمّة عواصف متخمةٍ بالفجاجة تقتلع أوتاد خيمتها، وتصبُّ في قلبها ذعراً لم تستطع مهادنته... تنتفض. تختنق. يتبعثر حطام المرأة في داخلها... ترى، لماذا غرّر الزمان بها؟.. وكم مضى منه على تلاشي أنفاسها؟.. هل ماتت؟، أم هي في فلك النهاية تدور؟. انتشلت رأسها من القاع. رفعت سحنتها الغارقة في الطين. أسلمت أذنيها لهمهمة مداهمة.تسلّقت عيناها السيقان التي صارت إلى جانبها تحت المظلّة الحجريّة. صاعدت تلاحق أنفاسها. أصدرت اصواتاً وحركاتٍ وجلبة تستجدي شيئاً من العطف، يفضي بها إلى مأوى تبيت فيه. لكنّ المنتظرين لم يكترثوا لوجودها، ولم يمنحها أحد منهم نظرة رفق..أو حتىّ نظرة واقفة على الحياد.... فقد كانوا مشغولين بحديث لم يسقطوا من حسبانه إشارات التعجّب والاستفهام.في البداية، لم يكن الكلام يعنيها أو يهمها.. لكنّه، شيئاً فشيئاً أصبح حاراً بعكس طبيعة تلك الليلة، ومؤلماً إلى درجة الفجيعة.. يخرج من بين الشفاه مدهشاً وطريفاً أحياناً.. مبعثراً وثقيلاً على السمع أحياناً أخرى، كأنّ شيئاً أمسك بخناّقه، وأعاق عبوره، فضاع في متاهة الطريق. التصقت بالواقفين.. قرّبت أذنيها من افواههم تريد اكتشاف هويّة اقوالهم. كان التصرّف بدافع الفضول أوّل الأمر.. لكنّه، بالتدريج، راح يفصح عن مقصد فتح أمامها بوّابة، أخذت تتسع وتضيق بمقدار. -" لقد قرأت اليوم خبراً مثيراً تلبّستني غرابته حتىّ هذه اللحظة.." قال أحد الموجودين مضيفاً إلى حديثه موسيقا خاصة يصدرها اصطكاك أسنانه، ثم تابع: -"وضعت دائرة السجون إعلاناً يشير إلى أن أحد المحكومين بالإعدام حين سئل عن الأمنية التي يرغب بتحقيقها قبل الموت أجاب.. بأنّه يريد امرأة.." أطلق رجل آخر استنكاراً حادّاً، ابتلعه على الفور استهجان أكثر حدّة: -" وماذا يبغي المهتمّون بالأمر من الإعلان؟.." -"يريدون تنفيذ الرغبة للمتّهم إن أمكن.." -" هذا مستحيل.. فما من امرأة في الدنيا، تدفع بنفسها إلى السجن لقضاء ليلة شرسة مع المجرم، مهما كانت المغريات المقدّمة..". كقطّة بريّة أغرقها المطر حتىّ الثمالة انتفضت... راحت تموء بشكل جنوني. تفجّرت براكين سكوتها. انبثق من عينيها ما يشبه الصراخ... " السجن؟.." غشت رؤيتها غفوة وذهول. غيّبت وعيها ثمّ أحضرته... لابدّ أن المسافة إلى هناك شائكة ومتعبة... لابدّ أنّ الدرب وعرة ومظلمة.. " السجن ؟.." كيف المسير إليه؟.. كيف الوصول؟.. ومن أين الانطلاق؟. لا وقت لإطالة التفكير.. ولماذا التفكير؟، مادام يوجد في النهاية سقف وجدران وحماية من البرد والمطر، ولو لليلة واحدة.. فليس في جعبتها أيّ متّسع للتفاوض. شدّت شالها حول رأسها، لفّته بإحكام. تأبّطت العنوان، ومعالم الخطوات، ثمّ اسلمت ساقيها للمجهول، تقتفي أثار العتمة، والقهر، ورائحة احتراق لشيء ما.. بينما السيول تجرف سرّها الدفين، تودي به إلى مالا قرار. عند بوّابة الزنزانة وقفت.. ارتجفت.. انزرعت في الأرض مثل شتلة واهية الجذور.. غلّفها الحيّز الأسود بقفره ووحشته.. لكنّ الشيء الوحيد الذي اكتشفته هناك، والذي رطّب بعضاً من جفاف صحرائها، أنّها