14-04-05, 09:23 PM
|
|
نصائح للقاعدة من التجارب السابقة -- جماعة الجهاد
الحمد لله والصلاة و السلام على رسول الله
عظات للجماعة المسلمة من التجارب السابقة:
وفي خلال التجربة تبرز بضع عظات أخرى جزئية ; كلها ذات قيمة للجماعة المسلمة في كل حين: من ذلك أن الحماسة الجماعية قد تخدع القادة لو أخذوا بمظهرها فيجب أن يضعوها على محك التجربة قبل أن يخوضوا بها المعركة الحاسمة فقد تقدم الملأ من بني إسرائيل من ذوي الرأي والمكانة فيهم إلى نبيهم في ذلك الزمان يطلبون إليه أن يختار لهم ملكا يقودهم إلى المعركة مع أعداء دينهم الذين سلبوا ملكهم وأموالهم ومعها مخلفات أنبيائهم من آل موسى وآل هارون فلما أراد نبيهم أن يستوثق من صحة عزيمتهم على القتال وقال لهم: ((هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا!)) استنكروا عليه هذا القول وارتفعت حماستهم إلى الذروة وهم يقولون له: ((وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا)) ولكن هذه الحماسة البالغة ما لبثت أن انطفأت شعلتها وتهاوت على مراحل الطريق كما تذكر القصة ; وكما يقول السياق بالإجمال ((فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم)) ومع أن لبني إسرائيل طابعا خاصا في النكول عن العهد والنكوص عن الوعد والتفرق في منتصف الطريق إلا أن هذه الظاهرة هي ظاهرة بشرية على كل حال في الجماعات التي لم تبلغ تربيتها الإيمانية مبلغا عاليا من التدريب وهي خليقة بأن تصادف قيادة الجماعة المسلمة في أي جيل فيحسن الانتفاع فيها بتجربة بني إسرائيل.
ومن ذلك أن اختبار الحماسة الظاهرة والاندفاع الفائر في نفوس الجماعات ينبغي أن لا يقف عند الابتلاء الأول فإن كثرة بني إسرائيل هؤلاء قد تولوا بمجرد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم ولم تبق إلا قلة مستمسكة بعهدها مع نبيها وهم الجنود الذين خرجوا مع طالوت بعد الحجاج والجدال حول جدارته بالملك والقيادة ووقوع علامة الله باختياره لهم ورجعة تابوتهم وفيه مخلفات أنبيائهم تحمله الملائكة ومع هذا فقط سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولى وضعفوا أمام الامتحان الأول الذي أقامه لهم قائدهم((فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم)).. وهذا القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية فأمام الهول الحي أمام كثرة الأعداء وقوتهم تهاوت العزائم وزلزلت القلوب فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده وأمام هذا التخاذل ثبتت الفئة القليلة المختارة اعتصمت بالله ووثقت وقال: (( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)) وهذه هي التي رجحت الكفة وتلقت النصر واستحقت العز والتمكين.
وفي ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة الحازمة المؤمنة وكلها واضحة في قيادة طالوت تبرز منها خبرته بالنفوس ; وعدم اغتراره بالحماسة الظاهرة وعدم اكتفائه بالتجربة الأولى ومحاولته اختبار الطاعة والعزيمة في نفوس جنوده قبل المعركة وفصله للذين ضعفوا وتركهم وراءه ثم وهذا هو الأهم عدم تخاذله وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة ; ولم يثبت معه في النهاية إلا تلك الفئة المختارة فخاض بها المعركة ثقة منه بقوة الإيمان الخالص ووعد الله الصادق للمؤمنين.
والعبرة الأخيرة التي تكمن في مصير المعركة أن القلب الذي يتصل بالله تتغير موازينه وتصوراته ; لأنه يرى الواقع الصغير المحدود بعين تمتد وراءه إلى الواقع الكبير الممتد الواصل وإلى أصل الأمور كلها وراء الواقع الصغير المحدود فهذه الفئة المؤمنة الصغيرة التي ثبتت وخاضت المعركة وتلقت النصر كانت ترى من قلتها وكثرة عدوها ما يراه الآخرون الذين قالوا: (( لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده)) ولكنها لم تحكم حكمهم على الموقف إنما حكمت حكما آخر فقالت: (( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)) ثم اتجهت لربها تدعوه ((ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين)) وهي تحس أن ميزان القوى ليس في أيدي الكافرين إنما هو في يد الله وحده فطلبت منه النصر ونالته من اليد التي تملكه وتعطيه وهكذا تتغير التصورات والموازين للأمور عند الاتصال بالله حقا وعندما يتحقق في القلب الإيمان الصحيح وهكذا يثبت أن التعامل مع وعد الله الواقع الظاهر للقلوب أصدق من التعامل مع الواقع الصغير الظاهر للعيون!
