فصل :
وأما نفي النافي " للصفات الخبرية " المعينة ؛ فلاستلزامها التركيب المستلزم للحاجة والافتقار : فقد تقدم جواب نظيره فإنه إن أريد بالتركيب ما هو المفهوم منه في اللغة أو في العرف العام أو عرف بعض الناس - وهو ما ركبه غيره - أو كان متفرقا فاجتمع أو ما جمع الجواهر الفردة أو المادة والصورة أو ما أمكن مفارقة بعضه لبعض فلا نسلم المقدمة الأولى ولا نسلم أن إثبات الوجه واليد مستلزم للتركيب بهذا الاعتبار . وإن أريد به التلازم على معنى امتياز شيء عن شيء في نفسه وأن هذا ليس هذا : فهذا لازم لهم في الصفات المعنوية المعلومة بالعقل كالعلم والقدرة والسمع والبصر فإن الواحدة من هذه الصفات ليست هي الأخرى ؛ بل كل صفة ممتازة بنفسها عن الأخرى وإن كانتا متلازمتين يوصف بهما موصوف واحد . ونحن نعقل هذا في صفات المخلوقين كأبعاض الشمس وأعراضها . وأيضا : فإن أريد أنه لا بد من وجود ما بالحاجة والافتقار إلى مباين له فهو ممنوع وإن أريد أنه لا بد من وجود ما هو داخل في مسمى اسمه ؛ وأنه يمتنع وجود الواجب بدون تلك الأمور الداخلة في مسمى اسمه : فمعلوم أنه لا بد له من نفسه فلا بد له مما يدخل في مسماها بطريق الأولى الأحرى . وإذا قيل : هو مفتقر إلى نفسه لم يكن معناه أن نفسه تفعل نفسه ؛ فكذلك ما هو داخل فيها ؛ ولكن العبارة موهمة مجملة فإذا فسر المعنى زال المحذور . ويقال أيضا : نحن لا نطلق على هذا اللفظ الغير ؛ فلا يلزمه أن يكون محتاجا إلى الغير فهذا من جهة الإطلاق اللفظي ؛ وأما من جهة الدليل العلمي فالدليل دل على وجود موجود بنفسه لا فاعل ولا علة فاعلة وأنه مستغن بنفسه عن كل ما يباينه . وأما الوجود الذي لا يكون له صفة ولا يدخل في مسمى اسمه معنى من المعاني الثبوتية : فهذا إذا ادعى المدعي أنه المعني بوجوب الوجود وبالغني . قيل له : لكن هذا المعنى ليس هو مدلول الأدلة ؛ ولكن أنت قدرت أن هذا مسمى الاسم وجعل اللفظ دليلا على هذا المعنى لا ينفعك إن لم يثبت أن المعنى حق في نفسه ولا دليل لك على ذلك ؛ بل الدليل يدل على نقيضه . فهؤلاء عمدوا إلى لفظ الغني والقديم والواجب بنفسه فصاروا يحملونها على معاني تستلزم معاني تناقض ثبوت الصفات وتوسعوا في التعبير ثم ظنوا أن هذا الذي فعلوه هو موجب الأدلة العقلية وغيرها . وهذا غلط منهم . فموجب الأدلة العقلية لا يتلقى من مجرد التعبير وموجب الأدلة السمعية يتلقى من عرف المتكلم بالخطاب لا من الوضع المحدث ؛ فليس لأحد أن يقول : إن الألفاظ التي جاءت في القرآن موضوعة لمعان ثم يريد أن يفسر مراد الله بتلك المعاني ؛ هذا من فعل أهل الإلحاد المفترين . فإن هؤلاء عمدوا إلى معان ظنوها ثابتة ؛ فجعلوها هي معنى الواحد والواجب والغني والقديم ونفي المثل ؛ ثم عمدوا إلى ما جاء في القرآن والسنة من تسمية الله تعالى بأنه أحد وواحد علي ونحو ذلك من نفي المثل والكفؤ عنه . فقالوا : هذا يدل على المعاني التي سميناها بهذه الأسماء وهذا من أعظم الافتراء على الله . وكذلك " المتفلسفة " عمدوا إلى لفظ الخالق والفاعل والصانع والمحدث ونحو ذلك . فوضعوها لمعنى ابتدعوه وقسموا الحدوث إلى نوعين : ذاتي وزماني وأرادوا بالذاتي كون المربوب مقارنا للرب أزلا وأبدا ؛ فإن اللفظ على هذا المعنى لا يعرف في لغة أحد من الأمم ؛ ولو جعلوا هذا اصطلاحا لهم لم تنازعهم فيه ؛ لكن قصدوا بذلك التلبيس على الناس وأن يقولوا نحن نقول بحدوث العالم وأن الله خالق له وفاعل له وصانع له ونحو ذلك من المعاني التي يعلم بالاضطرار أنها تقتضي تأخر المفعول لا يطلق على ما كان قديما بقدم الرب مقارنا له أزلا وأبدا . وكذلك فعل من فعل بلفظ " المتكلم " وغير ذلك من الأسماء ولو فعل هذا بكلام سيبويه وبقراط : لفسد ما ذكروه من النحو والطب ؛ ولو فعل هذا بكلام آحاد العلماء كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة : لفسد العلم بذلك ولكان ملبوسا عليهم فكيف إذا فعل هذا بكلام رب العالمين . وهذه طريقة الملاحدة الذين ألحدوا في أسماء الله وآياته ومن شاركهم في بعض ذلك . مثل قول من يقول : " الواحد " الذي لا ينقسم ومعنى قوله : لا ينقسم أي لا يتميز منه شيء عن شيء ويقول لا تقوم به صفة . ثم زعموا أن الأحد والواحد في القرآن يراد به هذا . ومعلوم أن كل ما في القرآن من اسم الواحد والأحد كقوله تعالى : { وإن كانت واحدة فلها النصف } وقوله : { قالت إحداهما يا أبت استأجره } وقوله : { ولم يكن له كفوا أحد } وقوله : { وإن أحد من المشركين استجارك } وقوله : { ذرني ومن خلقت وحيدا } وأمثال