لم تجد ما هو غريب أو جديد على عالمها... فقد أحسّت مع تقادم الدقائق بإلفة الموطن، وبترجيع رئة الزنزانة لصدى أنفاسها، وبأنّ الرجل القابع في الزاوية هو منها وإليها... فلم تبد عليه بوادر الأمنيات، ولم تتكفّن رؤاه إلاّ بالصديد، ولم تغفل أجنحة الغربان عن مواساته.... يداه تحتضنان كوابيسه، وصدره يعلو ويهبط في رحلة متساوقة مع رحلة الزمن العابرة ببطء شديد. الفضاء الضيّق بحلكته ينضمُّ إلى مجموعة من الفضاءات الأخرى، والتي غرزت بين جنباتها أشخاصاً تلبّستهم التهمُّ.. صدقاً أم زوراً، حقيقة أم تلفيقاً، لا أحد يعرف.. المهمُّ أنهّا تلبّستهم وانقضى الأمر.. وإلى أن تبين الحقائق، وتنجلي البيّنات، يكون الدهر قد أصدر حكمه، ويكون الوقت قد أدرك بغيته على عجل. الهنيهات هناك ركيكة وقاتلة، والجمود يصلب الوقت على جدار من رهان، والشفاه تيبّست وتشقّقت، وأصبح النطق صعباً. -" منذ متى أنا هنا..؟!! يتساوى لدى الرجل الليل والنهار.. الإشراقة والدكنة. تحاول الذاكرة الاستيقاظ، فيظهر الماضي برداء قميء، متعدّد الثقوب، ألبسوه إيّاه عنوة. -" لماذا؟؟.." - سألهم ولم يجيبوا ! تكالبواعليه مثل وحوش كاسرة- ألصقوا به تهمة قتل متعمّدة.. تهمة كان بريئاً منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب، لتصبح بعد حين أرجلهم في الخلاء، ورقبته ضمن حبل المشنقة. - من أنت؟... - أنا.. أنا الـ.. خرج صوتها من أعماقها كأنّه يخرج من أعماق بئر، ثمّ ما لبث أن دوى مجلجلاً، يخترق حواجز سجنه، ويقتلع الساكت في نفسه، فتستيقظ بقايا جذوره. يقف في مكانه، يملأ صدره بهواء الصدى.. إنّه لايعرف كيف يتصرّف، وكيف يتعامل مع تلاحق الدقائق المتكئة على هامش الترقب والانتظار.. هل يضحك؟... هل يبكي؟... بالتأكيد هو لا يحلم، فالحلم جفّت مفرداته، وأسقط آخر كلماته في هوّة سحيقة. حاول أن يباعد ما بين شفتيه، أن يقول شيئاً.. أحسّ فجأة أن شيئاً ما يشبه الضوء يتسّرب إلى عينيه. ارتجفت أصابعه وهو يقبض على المسافة الفاصلة بينه وبينها. -" امرأة؟!!" منذ متى لم يتلمّس الندى.. ولم يكتشف عطر الورد في دوحة المنى.. ولم تتقرّ عيناه وجهاً سوى وجه سجّانه العالي، والذي نضب منه ماء الحياة منذ أمد بعيد. اقترب خطوة، واقتربت مثلها.. هل ما يراه حقيقة أم شبيهتها؟... أم أنّها الريح أرسلت إليه خيالاً يعزّيه في سويعاته الأخيرة. وقفا متقابلين، ثمّ نزلا رويداً، رويداً إلى أسفل ضمن مساحة لا تتسّع إلاّ لألميهما معاً. أبحر في غابات عينيها، قرأ شيئاً من المكتوب. شعور غريب مغيّب أخذ يتناوب بالظهور متداخلاً مع مشاعر مبعثرة لا تماثل ايّة مشاعر. شيء من التوحّد مع عالمها ترجمته قواسم الهموم المشتركة، والتي بدأت ترتفع لتشكّل ركاماً. شرقت بالدمع، وشرق أيضاً.. تسارعت خطا الزمان بينهما بشكل يدعو إلى الاندهاش. وصل نزيف كلّ منهما إلى الطرف الآخر عبر خطّ مستقيم غير ملتوٍ. أضافت إلى أشجانه أشجانها، وحكى لها عن ظروفه، وعن أيّامه، وعن حظّه العاثر. رقدت يداها في يديه، ووضع رأسه على صدرها، وغمرتهما حالة من الدفء والسكينة والأمان. قالت له: - تعال نتجاوز كوابيس هذه اللعبة. - وماذا بالنسبة للغد؟.. التمعت عيناها ببريق ليس له شكلٌ أو طبيعةٌ أو ديمومة.. شعّ البريق في أعماقه فيما يشبه الأمل.. بينما صوت انهمار المطر في الخارج يترافق مع صوت انهمار دموع السجّان الذي كان يجلس قرب باب الزنزانة