ولا نستوعب الإيحاءات التي تتضمنها القصة فالنصوص القرآنية كما علمتنا التجربة تفصح عن إيحاءاتها لكل قلب بحسب ما هو فيه من الشأن ; وبقدر حاجته الظاهرة فيه ويبقى لها رصيدها المذخور تتفتح به على القلوب في شتى المواقف على قدر مقسوم فنخلص إذن من هذا العرض العام إلى تفصيل النصوص:
التجربة الأولى الخارجون حذر الموت :
(( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ; فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون)) ..لا أحب أن نذهب في تيه التأويلات عن هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت من هم وفي أي أرض كانوا وفي أي زمان خرجوا فلو كان الله يريد بيانا عنهم لبين كما يجيء القصص المحدد في القرآن إنما هذه عبرة وعظة يراد مغزاها ولا تراد أحداثها وأماكنها وأزمانها وتحديد الأماكن والأزمان لا يزيد هنا شيئا على عبرة القصة ومغزاها..
إنما يراد هنا تصحيح التصور عن الموت والحياة وأسبابهما الظاهرة وحقيقتهما المضمرة ; ورد الأمر فيهما إلى القدرة المدبرة والاطمئنان إلى قدر الله فيهما والمضي في حمل التكاليف والواجبات دون هلع ولا جزع فالمقدر كائن والموت والحياة بيد الله في نهاية المطاف يراد أن يقال إن الحذر من الموت لا يجدي ; وإن الفزع والهلع لا يزيدان حياة ولا يمدان أجلا ولا يردان قضاء ; وإن الله هو واهب الحياة وهو آخذ الحياة ; وإنه متفضل في الحالتين حين يهب وحين يسترد ; والحكمة الإلهية الكبرى كامنة خلف الهبة وخلف الاسترداد وإن مصلحة الناس متحققة في هذا وذاك ; وإن فضل الله عليهم متحقق في الأخذ والمنح سواء:
(( إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون)) إن تجمع هؤلاء القوم وهم ألوف وخروجهم من ديارهم حذر الموت لا يكون إلا في حالة هلع وجزع سواء كان هذا الخروج خوفا من عدو مهاجم أو من وباء حائم إن هذا كله لم يغن عنهم من الموت شيئا:
(( فقال لهم الله موتوا)) كيف قال لهم كيف ماتوا هل ماتوا بسبب مما هربوا منه وفزعوا هل ماتوا بسبب آخر من حيث لم يحتسبوا كل ذلك لم يرد عنه تفصيل لأنه ليس موضع العبرة إنما موضع العبرة أن الفزع والجزع والخروج والحذر لم تغير مصيرهم ولم تدفع عنهم الموت ولم ترد عنهم قضاء الله وكان الثبات والصبر والتجمل أولى لو رجعوا لله...
(( ثم أحياهم ))كيف هل بعثهم من موت ورد عليهم الحياة ; هل خلف من ذريتهم خلف تتمثل فيه الحياة القوية فلا يجزع ولا يهلع هلع الآباء ذلك كذلك لم يرد عنه تفصيل فلا ضرورة لأن نذهب وراءه في التأويل لئلا نتيه في أساطير لا سند لها كما جاء في بعض التفاسير.. إنما الإيحاء الذي يتلقاه القلب من هذا النص أن الله وهبهم الحياة من غير جهد منهم في حين أن جهدهم لم يرد الموت عنهم.
إن الهلع لا يرد قضاء ; وإن الفزع لا يحفظ حياة ; وإن الحياة بيد الله هبة منه بلا جهد من الأحياء إذن فلا نامت أعين الجبناء!
المغزى من ذكر هذه التجربة:
((وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم)).. هنا ندرك طرفا من هدف تلك الحادثة ومغزاها ; وندرك طرفا من حكمة الله في سوق هذه التجربة للجماعة المسلمة في جيلها الأول وفي أجيالها جميعا ألا يقعدن بكم حب الحياة وحذر الموت عن الجهاد في سبيل الله فالموت والحياة بيد الله قاتلوا في سبيل الله لا في سبيل غاية أخرى وتحت راية الله لا تحت راية أخرى.. قاتلوا في سبيل الله: ((واعلموا أن الله سميع عليم)).. يسمع ويعلم يسمع القول ويعلم ما وراءه أو يسمع فيستجيب ويعلم ما يصلح الحياة والقلوب قاتلوا في سبيل الله وليس هناك عمل ضائع عند الله واهب الحياة وآخذ الحياة.