ذلك يناقض ما ذكروه فإن هذه الأسماء أطلقت على قائم بنفسه مشار إليه يتميز منه شيء عن شيء . وهذا الذي يسمونه في اصطلاحهم جسما . وكذلك إذا قالوا : الموصوفات تتماثل والأجسام تتماثل والجواهر تتماثل وأرادوا أن يستدلوا بقوله تعالى : { ليس كمثله شيء } على نفي مسمى هذه الأمور التي سموها بهذه الأسماء في اصطلاحهم الحادث كان هذا افتراء على القرآن ؛ فإن هذا ليس هو المثل في لغة العرب ؛ ولا لغة القرآن ولا غيرهما . قال تعالى : { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } . فنفى مماثلة هؤلاء مع اتفاقهم في الإنسانية فكيف يقال : إن لغة العرب توجب أن كل ما يشار إليه مثل كل ما يشار إليه . وقال تعالى : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد } { إرم ذات العماد } { التي لم يخلق مثلها في البلاد } فأخبر أنه لم يخلق مثلها في البلاد وكلاهما بلد ؛ فكيف يقال إن كل جسم فهو مثل لكل جسم في لغة العرب حتى يحمل على ذلك قوله : { ليس كمثله شيء } . وقد قال الشاعر : ليس كمثل الفتى زهير وقال : ما إن كمثلهم في الناس من بشر ولم يقصد هذا أن ينفي وجود جسم من الأجسام . وكذلك لفظ " التشابه " ليس هو التماثل في اللغة قال تعالى : { وأتوا به متشابها } وقال تعالى { متشابها وغير متشابه } ولم يرد به شيئا هو مماثل في اللغة وليس المراد هنا كون الجواهر متماثلة في العقل أو ليست متماثلة ؛ فإن هذا مبسوط في موضعه ؛ بل المراد أن أهل اللغة التي بها نزل القرآن لا يجعلون مجرد هذا موجبا لإطلاق اسم المثل ؛ ولا يجعلون نفي المثل نفيا لهذا فحمل القرآن على ذلك كذب على القرآن .
فصل : وقول القائل :
" المناسبة " لفظ مجمل ؛ فإنه قد يراد بها التولد والقرابة فيقال : هذا نسيب فلان ويناسبه ؛ إذا كان بينهم قرابة مستندة إلى الولادة والآدمية والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك ويراد بها المماثلة فيقال : هذا يناسب هذا : أي يماثله . والله سبحانه وتعالى أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد . ويراد بها الموافقة في معنى من المعاني وضدها المخالفة . و " المناسبة " بهذا الاعتبار ثابتة فإن أولياء الله تعالى يوافقونه فيما يأمر به فيفعلونه وفيما يحبه فيحبونه وفيما نهى عنه فيتركونه وفيما يعطيه فيصيبونه . والله وتر يحب الوتر جميل يحب الجمال عليم يحب العلم نظيف يحب النظافة محسن يحب المحسنين مقسط يحب المقسطين إلى غير ذلك من المعاني ؛ بل هو سبحانه يفرح بتوبة التائب أعظم من فرح الفاقد لراحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة إذا وجدها بعد اليأس فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته كما ثبت ذلك في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم . فإذا أريد " بالمناسبة " هذا وأمثاله فهذه المناسبة حق وهي من صفات الكمال كما تقدمت الإشارة إليه فإن من يحب صفات الكمال أكمل ممن لا فرق عنده بين صفات النقص والكمال ؛ أو لا يحب صفات الكمال . وإذا قدر موجودان : ( أحدهما يحب العلم والصدق والعدل والإحسان ونحو ذلك . و ( الآخر لا فرق عنده بين هذه الأمور وبين الجهل والكذب والظلم ونحو ذلك لا يحب هذا ولا يبغض هذا كان الذي يحب تلك الأمور أكمل من هذا . فدل على أن من جرده عن " صفات الكمال والوجود " بأن لا يكون له علم كالجماد فالذي يعلم أكمل منه ؛ ومعلوم أن الذي يحب المحمود ويبغض المذموم : أكمل ممن يحبهما أو يبغضهما . وأصل " هذه المسألة " الفرق بين محبة الله ورضاه وغضبه وسخطه وبين إرادته كما هو مذهب السلف والفقهاء وأكثر المثبتين للقدر من أهل السنة وغيرهم وصار طائفة من القدرية والمثبتين للقدر إلى أنه لا فرق بينهما . ثم قالت " القدرية " : هو لا يحب الكفر والفسوق والعصيان ولا يريد ذلك فيكون ما لم يشأ ويشاء ما لم يكن . وقالت " المثبتة " ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وإذن قد أراد الكفر والفسوق والعصيان ولم يرده دينا أو أراده من الكافر ولم يرده من المؤمن فهو لذلك يحب الكفر والفسوق والعصيان ولا يحبه دينا ويحبه من الكافر ولا يحبه من المؤمن . وكلا القولين خطأ مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها ؛ فإنهم متفقون على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا يكون شيء إلا بمشيئته ومجمعون على أنه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر وأن الكفار يبيتون ما لا يرضى من القول والذين نفوا محبته بنوها على هذا الأصل الفاسد .