|
#27
|
||||
|
||||
القصيدة الفائزة للكاتبة حنان درويش ساد صمت جليّ على القاعة حين اعتلى الشاعر أنور الفالح المنبر بثقة وهدوء. -" مساء الخير يا أهالي هذه المدينة الجميلة.. أنتم أصحاب ثقافة وأدب.. لذا جئت إليكم أحمل زوّادة، هي عصارة فكري، ونبض قلبي." صفّق الحضور، توثّبت قسمات الوجوه، استنفرت الأحاسيس... وتأهّب الجميع لسماع قصيدةً" ذوبان" التي قدّم لها، وقدّم لصاحبها مدير دار " الإبداع "، مشيراً إلى فوزها بالمرتبة الأولى، من بين مجموعة كبيرة من القصائد المشاركة في المسابقة المعلن عنها سابقاً. أذوب.. أذوب كرنفال يمرُّ تهرق زنبقة.. لمن المنابر أورقت؟ أنا لست خنزيراً بريّاً.. ولا زجاجة حبر.. في ساحتي" عربشت مواسم القحط ونمت القبيلة.. تململتُ في مقعدي. التفتّ إلى يميني، ثمّ إلى شمالي..تفاءلت وأنا ألمح بصيصاً من التوثّب ما زال عالقاً على الوجوه، وبعض نأمات انتظار، للآتي من فم الشاعر، الذي تصدّرت صوره ومقابلاته الصحف والمجلاّت، فكان معه الحوار تلو الحوار، واللقاء تلو اللقاء. يا غابة من الفستق الحلبي.. يا امرأة.. زلزلت الأرض أرعدت السماء. ناقوس يدقّ شوارع حبلى لن يدخل الوقت من سم الإبرة.. لن يدخل.. ابدأً.. ابداً.. اغتاظ أحد المتعصّبين للشعر العمودي. سعل سعلة مقصودة كسرت جليد الصمت. بدأ يوزّع نظراته المستنكرة على الجميع بالتناوب، وهو يقول همساً: " هل فهمتهم شيئاً؟.." ثمّ يرفع راسه بالنفي مجيباً عن سؤاله بنفسه. شعوره اللامتناهي بالغيظ شاركه إيّاه شخص آخر كان من أنصار شعر التفعلية، وراح يردّد: -" هذا ليس شعراً.. هذا ليس شعراً..". حالة التأفّف تلك لم تطل، فقد أنقذها من ورطتها رنين هاتف مجلجل أقبل من غرفة المدير الخاصّة. نهض الأستاذ نعمان، وعلى سيمائه علائم غير مقروءة، وغير مفهومه : - ألو.. من..".. - أنا أبو ميسّر وقف المدير بوضعيّة استعداد حال سماعه للإسم. - أهلاً.. أهلاً أبو ميسّر كيف الحال؟.. كيف الصحّة" كيف ؟.. كيف؟.. - بخير، بخير.. لكنّني عاتب عليك يارجل. - لماذا؟.. كلُّ شيء يهون إلاّ غضبكم... أنتم تاج راسنا، وأولياء نعمتنا. - " لقد سمعنا أنّك قد أقمت مساء أمس حفلاً فنيّاً ساهراً بمناسبة مرور عام على تدشين مبنى الدار، وكان المغني" فصيح الأخرس".. هو بلبل السهرة- وأنت تعرف كم أنا مغرم بصوت هذا المطرب.. فلماذا لم تدعنا؟.. لو كنت فعلت، لجلبنا الزوجة والأولاد وجئنا نتسلّى.." جمد الأستاذ نعمان في مكانه، ولم يستطع أن يجيب.. ولواستطاع لقال له: -" لقد أرسلت إليك عشرات البطاقات من أجل حضور أمسيات وندوات ومحاضرات ثقافيّة... لكنك لم تأت، لذا أحجمت عن دعوتك". اعتذر المدير عن تقصيره غير المقصود.. اعتذر كثيراً، ووعد بأنّه لن يكرّر