والجهاد في سبيل الله بذل وتضحية وبذل المال والإنفاق في سبيل الله يقترن في القرآن غالبا بذكر الجهاد والقتال وبخاصة في تلك الفترة حيث كان الجهاد تطوعا والمجاهد ينفق على نفسه وقد يقعد به المال حين لا يقعد به الجهد ; فلم يكن بد من الحث المستمر على الإنفاق لتيسير الطريق للمجاهدين في سبيل الله وهنا تجيء الدعوة إلى الإنفاق في صورة موحية دافعة:((من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون)) وإذا كان الموت والحياة بيد الله والحياة لا تذهب بالقتال إذا قدر الله لها البقاء فكذلك المال لا يذهب بالإنفاق إنما هو قرض حسن لله مضمون عنده يضاعفه أضعافا كثيرة يضاعفه في الدنيا مالا وبركة وسعادة وراحة ; ويضاعفه في الآخرة نعيما ومتاعا ورضى وقربى من الله.
ومرد الأمر في الغنى والفقر إلى الله لا إلى حرص وبخل ولا إلى بذل وإنفاق ((والله يقبض ويبسط ))..والمرجع إليه سبحانه في نهاية المطاف فأين يكون المال والناس أنفسهم راجعون بقضهم وقضيضهم إلى الله((وإليه ترجعون))
وإذن فلا فزع من الموت ولا خوف من الفقر ولا محيد عن الرجعة إلى الله وإذن فليجاهد المؤمنون في سبيل الله وليقدموا الأرواح والأموال ; وليستقينوا أن أنفاسهم معدودة وأن أرزاقهم مقدرة وأنه من الخير لهم أن يعيشوا الحياة قوية طليقة شجاعة كريمة ومردهم بعد ذلك إلى الله...
* * *
التجربة الثانية ((بنو إسرائيل والجهاد)):
يورد السياق التجربة الثانية وأبطالها هم بنو إسرائيل من بعد موسى ((ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين)).. ألم تر كأنها حادث واقع ومشهد منظور لقد اجتمع الملأ من بني إسرائيل من كبرائهم وأهل الرأي فيهم إلى نبي لهم ولم يرد في السياق ذكر اسمه لأنه ليس المقصود بالقصة وذكره هنا لا يزيد شيئا في إيحاء القصة وقد كان لبني إسرائيل كثرة من الأنبياء يتتابعون في تاريخهم الطويل لقد اجتمعوا إلى نبي لهم وطلبوا إليه أن يعين لهم ملكا يقاتلون تحت إمرته في سبيل الله وهذا التحديد منهم لطبيعة القتال وأنه في سبيل الله يشي بانتفاضة العقيدة في قلوبهم ويقظة الإيمان في نفوسهم وشعورهم بأنهم أهل دين وعقيدة وحق وأن أعداءهم على ضلالة وكفر وباطل ; ووضوح الطريق أمامهم للجهاد في سبيل الله .
وهذا الوضوح وهذا الحسم هو نصف الطريق إلى النصر فلا بد للمؤمن أن يتضح في حسه أنه على الحق وأن عدوه على الباطل ; ولا بد أن يتجرد في حسه الهدف في سبيل الله فلا يغشيه الغبش الذي لا يدري معه إلى أين يسير وقد أراد نبيهم أن يستوثق من صدق عزيمتهم وثبات نيتهم وتصميمهم على النهوض بالتبعة الثقيلة وجدهم فيما يعرضون عليه من الأمر: ((قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا!)).. ألا ينتظر أن تنكلوا عن القتال إن فرض عليكم فأنتم الآن في سعة من الأمر فأما إذا استجبت لكم فتقرر القتال عليكم فتلك فريضة إذن مكتوبة ; ولا سبيل بعدها إلى النكول عنها إنها الكلمة اللائقة بنبي والتأكد اللائق بنبي فما يجوز أن تكون كلمات الأنبياء وأوامرهم موضع تردد أو عبث أو تراخ وهنا ارتفعت درجة الحماسة والفورة ; وذكر الملأ أن هناك من الأسباب الحافزة للقتال في سبيل الله ما يجعل القتال هو الأمر المتعين الذي لا تردد فيه: ((قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا)).. ونجد أن الأمر واضح في حسهم مقرر في نفوسهم إن أعداءهم أعداء الله ولدين الله وقد أخرجوهم من ديارهم وسبوا أبناءهم فقتالهم واجب ; والطريق الواحدة التي أمامهم هي القتال ; ولا ضرورة إلى المراجعة في هذه العزيمة أو الجدال.