فصل :
وأما قول القائل : " الرحمة " ضعف وخور في الطبيعة وتألم على المرحوم فهذا باطل . أما " أولا " : فلأن الضعف والخور مذموم من الآدميين والرحمة ممدوحة ؛ وقد قال تعالى : { وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة } وقد نهى الله عباده عن الوهن والحزن ؛ فقال تعالى : { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } وندبهم إلى الرحمة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : { لا تنزع الرحمة إلا من شقي } وقال : { من لا يرحم لا يرحم } وقال : { الراحمون يرحمهم الرحمن . ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء } . ومحال أن يقول : لا ينزع الضعف والخور إلا من شقي ؛ ولكن لما كانت الرحمة تقارن في حق كثير من الناس الضعف والخور - كما في رحمة النساء ونحو ذلك - ظن الغالط أنها كذلك مطلقا . و ( أيضا : فلو قدر أنها في حق المخلوقين مستلزمة لذلك لم يجب أن تكون في حق الله تعالى مستلزمة لذلك كما أن العلم والقدرة ؛ والسمع والبصر والكلام فينا يستلزم من النقص والحاجة ما يجب تنزيه الله عنه . وكذلك " الوجود " و " القيام بالنفس " فينا : يستلزم احتياجا إلى خالق يجعلنا موجودين والله منزه في وجوده عما يحتاج إليه وجودنا فنحن وصفاتنا وأفعالنا مقرونون بالحاجة إلى الغير والحاجة لنا أمر ذاتي لا يمكن أن نخلو عنه وهو سبحانه الغني له أمر ذاتي لا يمكن أن يخلو عنه ؛ فهو بنفسه حي قيوم واجب الوجود ونحن بأنفسنا محتاجون فقراء . فإذا كانت ذاتنا وصفاتنا وأفعالنا وما اتصفنا به من الكمال من العلم والقدرة وغير ذلك هو مقرون بالحاجة والحدوث والإمكان : لم يجب أن يكون لله ذات ولا صفات ولا أفعال ولا يقدر ولا يعلم ؛ لكون ذلك ملازما للحاجة فينا . فكذلك " الرحمة " وغيرها إذا قدر أنها في حقنا ملازمة للحاجة والضعف ؛ لم يجب أن تكون في حق الله ملازمة لذلك . وأيضا : فنحن نعلم بالاضطرار أنا إذا فرضنا موجودين أحدهما يرحم غيره فيجلب له المنفعة ويدفع عنه المضرة ؛ والآخر قد استوى عنده هذا وهذا وليس عنده ما يقتضي جلب منفعة ولا دفع مضرة : كان الأول أكمل .
فصل : وأما قول القائل :
" الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام " فليس بصحيح في حقنا ؛ بل الغضب قد يكون لدفع المنافي قبل وجوده فلا يكون هناك انتقام أصلا . وأيضا : فغليان دم القلب يقارنه الغضب ليس أن مجرد الغضب هو غليان دم القلب كما أن " الحياء " يقارن حمرة الوجه و " الوجل " يقارن صفرة الوجه ؛ لا أنه هو . وهذا لأن النفس إذا قام بها دفع المؤذي فإن استشعرت القدرة فاض الدم إلى خارج فكان منه الغضب وإن استشعرت العجز عاد الدم إلى داخل ؛ فاصفر الوجه كما يصيب الحزين . وأيضا : فلو قدر أن هذا هو حقيقة غضبنا لم يلزم أن يكون غضب الله تعالى مثل غضبنا ؛ كما أن حقيقة ذات الله ليست مثل ذاتنا فليس هو مماثلا لنا : لا لذاتنا ولا لأرواحنا وصفاته كذاته . ونحن نعلم بالاضطرار أنا إذا قدرنا موجودين : أحدهما عنده قوة يدفع بها الفساد . والآخر لا فرق عنده بين الصلاح والفساد كان الذي عنده تلك القوة أكمل . ولهذا يذم من لا غيرة له على الفواحش كالديوث ويذم من لا حمية له يدفع بها الظلم عن المظلومين ويمدح الذي له غيرة يدفع بها الفواحش وحمية يدفع بها الظلم ؛ ويعلم أن هذا أكمل من ذلك . ولهذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم الرب بالأكملية في ذلك فقال في الحديث الصحيح : { لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن } وقال : { أتعجبون من غيرة سعد ؟ أنا أغير منه والله أغير مني } . وقول القائل : إن هذه انفعالات نفسانية . فيقال : كل ما سوى الله مخلوق منفعل ونحن وذواتنا منفعلة فكونها انفعالات فينا لغيرنا نعجز عن دفعها : لا يوجب أن يكون الله منفعلا لها عاجزا عن دفعها وكان كل ما يجري في الوجود فإنه بمشيئته وقدرته لا يكون إلا ما يشاء ولا يشاء إلا ما يكون له الملك وله الحمد .