فعلته الحمقاء بعد اليوم... ثم عاد إلى مقعده يتابع ما تفضي به قريحة الشاعر: رجع الصدى آت.. يتسلّق التلعات يعبر مفازات الرؤى من منكم بلا خطيئة فليرمها.. أذوب.. أذوب.. فالقرنفلة أشرفت على الانتحار أذوب.. أذوب وأرضع لبن الشماتة واشتمُّ رائحة الملل.. حالما خرجت كلمة" ملل" من فم الشاعر " الفالح"، كان نصف الجالسين على أهبّة النهوض، بينما النصف الآخر يتأرجح ما بين النوم واليقظة.. وهاهو جاري " أبو سليم" يغطُّ في نوم عميق كعادته، حتى لكأنّ شخيره يطغى على مخارج حروف القصيدة، فلا أكاد أفهم ما أحاول فهمه. -" ما دمت تنام في كلّ مرّة، فلماذا تأتي ياعمّاه؟" -" لعن الله السكرّي.. هو السبّب.". خيبة أمل اعترتني، أحبطتني، شدّتني إلىأسفل، وأنا أرى القاعة المهيبة الرحبة خاوية الوفاض إلاّ من بعض القلّة المهتميّن، والذين باتوا يعدّون على أصابع اليد.. لماذا؟.. وما الذي حصل؟.. وما هو السبب؟... لا أحد يدري.. وربّما يدري، وهنا تكمن بذور المصيبة. سقى الله الأيام الخوالي، عندما كنّا نذهب إلى المراكز الثقافيّة لنحضر أمسية أو محاضرة فلا نجد لنا كرسياً نجلس عليه، فنضطر للوقوف كي لاتفوتنا نعمة الإصغاء. صرخة قوية أخرجتني من حالتي، فأوليتها الانتباه: بم.. بم.. بم.. سمعت دويّ الأقحوان صعد الرجل إلى السماء، أمطر امرأة.. بكت.. من يزود؟... أنا عنترة الزمان.. ولا زمان.. ولا زمان.. عند نهاية القصيدة، فوجيء الشاعر بخلوّ القاعة.. لم يجد من يصفقّ له، فصفقّ لنفسه، ونزل عن المنبر، بالثقة ذاتها التي اعتلاه بها.
|
#28
|
||||
|
||||
القصة الحادية عشرة عندما تغيم الأشياء للكاتب اسكندر نعمة كان الغروب يوشح الكون بلونه الأغبر المائل إلى الحمرة. أدامَ النظر عبر زجاج النافذة العريضة. سرحَ إلى الأفق البعيدالبعيد. أعاده عن ذهوله صوتُها الدافئ المترقرق حناناً وعذوبة: -.. أخذتْكَ الحياة منّي، أبعدتك عنّي إلى شواطئ غريبة لا أدركُ مداها. التفت ماجد سريعاً وقد استبدّت به رعشة لاسعة. تأمّلها وهي تلفُّ جسدَها الممشوق بثوب حشيشي أنيق، تسير نحوه من طرف الغرفة الوسيعة بخطواتٍ بطيئة، ترفعُ إليه سحراً يتدلّى من ملامحها الجذّابة، ترمقهُ من تحت أطراف أهدابٍ طويلة فاحمة السّواد.. قالت له ثانية: -.. لقد رحلتَ بعيداً عنّي. غبتَ في أمواج الزّمن المّر، وغيوم السائل السحري... ظلَّ ماجد على صمته. لم يتحرك قيد شعرة، بينما موجات الرعشة تتابع توغلّها عبر جسده وأعصابه... حدّقت فيه بنظرات متلهفةٍ افتقدها منذ زمان بعيد.. بدأ الليل يهبط أكثر فأكثر على الكون من حولهما... اقترب منها فارداً ذراعيه. مزّقته تمتمات شفتيها المكتنزتين. اقترب منها أكثر. ضغط بكلتا كفيّه القاسيتين على....... كتفيها.... انتابته رغبة مسعورة في احتضانها. ضمّها إلى صدره فأسكرته أمواج أنفاسها اللاهثة، وغاب في طراوة الجسد المتكسِّر. كان الليل قد هبط أكثر. وأنوار البيوت القريبة قد بدأت تغزو الشوارع المحيطة فتلوّن المساءَ بألوان شاحبة حزينة.. ظلَّ واجماً لا يدري ما يقول.. ساد بينهما صمتٌ جليدي... تماوج