رحلة إلى نجد، مهد العشائر العربية»..
سحر الشرق يقود الليدي آن بلنت إلى صحراء «ألف ليلة وليلة»
آن وولفريد باللباس العربي
دمشق - إبراهيم حاج عبدي
اكتسب الشرق في مخيلة الغربيين أبعادا ودلالات اقتربت من الأسطورة والخرافة، وأخذ هذا الشرق يتمتع في تلك المخيلة بصفة تكاد تكون «نمطية» تنطوي على الصدق حينا، وعلى الكثير من التصورات والأوهام الغامضة في أحيان أخرى، ولعل هذه التصورات، التي راحت تتضخم عبر العصور، جاءت من القصص والروايات التي تروى عن الشرق، ولا شك أن أهم عمل ساهم في صياغة هذه التصورات، وأطلق العنان للمخيلة، هو كتاب «ألف ليلة وليلة» الذي يقدم وبشكل مدهش قصصا خرافية تتحدث عن الأسفار في الصحراء والبحار، وعن الجن، والأقزام، واللصوص، وعن الليالي الملاح، وعن جمال النساء الشرقيات، وعن الوقائع والحوادث الخارقة...وذلك في سرد يومي متلاحق ترويه شهرزاد لزوجها شهريار تجنبا لعقوبة الموت التي تنتظرها إن هي أخفقت في خلق التشويق لدى شهريار، فالخدعة قائمة على أن ينتظر بشغف الليلة التالية ليسمع بقية القصة، وبهذا المعنى فإن شهرزاد حافظت على حياتها عبر فضيلة القص المباركة على عكس سابقاتها اللواتي قتلن.
فالشرق في هذا العمل وفي غيره من الأعمال هو متحف للأعراق، والاثنيات، والثقافات المختلفة، وهو فضاء تتعدد فيه الآلهة والقديسون، الأشرار والأتقياء، وهو موطن حافل بالخرافة والأساطير القادمة من تاريخ غابر، فها هو - على سبيل المثال - بطل رواية (طريق القلب) للروائي الأسباني فرناندو سانتشث دراغو يشرح سبب توقه إلى القيام برحلة إلى الشرق الآسيوي: «يحكون أن الناس يعيشون هناك دون الحاجة للمال، وأنهم رقيقون ومضيافون، والمعابد تؤوي الزوار، والقوانين غير موجودة أو أنها لا تطبق، وأن جوهرا غامضا وحادا يدور بشكل حر، قادرا على نقل الروح إلى مناطق الأثير»، كما أن هذا الشرق يضع أستارا، وحجبا في ما يتعلق بالجواري، والحسان، وكل ذلك أجج مخيلة الغربيين من الرحالة، والمؤرخين، والأدباء، والسياح، والتجار، والرسامين، والسياسيين، والفنانين الذين سعوا، وفي فترات تاريخية مختلفة، إلى زيارة هذا المسرح الشرقي المتلون أملا في خوض تجربة تخرجهم من رتابة الواقع في رفاهية المدن الأوربية، ورغبة في خوض مغامرة على أرض تصلح للمغامرة، وفي بلاد لا تني تغذي بحكاياتها وقصصها تلك النزعة الغربية التي هامت بالشرق.
الغلاف
رحلة آن بلنت إلى نجد:
وفي كثير من المرات قام هؤلاء بتدوين تفاصيل رحلاتهم في كتب عديدة صدرت في العواصم الأوربية المختلفة، ألفت على مدى العصور مكتبة أدبية لدرجة أصبحت معها من الأهمية بمكان العودة إلى هذه المصادر، ومحاولة ترجمة هذه الأعمال لما تزخر به من معلومات تاريخية، وسياسية، واجتماعية، واقتصادية هامة، ولعل هذا الدافع هو الذي يقف وراء مشروع دار المدى في دمشق المتمثل في إصدار سلسلة تحت عنوان «البحث عن الشرق» في محاولة لإحياء هذا التراث الغربي المعروف بـ «أدب الرحلات» الذي سجل ملامح الحياة في الشرق بكل تفاصيله بعيون غربية، وبأقلام كتاب من جنسيات أوربية عديدة، ومن مستويات مختلفة مثل: غوتيه، فولتير، جوزيف كونراد، غي دي موباسان، رامبو، جين دكبي، وويليام ب سيبروك...وغيرهم فضلا عن قائمة طويلة من الباحثين والكتاب الذين اهتموا بالشرق من مختلف النواحي وعرفوا بـ «المستشرقين».