سمات بني إسرائيل ونقضهم للعهود:
ولكن هذه الحماسة الفائرة في ساعة الرخاء لم تدم ويعجل السياق بكشف الصفحة التالية: ((فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا))منهم وهنا نطلع على سمة خاصة من سمات إسرائيل في نقض العهد والنكث بالوعد والتفلت من الطاعة والنكوص عن التكليف وتفرق الكلمة والتولي عن الحق البين ولكن هذه كذلك سمة كل جماعة لا تنضج تربيتها الإيمانية ; فهي سمة بشرية عامة لا تغير منها إلا التربية الإيمانية العالية الطويلة الأمد العميقة التأثير. وهي من ثم سمة ينبغي للقيادة أن تكون منها على حذر وأن تحسب حسابها في الطريق الوعر كي لا تفاجأ بها فيتعاظمها الأمر فهي متوقعة من الجماعات البشرية التي لم تخلص من الأوشاب ولم تصهر ولم تطهر من هذه العقابيل.
والتعقيب على هذا التولي ((والله عليم بالظالمين)) وهو يشي بالاستنكار ; ووصم الكثرة التي تولت عن هذه الفريضة بعد طلبها وقبل أن تواجه الجهاد مواجهة عملية وصمها بالظلم فهي ظالمة لنفسها وظالمة لنبيها وظالمة للحق الذي خذلته وهي تعرف أنه الحق ثم تتخلى عنه للمبطلين !
إن الذي يعرف أنه على الحق وأن عدوه على الباطل كما عرف الملأ من بني إسرائيل وهم يطلبون أن يبعث لهم نبيهم ملكا ليقاتلوا في سبيل الله ثم يتولى بعد ذلك عن الجهاد ولا ينهض بتبعة الحق الذي عرفه في وجه الباطل الذي عرفه.. إنما هو من الظالمين المجزيين بظلمهم.. ((والله عليم بالظالمين)).
معركة عين جالوت
وكيف انتصرت الفئة القليلة على الكثيرة بإذن الله:
(( وقال لهم نبيهم :إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا . قالوا: أنى يكون له الملك ونحن أحق بالملك منه، ولم يؤت سعة من المال؟ قال : إن الله اصطفاه عليكم، وزاده بسطة في العلم والجسم . والله يؤتي ملكه من يشاء . والله واسع عليم )) ..
وفي هذه اللجاجة تتكشف سمة من سمات إسرائيل التي وردت الإشارات إليها كثيرة في هذه السورة .. لقد كان مطلبهم أن يكون لهم ملك يقاتلون تحت لوائه. ولقد قالوا: إنهم يريدون أن يقاتلوا (( سبيل الله )). فها هم يجادلون في اختيار الله لهم كما أخبرهم نبيهم ، ويستنكرون أن يكون طالوت –الذي بعثه الله لهم - ملكا عليهم. لماذا ؟ لأنهم أحق بالملك منه بالوراثة . فم يكن من نسل الملوك فيهم ! ولأنه لم يؤت سعة من المال تبرر التغاضي عن أحقيته الوراثة !وكل هذا غبش في التصور كما أنه من سمات بني إسرائيل المعروفة ..
ولقد كشف لهم نبيهم عن أحقيته الذاتية ، وعن حكمة الله في اختياره :
(( قال :إن الله اصطفاه عليكم ، وزاده بسطة في العلم والجسم ، والله يؤتي ملكه من يشاء ، والله واسع عليم )) ..
إنه رجل قد اختاره الله .. فهذه واحدة .. وزاده بسطة في العلم والجسم ..وهذه أخرى .. والله (( يؤتي ملكه من يشاء)) .. فهم ملكه ، وهو صاحب التصرف فيه ، وهو يختار من عباده من يشاء .. (( والله واسع عليم )).. ليس لفضله خازن وليس لعطائه حد. وهو الذي يعلم الخير ، ويعلم كيف توضع الأمور في مواضعها ..