البيت في أشباح ظلمة السماء. تملّصت ناديا بهدوء من بين ذراعيه القاسيتين. ابتعدت قليلاً واقتعدت جانب المقعد الوحيد في الغرفة الواسعة. غمز زرَّ المصباح الكهربائي، غطست الغرفة في أمواج ضوءٍ برتقالي شاحب، أرخى الستائرَ القماشيّة على مساحات النافذتين المتجاورتين، ليمنع العيون الفضولية من اختراق أسرار الغرفة.. جلس على المقعد المعدني قريباً منها، اهتزّت أضلاع المقعد وأصدرت أنيناً حزيناً. احتضن كفها الصغيرة بين راحيتيْ كفيّهِ القويتين، داعبها برقّةٍ متناهية، غرس نظراته في عينيها المتسائلتين، وانداح صوتُه بأمواج متقطّعة: -.. ليس باليد حيلة، أيّتها الغالية... ثقي أنني لا أستطيع بعاداً عنك.. ولكنه الفقرُ.. الزمنُ الرديء المرّ... أبعداني عنك.. أقاما بيني وبينك سدوداً من الإعياء والإرهاق والذهول... داعبَتْ كفّها اللّدنة في حرارة كفيّه... وبالكف الثانيةِ راحت تطرد الأسى عن صفحة خدّيه وجبينه. قالت له وهي تلفح وجهه بحرارة همساتها المتلهفة: -.. ليس الشقاءُ وحده من أخذك منّي. أنا أعلم كلَّ شيء. ما إن تلفظكَ طواحين العمل المرهق، وتضمّك جدران البيت، حتى أراك؟َ تخاصرُ الكأس، تحتضنه بحبٍّ، بلهفةٍ شبقة، تمتصُّ روحه رشفة إثر رشفة، وتذهب عنيّ بعيداً، بعيداً، إلى عوالم أخرى. تمتم بصوتٍ خافت أجشّ: -.. لو أنكِ تدركين يا غاليتي، ما سرُّ ذلك السائل السحري الرائع الذي يثير في النفس اللذة والرعشة والأماني. رشقته ناديا بنظرات معاتبة، قرصت خدّه بباطن أناملها المتجوّلة: -.. وتحتضن كأسَكَ، وتتركني اعتصر الوحدة... وأنا أنتظر عودتكَ دقيقة بعد أخرى لأخفف عنك... أشرق وجهه، وتدحرجت من بين شفتيه كلماتٌ مبعثرة: -.. يا لمتعة الكأس.. الكأس الأولى وتغيم الأشياء من حولي.. الكأس الثانية وتتوثّب نفسي وتنمو أشتالَ المتعةَ في أعماقي... الكأسُ الثالثة وأمتطي أمواج النسيان والأمل... الكأس الرابعة ويرحل الشقاء، ينزاح الهمُّ بعيداً بعيداً، يحلّق في آفاق مجهولة، يغدو نوعاً من أحلام مرّة عَبَرَتْ في أزمان سحيقة لا أتذكرَّها... الكأس الخامسة.. قاطعته بكلمات متوتِّرة: -.. وبعدها تغطس في أمواج الصمت المؤلم، وتتوشّح عباءَة الذهول المقيت. تذهب كل جهودي عبثاً في أن أجعلك تكلمني أو تبتسم لي، أو تداعبني.. التقت عيناهما عند حدود اللهفة. تسمّرت النظرات المشتاقة. شعرَ أن لعابهَ قد تخثر في حلقه وعجز عن الكلام. مسح عن خدّيها دمعتين حملتا له أسراراً دفينة... تابعت خواطرَها بكلمات تحبو على شفتيها: -.. البارحة انتظرتك طويلاً. رسمتُ في داخلي خطوطاً هلامية رقيقة. أعددتُ طعاماً شهيّاً... جئتَ أخيراً بعد أن يئستُ منك. دخلتَ البيت وفي عينيكَ شحوب المساء الجليدي. ابتسمتُ لك. همستُ لك برقّة متناهية. تجمّدتَ أمامي كتمثال من شمع. ضاعت من فمكَ كلُّ المفردات الرقيقة. نظرتَ إليَّ نظراتٍ محايدة، وتكلمت بفظاظة وقسوة... تلاشت كلُّ أحلامي بسهرة متميزة واستمرَّ الليل يهبط علينا بطيئاً وثقيلاً دونما رحمة. تجهم وجههُ أكثر، وانداحت كلماته عبر زفير طويل: -.. كيف لا يقسو