جديد دار المدى ضمن سلسلة «البحث عن الشرق» هو كتاب «رحلة إلى نجد، مهد القبائل العربية»، الذي قام بترجمته «أحمد ايبش» الذي كتب مقدمة وافية للكتاب وزود الطبعة العربية هذه بمجموعة من الصور النادرة التي ترصد مسار الرحلة وأهم المحطات فيها، وكما يشير العنوان فإن الكتاب يتحدث عن رحلة قامت بها الرحالة البريطانية الليدي آن بلنت، فروت فيه أحداث هذه الرحلة المضنية من دمشق إلى حائل في أواخر القرن التاسع عشر عندما لم يكن هناك من وسيلة للتنقل سوى الدواب، فكانت أول امرأة أوربية تغامر باقتحام مجاهل صحراء النفود، وتتحدى مشاق السفر، ومخاطر الطرق الوعرة المليئة بالحيوانات الضارية، الخالية، ولمسافات طويلة، من البشر.
آن بلنت (1837- 1917)هي سيدة مثقفة، ورحالة جريئة أضافت إلى أدب الرحلات الغربية في الشرق نصوص رحلتين فريدتين إلى الجزيرة الفراتية السورية، وشمال شبه الجزيرة العربية. وهي حفيدة الشاعر الإنكليزي اللورد بايرون، وسليلة أسرة نبيلة توارثت العلم والأدب، وهي تزوجت من الشاعر الانكليزي ولفريد سكاون بلنت الذي امضى شطرا من حياته في الشرق الأوسط ديبلوماسيا حيث عمل في بغداد ودمشق والقاهرة، وارتبط بعلاقات صداقة مع شخصيات عربية بارزة، مثل أحمد عرابي ومحمد عبده، ونشر كتاباً مهماً بعنوان «التاريخ السري لاحتلال الإنكليز لمصر»، كما كتب، بدوره، وصفاً شاملاً لهذه الرحلة بعنوان: «زيارة إلى جبل شمر»، نشره في مجلة الجمعية الجغرافية الملكية في لندن عام 1880، وبذلك فإن القدر قد جمع بين أديبين يعشقان حياة المغامرة والترحال في بوادي الشام والجزيرة العربية في عامي 1878 و1879، ودونت آن بلنت أحداث الرحلتين في كتابين أولهما «عشائر بدو الفرات»، والثاني «رحلة إلى نجد» الذي نعرض له.
قبل مغادرة دمشق المحطة الأولى في الرحلة إلى نجد، تلتقي آن بلنت وزوجها في هذه المدينة التي كانت خاضعة - آنذاك - للسلطة العثمانية، بالليدي جين دغبي المرأة الإنكليزية النبيلة التي عشقت سحر الشرق وتزوجت من الشيخ البدوي مجول المصرب، كما تلتقي بالأمير عبد القادر الجزائري الذي قاتل ضد الفرنسيين مدة 15 عاما، فنفي إلى دمشق منذ عام 1855 حتى وفاته 1883، كما عقدت بلنت لقاءات مع شخصيات متعددة من أبرزهم مدحت باشا الوالي العثماني آنذاك لمدينة دمشق، وزارت العديد من المعالم الأثرية، والأسواق الشعبية لتتعرف على أجواء المدينة، ولتجمع ما هو ممكن من المعلومات المفيدة حول طريق رحلتها المجهولة والطويلة إلى نجد، ولتأمين كل مستلزمات هذه الرحلة.