فصل : وقول القائل :
" إن الضحك خفة روح " ليس بصحيح ؛ وإن كان ذلك قد يقارنه . ثم قول القائل : " خفة الروح " . إن أراد به وصفا مذموما فهذا يكون لما لا ينبغي أن يضحك منه وإلا فالضحك في موضعه المناسب له صفة مدح وكمال وإذا قدر حيان أحدهما يضحك مما يضحك منه ؛ والآخر لا يضحك قط كان الأول أكمل من الثاني . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم { ينظر إليكم الرب قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب فقال له أبو رزين العقيلي : يا رسول الله أو يضحك الرب ؟ قال : نعم قال : لن نعدم من رب يضحك خيرا } . فجعل الأعرابي العاقل - بصحة فطرته - ضحكه دليلا على إحسانه وإنعامه ؛ فدل على أن هذا الوصف مقرون بالإحسان المحمود وأنه من صفات الكمال والشخص العبوس الذي لا يضحك قط هو مذموم بذلك وقد قيل في اليوم الشديد العذاب : إنه { يوما عبوسا قمطريرا } . وقد روي : أن الملائكة قالت لآدم : " حياك الله وبياك " أي أضحكك . والإنسان حيوان ناطق ضاحك ؛ وما يميز الإنسان عن البهيمة صفة كمال فكما أن النطق صفة كمال فكذلك الضحك صفة كمال فمن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم ومن يضحك أكمل ممن لا يضحك وإذا كان الضحك فينا مستلزما لشيء من النقص فالله منزه عن ذلك وذلك الأكثر مختص لا عام فليس حقيقة الضحك مطلقا مقرونة بالنقص كما أن ذواتنا وصفاتنا مقرونة بالنقص ووجودنا مقرون بالنقص ولا يلزم أن يكون الرب موجدا وأن لا تكون له ذات . ومن هنا ضلت القرامطة الغلاة كصاحب " الإقليد " وأمثاله فأرادوا أن ينفوا عنه كل ما يعلمه القلب وينطق به اللسان من نفي وإثبات فقالوا : لا نقول موجود ولا لا موجود ولا موصوف ولا لا موصوف ؛ لما في ذلك - على زعمهم - من التشبيه وهذا يستلزم أن يكون ممتنعا وهو مقتضى التشبيه بالممتنع والتشبيه الممتنع على الله أن يشارك المخلوقات في شيء من خصائصها وأن يكون مماثلا لها في شيء من صفاته كالحياة والعلم والقدرة فإنه وإن وصف بها فلا تماثل صفة الخالق صفة المخلوق كالحدوث والموت والفناء والإمكان .
فصل : وأما قوله :
" التعجب استعظام للمتعجب منه " . فيقال : نعم . وقد يكون مقرونا بجهل بسبب التعجب وقد يكون لما خرج عن نظائره والله تعالى بكل شيء عليم فلا يجوز عليه أن لا يعلم سبب ما تعجب منه ؛ بل يتعجب لخروجه عن نظائره تعظيما له . والله تعالى يعظم ما هو عظيم ؛ إما لعظمة سببه أو لعظمته . فإنه وصف بعض الخير بأنه عظيم . ووصف بعض الشر بأنه عظيم فقال تعالى : { رب العرش العظيم } وقال : { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } وقال : { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا } { وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما } وقال : { ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم } وقال : { إن الشرك لظلم عظيم } . ولهذا قال تعالى : { بل عجبت ويسخرون } على قراءة الضم فهنا هو عجب من كفرهم مع وضوح الأدلة . { وقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي آثر هو وامرأته ضيفهما : لقد عجب الله } وفي لفظ في الصحيح : { لقد ضحك الله الليلة من صنعكما البارحة } . وقال : { إن الرب ليعجب من عبده إذا قال رب اغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . يقول علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا } وقال : { عجب ربك من شاب ليست له صبوة } وقال : { عجب ربك من راعي غنم على رأس شظية يؤذن ويقيم فيقول الله انظروا إلى عبدي } أو كما قال . ونحو ذلك .