القلب، وتخشوشن الكلمات، وكل حياتي قاسية ظالمة.. الرمل، والطين، والماء البارد... الأحجار الاسمنتيّة... الكفّان المتشققتان... صوت رئيس الورشة... الظهر الذي ينحني وينوء بالأثقال. منذ أن حطّت الوظيفة في بوابة الفقر والشقاء، دخلتُ معها دهاليزَ القسوة والقهر والجفاف... آه يا غاليتي... الكأس الأولى وتغيم الأشياء من حولي... الثانية... الثالثة... وأنسى كل مفردات الحياة وعناصرها المتجهمة لا تظلميني أكثر... تقوقعَ على أطراف المقعد وغاب في منعطفات ذهول مدمّر. بدت عليه ملامح مخيفة، كأنّما حزنٌ بحجم الكون حوّم في مقلتيه وسحنته، فأفرغ في روحه ونبضه كلَّ جزئيّات الفظاظة والألم والتلاشي. اتشح وجهه بنشيج صامت، وراح يغوص في شرفات الذكريات البعيدة.. غاص في الذكريات أكثر فأضاء شموع الماضي البعيد: "أحببتُ ناديا حبّاً أنساني كل شيء. كانت الحياة ناعمة رخيّة. ما أجمل تلك الأيام.. عندما بُلغّت قرار قبولي طالباً في دار المعلمين الابتدائية، زغردت أمّي. انهالت عليَّ مقبّلةً مداعبة... قالت لي: ثلاثٌ سنوات ياولدي وتصبح معلماً، تملك راتباً محترماً، ينقلنا من مستنقع الفقر الذي خلّفه رحيل أبيك إلى ضفّة الرخاء والرفاهية.. اختزنت عواطف أمّي في قلبي... آهٍ ما كان أروعها تلك المرأة الطيبة. وتحقّقت لنا رؤيتها، أصبحتُ معلماً أقطف في مطلع كل شهر راتباً سخيّاً. عرفتُ مع أمّي وأخوتي الصغار معنى الرفاهية وسعة الحياة... عندما أحببتكِ يا ناديا كنتُ أقبض على الحياة من أطراف ضفائرها المزهرة الريانة". شدّهُ عن متابعة التذكّر صوتُها. جاءَه هذه المرّة خافتاً يائساً كأنّما يخرج من أعماق بئر مهجورة: -.. بتُّ لا أحتمل صمتَكَ وذهولَكَ، وخمرتَكَ التي تحاصر وجودي كلَّ ليلة.. ابنتاك الصغيرتان تشتاقان إليك. تمزّقني أسئلتهما. تبحثان عن حضنك الدافئ. تريدان باباً... وأسئلة كثيرة مؤلمة... -.. لا تحتملين.. لا تحتملين... ماذا أقول؟؟ لستُ أدري.. من أين أجلبُ لكِ السعادة المفقودة في داخلي!!.. كانت لنا فيما مضى أيام جميلة... ترى هل كانت جميلة حقاً؟؟!! أم أنّها وهم من أوهام الحياة... يجب أن تغيم الأشياء من حولي لأشعركِ بالسعادة. بل لأنسى. أليس النسيان سعادة؟؟؟ من أين لي يا غاليتي. وروحي أنضبتها شراسة الأيام... حاولتُ مراراً أن أستلَّكِ من دوّامة الشراسة فأخفقت. نعم أخفقت... اللعنة كيف تحولتِ الأيام هكذا.. لا تذكّريني... لننسَ معاً. فالنسيان سعادة... غرس عينيه في محيّاها من جديد. سحرته العيون الحزينة الجائعة واللون القمحيّ الجذّاب، والشفتان المنطويتان على أسرار هاجعة: " نريد طفلاً صبيّاً يترعرع بين أختيه، يملأ حياتهما. بهجة ودعابة". ظلَّ متماهياً مع صمته. كبّلهُ الاسترخاء فأسرج من جديد صهوة الأحلام والذكريات: " أنا المقهور السائر خلف سعادة بائدة، وأمنيات مضنية... رحمةُ الله عليكِ يا أمّي سامحكِ الله يا أمّي. لماذا تمنيتِ لي أن أغدو معلماً. لقد انطوى علمُ الوظيفة. أعذرُكِ فما كنتِ تتصورين أن الحياة ستنقلب رأساً على عقب، وأن الوظيفة ستغدو جزءاً من