واحة الجوف
شغف ولهفة:
بذلك الشغف الذي يعتمل في قلوب المغامرين، وبتلك اللهفة التي تستقر بين حنايا أرواح الحالمين تقتحم الليدي بلنت الصحراء على ظهور الخيول والجمال، برفقة زوجها ولفريد بلنت وبعض المرافقين ومجموعة من الأدلاء، فتنطلق من دمشق مرورا بحوران، واللجاة، والحماد، ووادي السرحان، والجوف، وصحراء النفود...وصولا إلى حائل في نجد، وهي خلال هذه الرحلة الشاقة والمضنية التي بدأت في نهاية عام 1878 واستمرت ثلاثة اشهر، كانت تسجل يومياتها، فمثلما ان شهرزاد نجت بنفسها من الموت عن طريق القص، فان بلنت تخفف من متاعب السفر ومشقاته، وأهواله بالقص والكتابة، فتسجل تفاصيل الرحلة بكل ما فيها من دهشة، وإعجاب، ومخاوف، ومخاطر.
المؤلف مع فرس عربية
تقدم بلنت في كتابها نصا أشبه بالسيناريو السينمائي فلا تترك شيئا تقع عيناها عليه إلا وتسجله، لكنها ترسم ذلك بخطوط بارعة، ولقطات ذكية، فهي أتقنت الرسم على يد الفنان والناقد الإنكليزي الشهير جون راسكين، إلى جانب دراستها للموسيقى وخبرتها في أنواع الخيول العربية خصوصاً، ومعرفتها الواسعة بالجيولوجيا والآثار...فتقوم بتوظيف كل هذه الخبرات في معاينة هذه الأرض الواسعة المفتوحة على الآفاق الرحبة التي تحرض المخيلة على العمل، فتكتب المؤلفة بتفصيل دقيق عن طبيعة البدو، وعن طبيعة الحياة في الأماكن التي مرت بها، وتسلط الضوء على عاداتهم، وتقاليدهم، وطقوسهم، ونمط معيشتهم وإكرامهم للضيف، ولا تغفل عن الحديث عن مفردات البيئة، وثقافتها، وعناصر الطبيعة من الحيوانات والنباتات، والرمال، والأطلال الدارسة، وذلك عبر وصف لا تنقصه تلك اللغة الشاعرية الحالمة: «كان الغروب قد حل تقريبا عندما رأينا جبّة للمرة الأولى، تحتنا عند طرف السبخة، أشجار نخيل خضراء داكنة تقطع اللون الأزرق الباهت للبحيرة الجافة، وما وراء ذلك نسق من الصخور الحمراء ينتصب في صحراء النفود الوردية، وفي مقدمة المشهد رمل اصفر مكلل بالدر.كان المشهد برمته متوشحا في ضوء المساء، بديعا فوق كل وصف»، وعندما تصف خيلا تكتب بدقة تثير الإعجاب: «إنها فرس جميلة كستنائية، مطلقة اليمين، على خشمها غرّة (وضحة)، لها طريقة رائعة في الحركة..،جمالها يفوق سرعتها، رأسها جيد، عيناها واسعتان براقتان، جبهتها مسطحة، خدودها غائرة، حاركها منيف وظهرها قصير، أردافها مستديرة..،أوتارها قوية وحوافرها كبيرة مدورة، مكتنزة بشكل رائع...»، وفي مقطع آخر نجدها تصف صحراء النفود فتقول: «إن منظرها بديع إذ تتكون من رمل ابيض نقي، ارتفاعها بين خمسين ومئة قدم، تتخللها بقع من الأرض الصلبة، وتكسوها الأعشاب. فيما ينمو الغضا هنا بشكل أشجار ذات جذوع كثيرة العقد، بيضاء تقريبا، لها أوراق رمادية خفيفة». وتضيف: «لونها أحمر زاه يكاد يكون قرمزيا في الصباح عندما يرطبها الندى. أما رمالها فهي خشنة، ولكنها نقية لا تشوبها أية مادة دخيلة كالحصيات أو حبيبات الرمل الكبيرة أو التراب، ويبقى لونها، ومادتها ثابتين في كل أنحائها. ومن الخطأ الكبير أن نعتبرها صحراء قاحلة، بل هي على العكس غنية بالشجيرات والكلأ اكثر من أي جزء من البوادي التي مررنا بها منذ مغادرتنا لدمشق».