فصل : وأما قول القائل :
" لو كان في ملكه ما لا يريده لكان نقصا " . وقول الآخر : " لو قدر وعذب لكان ظلما والظلم نقص " . فيقال : أما المقالة الأولى فظاهرة : فإنه إذا قدر أنه يكون في ملكه ما لا يريده وما لا يقدر عليه ؛ وما لا يخلقه ولا يحدثه لكان نقصا من وجوه : ( أحدها أن انفراد شيء من الأشياء عنه بالأحداث نقص لو قدر أنه في غير ملكه فكيف في ملكه ؟ فإنا نعلم أنا إذا فرضنا اثنين : أحدهما يحتاج إليه كل شيء ولا يحتاج إلى شيء والآخر يحتاج إليه بعض الأشياء ويستغني عنه بعضها : كان الأول أكمل فنفس خروج شيء عن قدرته وخلقه نقص وهذه دلائل الوحدانية فإن الاشتراك نقص بكل من المشتركين وليس الكمال المطلق إلا في الوحدانية . فإنا نعلم أن من قدر بنفسه كان أكمل ممن يحتاج إلى معين ومن فعل الجميع بنفسه فهو أكمل ممن له مشارك ومعاون على فعل البعض ومن افتقر إليه كل شيء فهو أكمل ممن استغنى عنه بعض الأشياء . ( ومنها أن يقال : كونه خالقا لكل شيء وقادرا على كل شيء : أكمل من كونه خالقا للبعض وقادرا على البعض . و " القدرية " لا يجعلونه خالقا لكل شيء ولا قادرا على كل شيء . و " المتفلسفة " القائلون بأنه علة غائية شر منهم فإنهم لا يجعلونه خالقا لشيء من حوادث العالم - لا لحركات الأفلاك ولا غيرها من المتحركات ولا خالقا لما يحدث بسبب ذلك ولا قادرا على شيء من ذلك ولا عالما بتفاصيل ذلك والله سبحانه وتعالى يقول : { الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما } وهؤلاء ينظرون في العالم ولا يعلمون أن الله على كل شيء قدير ولا أن الله قد أحاط بكل شيء علما . ( ومنها أنا إذا قدرنا مالكين : ( أحدهما يريد شيئا فلا يكون ويكون ما لا يريد ( والآخر لا يريد شيئا إلا كان ولا يكون إلا ما يريد علمنا بالضرورة أن هذا أكمل . وفي الجملة قول " المثبتة للقدرة " يتضمن أنه خالق كل شيء وربه ومليكه وأنه على كل شيء قدير وأنه ما شاء كان ؛ فيقتضي كمال خلقه وقدرته ومشيئته و " نفاة القدر " يسلبونه هذه الكمالات . وأما قوله : " إن التعذيب على المقدر ظلم منه " فهذه دعوى مجردة ليس معهم فيها إلا قياس الرب على أنفسهم ولا يقول عاقل إن كل ما كان نقصا من أي موجود كان : لزم أن يكون نقصا من الله ؛ بل ولا يقبح هذا من الإنسان مطلقا ؛ بل إذا كان له مصلحة في تعذيب بعض الحيوان وأن يفعل به ما فيه تعذيب له حسن ذلك منه ؛ كالذي يصنع القز فإنه هو الذي يسعى في أن دود القز ينسجه ثم يسعى في أن يلقى في الشمس ليحصل له المقصود من القز وهو هنا له سعي في حركة الدود التي كانت سبب تعذيبه . وكذلك الذي يسعى في أن يتوالد له ماشية وتبيض له دجاج ثم يذبح ذلك لينتفع به فقد تسبب في وجود ذلك الحيوان تسببا أفضى إلى عذابه ؛ لمصلحة له في ذلك . ففي " الجملة " : الإنسان يحسن منه إيلام الحيوان لمصلحة راجحة في ذلك فليس جنس هذا مذموما ولا قبيحا ولا ظلما وإن كان من ذلك ما هو ظلم . وحينئذ فالظلم من الله إما أن يقال : هو ممتنع لذاته ؛ لأن الظلم تصرف المتصرف في غير ملكه والله له كل شيء ؛ أو الظلم مخالفة الأمر الذي تجب طاعته ؛ والله تعالى يمتنع منه التصرف في ملك غيره أو مخالفة أمر من يجب عليه طاعته . فإذا كان الظلم ليس إلا هذا أو هذا : امتنع الظلم منه . وإما أن يقال : هو ممكن لكنه سبحانه لا يفعله لغناه وعلمه بقبحه ؛ ولإخباره أنه لا يفعله ؛ ولكمال نفسه يمتنع وقوع الظلم منه إذ كان العدل والرحمة من لوازم ذاته ؛ فيمتنع اتصافه بنقيض صفات الكمال التي هي من لوازمه على هذا القول فالذي يفعله لحكمة اقتضت ذلك كما أن الذي يمتنع من فعله لحكمة تقتضي تنزيهه عنه . وعلى هذا فكل ما فعله علمنا أن له فيه حكمة ؛ وهذا يكفينا من حيث الجملة وإن لم نعرف التفصيل وعدم علمنا بتفصيل حكمته بمنزلة عدم علمنا بكيفية ذاته ؛ وكما أن ثبوت صفات الكمال له معلوم لنا وأما كنه ذاته فغير معلومة لنا فلا نكذب بما علمناه ما لم نعلمه . وكذلك نحن نعلم أنه " حكيم " فيما يفعله ويأمر به وعدم علمنا بالحكمة في بعض الجزئيات لا يقدح فيما علمناه من أصل حكمته ؛ فلا نكذب بما علمناه من حكمته ما لم نعلمه من تفصيلها . ونحن نعلم أن من علم حذق أهل الحساب والطب والنحو ولم يكن متصفا بصفاتهم التي استحقوا بها أن يكونوا من أهل الحساب والطب والنحو لم يمكنه أن يقدح فيما قالوه ؛ لعدم علمه بتوجيهه . والعباد أبعد عن معرفة الله وحكمته في خلقه من معرفة عوامهم بالحساب والطب والنحو فاعتراضهم على حكمته أعظم جهلا وتكلفا للقول بلا علم من العامي المحض إذا قدح في الحساب والطب والنحو بغير علم بشيء من ذلك . وهذا يتبين بالأصل الذي ذكرناه في الكمال وهو قولنا : إن الكمال الذي لا نقص فيه للممكن الوجود يجب اتصافه به وتنزيهه عما يناقضه فيقال : خلق بعض الحيوان وفعله الذي يكون سببا لعذابه هل هو نقص مطلقا أم يختلف ؟ . وأيضا فإذا كان في خلق ذلك حكمة عظيمة لا تحصل إلا بذلك فأيما أكمل تحصيل ذلك بتلك الحكمة العظيمة أو تفويتها ؟ وأيضا فهل يمكن حصول الحكمة المطلوبة بدون حصول هذا ؟ فهذه أمور إذا تدبرها الإنسان ؛ علم أنه لا يمكنه أن يقول خلق فعل الحيوان الذي يكون سببا لتعذيبه نقص مطلقا . و " المثبتة للقدر " قد تجيب بجواب آخر ؛ لكن ينازعهم الجمهور فيه . فيقولون : كونه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد صفة كمال بخلاف الذي يكون مأمورا منهيا الذي يؤمر بشيء وينهى عن شيء . ويقولون إنما قبح من غيره أن يفعل ما شاء لما يلحقه من الضرر وهو سبحانه لا يجوز أن يلحقه ضرر . والجمهور يقولون : إذا قدرنا من يفعل ما يريد بلا حكمة محبوبة تعود إليه ولا رحمة وإحسان يعود إلى غيره : كان الذي يفعل لحكمة ورحمة أكمل ممن يفعل لا لحكمة ولا لرحمة . ويقولون : إذا قدرنا مريدا لا يميز بين مراده ومراد غيره . ومريدا يميز بينهما ؛ فيريد ما يصلح أن يراد وينبغي أن يراد ؛ دون ما هو بالضد : كان هذا الثاني أكمل . ويقولون : المأمور المنهي الذي فوقه آمر ناه هو ناقص بالنسبة إلى من ليس فوقه آمر ناه لكن إذا كان هو الآمر لنفسه بما ينبغي أن يفعل والمحرم عليها ما لا ينبغي أن يفعل وآخر يفعل ما يريده بدون أمر ونهي من نفسه فهذا الملتزم لأمره ونهيه - الواقعين على وجه الحكمة - أكمل من ذلك ؛ وقد قال تعالى { كتب ربكم على نفسه الرحمة } وقال : { يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا } . وقالوا أيضا : إذا قيل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد على وجه بيان قدرته وأنه لا مانع له ولا يقدر غيره أن يمنعه مراده ولا أن يجعله مريدا كان هذا أكمل ممن له مانع يمنعه مراده ومعين لا يكون مريدا أو فاعلا لما يريد إلا به . وأما إذا قيل : يفعل ما يريد باعتبار أنه لا يفعل على وجه مقتضى العلم والحكمة ؛ بل هو ( متسفه فيما يفعله وآخر يفعل ما يريد ؛ لكن إرادته مقرونة بالعلم والحكمة ؛ كان هذا الثاني أكمل . و ( جماع الأمر في ذلك : أن كمال القدرة صفة كمال وكون الإرادة نافذة لا تحتاج إلى معاون ولا يعارضها مانع وصف كمال . وأما كون " الإرادة " لا تميز بين مراد ومراد بل جميع الأجناس عندها سواء فهذا ليس بوصف كمال ؛ بل الإرادة المميزة بين مراد ومراد - كما يقتضيه العلم والحكمة - هي الموصوفة بالكمال فمن نقصه في قدرته وخلقه ومشيئته فلم يقدره قدره . ومن نقصه من حكمته ورحمته فلم يقدره حق قدره . والكمال الذي يستحقه إثبات هذا وهذا .
فصل : وأما
" منكرو النبوات " وقولهم : ليس الخلق أهلا أن يرسل الله إليهم رسولا كما أن أطراف الناس ليسوا أهلا أن يرسل السلطان إليهم رسولا : فهذا جهل واضح في حق المخلوق والخالق فإن من أعظم ما تحمد به الملوك خطابهم بأنفسهم لضعفاء الرعية فكيف بإرسال رسول إليهم . وأما في حق الخالق فهو سبحانه أرحم بعباده من الوالدة بولدها وهو قادر مع كمال رحمته فإذا كان كامل القدرة كامل الرحمة فما المانع أن يرسل إليهم رسولا رحمة منه ؟ كما قال تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } . وقال النبي صلى الله عليه وسلم { إنما أنا رحمة مهداة } ولأن هذا من جملة إحسانه إلى الخلق بالتعليم والهداية وبيان ما ينفعهم وما يضرهم كما قال تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } فبين تعالى أن هذا من مننه على عباده المؤمنين . فإن كان المنكر ينكر قدرته على ذلك فهذا قدح في كمال قدرته وإن كان ينكر إحسانه بذلك فهذا قدح في كمال رحمته وإحسانه . فعلم أن إرسال الرسول من أعظم الدلالة على كمال قدرته وإحسانه والقدرة والإحسان من صفات الكمال لا النقص . وأما تعذيب المكذبين فذلك داخل في القدر لما له فيه من الحكمة .