محطّات القهر والفقر والحاجة. وأنّني سأضطّر إلى أن أعمل بعد دوام المدرسة في ورشات البناء والعمران.. رئيس الورشة يسبُّ ويشتمُ. وأنا أحرقُ أعصابي وجسدي في أتونَ الشقاء. أنتظرُ الراتب والأجور الهزيلة التي تخلصني من ذهول الحياة وقسوتها. من شبح لوائح الأسعار الجهنميّة. من مخاوف توسّع العائلة وازدياد عدد الأفواه الجائعة.. أين الملاذ من هذا اليمِّ الذي لا شواطئَ له والذي يعجّ بالحيتان المفترسة.. أعذريني يا ناديا، إنك تحكمين عليَّ بقسوة. تصفينني بالفظاظة والخشونة والبعد عنكِ... ما أزال أحبّكِ يا ناديا. يجري حبُّكِ عبرَ شراييني المتضيقة ونبضاتي الرهيفة. ولكن، ما فائدة كل هذه الأشياء.. ما فائدة الحب والجسد، عندما يستبدُّ القهر والخيية... آهِ... كيف أجعلكِ تدركين ذلك.. أجل يا ناديا... يجب أن تغيم الأشياء... الكأس الأولى وتغيم الأشياء.... الكأس الخامسة ويمضي القهر إلى الجحيم... *** بعد الظهيرة غادر المدرسة. التحق بالورشة، وعند المساء عاد إلى البيت شجرة يابسة محنيّة الأغصان. استقبلته ناديا بابتسامة تملأ الوجه، أنستهُ كثيراً من آلام اليباس في روحه وجسده. ركنَ إلى الصمت كعادته. اقتربت منه بتوجّسٍ واضح، مدّت أصابعها الناعمة بهدوء وداعبت خصلات شعره المبعثرة. أحسَّ بدفءِ الأصابع فاسترخى متكوراً داخل ذاته كعصفور متعب الجناحين. انزلقت الأصابع الدافئة الحنونة إلى أذنيه وعنقه، حطّت على صدره، أحسَّ بارتباك الأصابع وهي تغوص في كثافة شعر صدره. أمعن في جلسته المتراخية، تابع التحديق الذّاهل في العينين الواسعتين والشفتين العذبتين... همست بنداوةٍ آسرة: "أريد طفلاً أخاً لطفلتينا...". داعبَ شعرها بعصبيّة مثيرة. تأمّلها طويلاً. الملامح الدقيقة التكوين وسمرةُ الوجه التي أضاءَت عتمة الغرفة... الكأس الأولى وغامت كل الأشياء.. الكأس الثانية وتلاوحت أشتال الحب والأمل... استعادت الشجرة اليابسة طراوة أغصانها. تبخّرت كل الخواطر الشرسة وتلاشت في الضوء المتساقط من نور عينيها... تحوّل الشقاء إلى حلم قديم، غبار منسيّ، غرق في مياه الماضي الجميلة الدافئة... تذكّر تلك الأيام. استعاد طعم شفتيها في تلك الأيام البعيدة، وخاضَ في شلال مياهها العذبة، فيما كانت الأنفاس اللاهثة تعطّر وجهيهما بأريج خَدَرٍ ممتع.. لم يكن يدري أهو في حلم أم حقيقة. حلّقت تصوراته على متن أبخرة بنفسجيّة، كفٌّ تعتصر الكأس وأخرى على الخاصرة، وهواجس ترسم على صدره لوحاتٍ سريالية غامضة. قبل انبثاق الفجر، استفاق ليجد نفسه ممدَّداً إلى جانبها وهي تغطُّ في نومٍ هادئ عميق. وألقٌ نورانيٌّ يشعُّ من وجهها، يضيءُ ملامحَ الرضاء والبهجة المتألّقة.. أدام النظر إليها طويلاً.. تمتم بكلمات مبهمة،... وطوّقها بذراعيه مستسلماً لدفءٍ سرمديّ أصيل... عندما أغمض عينيه لتغيم الأشياء من حوله، استبدّت به صورة آسرة، ملوّنة الأطياف... المدرسة، والورشة، وأسرة مؤلّفة من خمسة.
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
راديو قصيمي نت | مطبخ قصيمي نت | قصص قصيمي نت | العاب قصيمي نت |