وهي تستهل كل فصل باقتباس جملة أو مقطع من أعمال المشاهير في الغرب فتدرج، مثلا، قولا لشكسبير يقول «تلك المفاوز القصية والبلاقع النائية، أحب إلى نفسي من المدن الآهلة بالناس» وكأنها بذلك تبرر لنفسها القيام بهذه الرحلة التي قادتها من رفاهية الحياة في بلدها إلى خوض تجربة محفوفة بالمخاطر، والتعب، والمفاجآت، وتقتبس عن لافونتين هذا المقطع «حجاجنا الجسورون/ عبر الوديان والدروب/في خاتمة المطاف سيبلغون مسعاهم»، وعن والتر سكوت تقتبس ما يتلاءم مع ما تشاهده: «كانت الصخور تتناثر عشوائيا، جروف صخرية سوداء شديدة الانحدار، وآكام سود من الحجارة».
نساء البدو الجميلات:
وكانت نساء البدو تجذب اهتمام الليدي آن بلنت سليلة النبلاء، ففي محطات الاستراحة التي تتوقف فيها القافلة في هذه القرية أو تلك ولدى هذا الشيخ أو ذاك كانت بلنت تتعمد أن تترك مجلس الرجال لتذهب إلى غرف النساء وتتحدث إليهن، وتتعرف على معاناتهن، وطريقتهن في الحياة، وتقرأ أفكارهن، وتصغي إلى قصصهن، وتحاورهن في شؤون مختلفة من حياتهن، وتكشف عن همومهن وأحلامهن،وها هي تتحدث عن إحدى البدويات، اسمها مطرة، فتقول: «لقد أحببت وجه مطرة مذ رأيتها، فلها نظرة صادقة تحدق إليك مباشرة بعينيها السوداوين الكبيرتين كعيني الخشف. لها بشرة لامعة نضرة، وصوت مبتهج محبب»، وكانت بلنت تحرص في كل مرة أن تتصرف مثلهن وان تكتسب عادات البدو وطباعهم لئلا تبدو غريبة، ونافرة وسط هذه الصحراء وناسها القساة، الكرماء، وفي صفحات الكتاب نشاهد لها صورا كثيرة وهي ترتدي الزي البدوي كدلالة على حبها وتعلقها بحياة الصحراء.
في العام 1881 انتقل الزوجان بلنت إلى مصر، واشتريا مزرعة الشيخ عبيد، جمعا فيها عدداً كبيراً من الخيول العربية، إضافة إلى المزرعة الأخرى التي يمتلكانها في بريطانيا، وبعد انفصال الزوجين في عام 1906، سافر ولفريد إلى بريطانيا، وبقيت آن في مصر حتى وفاتها عام 1917، وظل كتابها «رحلة إلى نجد» وثيقة حية عن الحياة البدوية قبل قرن وربع، والملاحظ ان ابنتها جوديث سارت على خطى والدتها، إذ زارت أيضا في العام 1924 السعودية وبقيت كوالدتها تحن إلى الشرق، وتتابع تقاليد الفروسية العربية، وتقرأ أشعار الفرسان العرب كعنترة وامرئ القيس وغيرهم