فصل : وأما
" قول المشركين " : إن عظمته وجلاله يقتضي أن لا يتقرب إليه إلا بواسطة وحجاب والتقرب بدون ذلك غض من جنابه الرفيع فهذا باطل من وجوه : ( منها أن الذي لا يتقرب إليه إلا بوسائط وحجاب إما أن يكون قادرا على سماع كلام جنده وقضاء حوائجهم بدون الوسائط والحجاب وإما أن لا يكون قادرا فإن لم يكن قادرا كان هذا نقصا والله تعالى موصوف بالكمال ؛ فوجب أن يكون متصفا بأنه يسمع كلام عباده بلا وسائط ويجيب دعاءهم ويحسن إليهم بدون حاجة إلى حجاب وإن كان الملك قادرا على فعل أموره بدون الحجاب وترك الحجاب إحسانا ورحمة كان ذلك صفة كمال . وأيضا : فقول القائل : إن هذا غض منه إنما يكون فيمن يمكن الخلق أن يضروه ويفتقر في نفعه إليهم فأما مع كمال قدرته واستغنائه عنهم وأمنه أن يؤذوه فليس تقربهم إليه غضا منه ؛ بل إذا كان اثنان : أحدهما يقرب إليه الضعفاء إحسانا إليهم ولا يخاف منهم والآخر لا يفعل ذلك إما خوفا وإما كبرا وإما غير ذلك : كان الأول أكمل من الثاني : وأيضا فإن هذا لا يقال إذا كان ذلك بأمر المطاع ؛ بل إذا أذن للناس في التقرب منه ودخول داره : لم يكن ذلك سوء أدب عليه ولا غضا منه فهذا إنكار على من تعبده بغير ما شرع . ولهذا قال تعالى : { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا } { وداعيا إلى الله بإذنه } وقال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } .
فصل : وأما:
قول القائل : إنه لو قيل لهم أيما أكمل ؟ ذات توصف بسائر أنواع الإدراكات من الذوق والشم واللمس ؟ أم ذات لا توصف بها ؟ لقالوا : الأول أكمل ولم يصفوه بها . فتقول مثبتة الصفات لهم : في هذه الإدراكات ثلاثة أقوال معروفة : ( أحدها : إثبات هذه الإدراكات لله تعالى كما يوصف بالسمع والبصر . وهذا قول القاضي أبي بكر وأبي المعالي وأظنه قول الأشعري نفسه بل هو قول المعتزلة البصريين الذين يصفونه بالإدراكات . وهؤلاء وغيرهم يقولون : تتعلق به الإدراكات الخمسة أيضا كما تتعلق به الرؤية ؛ وقد وافقهم على ذلك القاضي أبو يعلى في " المعتمد " وغيره . ( والقول الثاني : قول من ينفي هذه الثلاثة ؛ كما ينفي ذلك كثير من المثبتة أيضا من الصفاتية وغيرهم . وهذا قول طوائف من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وكثير من أصحاب الأشعري وغيره . ( والقول الثالث : إثبات إدراك اللمس دون إدراك الذوق ؛ لأن الذوق إنما يكون للمطعوم فلا يتصف به إلا من يأكل ولا يوصف به إلا ما يؤكل والله سبحانه منزه عن الأكل بخلاف اللمس فإنه بمنزلة الرؤية وأكثر أهل الحديث يصفونه باللمس وكذلك كثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ولا يصفونه بالذوق . وذلك أن نفاة الصفات من المعتزلة قالوا للمثبتة : إذا قلتم إنه يرى . فقولوا إنه يتعلق به سائر أنواع الحس . وإذا قلتم إنه سميع بصير فصفوه بالإدراكات الخمسة . فقال " أهل الإثبات قاطبة " نحن نصفه بأنه يرى وأنه يسمع كلامه كما جاءت بذلك النصوص . وكذلك نصفه بأنه يسمع ويرى . وقال جمهور أهل الحديث والسنة : نصفه أيضا بإدراك اللمس لأن ذلك كمال لا نقص فيه . وقد دلت عليه النصوص بخلاف إدراك الذوق فإنه مستلزم للأكل وذلك مستلزم للنقص كما تقدم . وطائفة من نظار المثبتة وصفوه بالأوصاف الخمس من الجانبين . ومنهم من قال : إنه يمكن أن تتعلق به هذه الأنواع كما تتعلق به الرؤية لاعتقادهم أن مصحح الرؤية الوجود ولم يقولوا إنه متصف بها . وأكثر مثبتي الرؤية لم يجعلوا مجرد الوجود هو المصحح للرؤية ؛ بل قالوا إن المقتضى أمور وجودية لا أن كل موجود يصح رؤيته وبين الأمرين فرق ؛ فإن الثاني يستلزم رؤية كل موجود ؛ بخلاف الأول ؛ وإذا كان المصحح للرؤية هي أمور وجودية لا يشترط فيها أمور عدمية ؛ فما كان أحق بالوجود وأبعد عن العدم كان أحق بأن تجوز رؤيته ومنهم من نفى ما سوى السمع والبصر من الجانبين .
فصل : وأما قول القائل
: الكمال والنقص من الأمور النسبية : فقد بينا أن الذي يستحقه الرب هو الكمال الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه وأنه الكمال الممكن للموجود ومثل هذا لا ينتفي عن الله أصلا والكمال النسبي هو المستلزم للنقص ؛ فيكون كمالا من وجه دون وجه ؛ كالأكل للجائع كمال له وللشبعان نقص فيه ؛ لأنه ليس بكمال محض بل هو مقرون بالنقص . والتعالي والتكبر والثناء على النفس وأمر الناس بعبادته ودعائه والرغبة إليه ونحو ذلك مما هو من خصائص الربوبية هذا كمال محمود من الرب تبارك وتعالى وهو نقص مذموم من المخلوق . وهذا كالخبر عما هو من خصائص الربوبية ؛ كقوله : { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } وقوله تعالى { ادعوني أستجب لكم } وقوله : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } وقوله : { أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا } وقوله : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } وقوله : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } وقوله : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } { ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه } وأمثال هذا الكلام الذي يذكر الرب فيه عن نفسه بعض خصائصه وهو في ذلك صادق في إخباره عن نفسه بما هو من نعوت الكمال : هو أيضا من كماله فإن بيانه لعباده وتعريفهم ذلك هو أيضا من كماله . وأما غيره فلو أخبر بمثل ذلك عن نفسه لكان كاذبا مفتريا والكذب من أعظم العيوب والنقائص . وأما إذا أخبر المخلوق عن نفسه بما هو صادق فيه فهذا لا يذم مطلقا بل قد يحمد منه إذا كان في ذلك مصلحة كقول النبي صلى الله عليه وسلم { أنا سيد ولد آدم ولا فخر } . وأما إذا كان فيه مفسدة راجحة أو مساوية فيذم لفعله ما هو مفسدة لا لكذبه والرب تعالى لا يفعل ما هو مذموم عليه ؛ بل له الحمد على كل حال فكل ما يفعله هو منه حسن جميل محمود . وأما على قول من يقول : الظلم منه ممتنع لذاته فظاهر . وأما على قول الجمهور من أهل السنة والقدرية فإنه إنما يفعل بمقتضى الحكمة والعدل فأخباره كلها وأقواله وأفعاله كلها حسنة محمودة واقعة على وجه الكمال الذي يستحق عليه الحمد وله من الأمور التي يستحق بها الكبرياء والعظمة ما هو من خصائصه تبارك وتعالى . فالكبرياء والعظمة له بمنزلة كونه حيا قيوما قديما واجبا بنفسه وأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه العزيز الذي لا ينال وأنه قهار لكل ما سواه . فهذه كلها صفات كمال لا يستحقها إلا هو ؛ فما لا يستحقه إلا هو كيف يكون كمالا من غيره وهو معدوم لغيره ؟ فمن ادعاه كان مفتريا منازعا للربوبية في خواصها كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { يقول الله تعالى : العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدا منهما عذبته } . وجملة ذلك : أن الكمال المختص بالربوبية ليس لغيره فيه نصيب فهذا تحقيق اتصافه بالكمال الذي لا نصيب لغيره فيه . ومثل هذا الكمال لا يكون لغيره فادعاؤه منازعة للربوبية وفرية على الله . ومعلوم أن النبوة كمال للنبي وإذا ادعاها المفترون - كمسيلمة وأمثاله - كان ذلك نقصا منهم لا لأن النبوة نقص ؛ ولكن دعواها ممن ليست له هو النقص وكذلك لو ادعى العلم والقدرة والصلاح من ليس متصفا بذلك كان مذموما ممقوتا وهذا يقتضي أن الرب تعالى متصف بكمال لا يصلح للمخلوق وهذا لا ينافي أن ما كان كمالا للموجود من حيث هو موجود : فالخالق أحق به ؛ ولكن يفيد أن الكمال الذي يوصف به المخلوق بما هو منه إذا وصف الخالق بما هو منه فالذي للخالق لا يماثله ما للمخلوق ولا يقاربه . وهذا حق فالرب تعالى مستحق للكمال مختص به على وجه لا يماثله فيه شيء فليس له سمي ولا كفؤ سواء كان الكمال مما لا يثبت منه شيء للمخلوق كربوبية العباد والغنى المطلق ونحو ذلك أو كان مما يثبت منه نوع للمخلوق ؛ فالذي يثبت للخالق منه نوع هو أعظم مما يثبت من ذلك للمخلوق : عظمة هي أعظم من فضل أعلى المخلوقات على أدناها . و " ملخص ذلك " أن المخلوق يذم منه الكبرياء والتجبر وتزكية نفسه أحيانا ونحو ذلك . وأما قول السائل : فإن قلتم نحن نقطع النظر عن متعلق الصفة وننظر فيها هل هي كمال أم نقص ؟ وكذلك نحيل الحكم عليها بأحدهما ؛ لأنها قد تكون كمالا لذات نقصا لأخرى على ما ذكر . فيقال : بل نحن نقول الكمال الذي لا نقص فيه للممكن الوجود هو كمال مطلق لكل ما يتصف به . وأيضا فالكمال الذي هو كمال للموجود - من حيث هو موجود - يمتنع أن يكون نقصا في بعض الصور ؛ لأن ما كان نقصا في بعض الصور تاما في بعض : هو كمال لنوع من الموجودات دون نوع فلا يكون كمالا للموجود من حيث هو موجود . ومن الطرق التي بها يعرف ذلك : أن نقدر موجودين : أحدهما متصف بهذا والآخر بنقيضه فإنه يظهر من ذلك أيهما أكمل وإذا قيل هذا أكمل من وجه وهذا أنقص من وجه لم يكن كمالا مطلقا .
والله أعلم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم .
تم نسخ هذه الرسالة من موقع الإسلام
مكتبة مشكاة الإسلامية