وهي أمور من شأنها أن تصحح التصور المشوش ، وأن تجلو عنه الغبش .. ولكن طبيعة إسرائيل – نبيها يعرفها – لا تصلح لها هذه الحقائق العالية وحدها . وهم مقبلون على معركة . ولا بد لهم من خارقة ظاهرة تهز قولبهم ، وتردها إلى الثقة واليقين:
(( وقال لهم نبيهم : إن الله آية ملكه أن يأتيكم التابوت، فيه سكينة من ربكم ، وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة . إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين )) ..
وكان أعداؤهم الذين شردوهم من الأرض المقدسة –التي غلبوا عليها على يد نبيهم يوشع بعد فترة التيه ووفاة موسى –عليه السلام – قد سلبوا منهم مقدساتهم ممثلة في التابوت الذي يحفظون فيهم مخلفات أنبيائهم من آل موسى وآل هارون . وقيل : كانت فيه نسخة الألواح التي أعطاها الله لموسى على الطور .. فجعل لهم نبيهم علامة من الله ، أن تقع خارقة يشهدونها ، فيأتيهم التابوت بما فيه (( تحمله الملائكة )) فتفيض على قلوبهم السكينة .. وقال لهم :إن هذه الآية تكفي على صدق اختيار الله لطالوت ، إن كنتم حقا مؤمنين ..
ويبدو من السياق أن هذه الخارقة قد وقعت، فانتهى القوم منها إلى اليقين .
* * *
ثم أعد طالوت جيشه ممن لم يتولوا عن فريضة الجهاد ، ولم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم من أول الطريق .. والسياق القرآني على طريقته في سياقة القصص .. يترك هنا فجوة بين المشهدين . فيعرض المشهد التالي مباشرة وطالوت خارج بالجنود:
(( فلما فصل طالوت بالجنود قال : إن الله مبتليكم بنهم . فمن شرب منه فليس مني ، ومن لم يطعمه فإنه مني –إلا من اغترف بيده . فشربوا منه إلا قليلا منهم )) ..
هنا يتجلى لنا مصدق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل .. إنه مقدم على معركة ، ومعه جيش من أمة مغلوبة ، عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة . وهو يواجه جيش أمة غالبة فلا بد إذن من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف به أمام القوة الظاهرة الغالبة . هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرادة . الإرادة التي تضبط الشهوات والنزوات ، وتصمد للحرمان والمشاق ، وتستعلي على الضرورات والحاجات ، وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها ، فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء .. فلابد للقائد المختار إذن أن يبلو إرادة جيشه ، وصموده وصبره : صموه أولا للرغبات والشهوات .. وصبره ثانيا على الحرمان والمتاعب .. واختار هذه التجربة وهم كما تقول الروايات عطاش . ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه ، ويؤثر العافية .. وصحت فراسته :
(( فشربوا منه إلا قليلا منهم )) ..
شربوا وارتووا . فقد كان أباح لهم أن يغترف منهم من يريد غرفة بيده ، تبل الظمأ ولكنها لا تشي بالرغبة في التخلف ! وانفصلوا عنه بمجرد استسلامهم ونكوصهم . انفصلوا عنه لأنهم لا يصلحون للمهمة الملقاة على عاتقه وعاتقهم. وكان من الخير ومن الحزم أ، ينفصلوا عن الجيش الزاحف ، لأنهم بذرة ضعف وخذلان وهزيمة , والجيوش ليست بالعدد الضخم ، ولكن بالقلب الصامد ، والإرادة الجازمة ، والإيمان الثابت المستقيم على الطريق .
ودلت هذه التجربة على أن النية الكامنة وحدها لا تكفي، ولا بد من التجربة العملية ، ومواجهة واقع الطريق إلى المعركة قبل الدخول فيها . ودلت كذلك على صلابة عود القائد المختار الذي لم يهزه تخلف الأكثرية من جنده عند التجربة الأولى . بل مضى في طريقة .
وهنا كانت التجربة قد غربلت جيش طالوت –إلى حد – ولكن التجارب لم تكن قد انتهت بعد :
(( فلما جازوه هو والذين آمنوا معه قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده )) ..
لقد صاروا قلة ، وهم يعلمون قوة عدوهم وكثرته : بقيادة جالوت . إنهم مؤمنون لم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم . ولكنهم هنا أمام الواقع الذي يرونه بأعينهم فيحسون أنهم أضعف من مواجهته . إنها التجربة الحاسمة، تجربة الاعتزاز بقوة آخرى أكبر من قوة الواقع المنظور . وهذه لا يصمد لها إلا من اكتمل إيمانهم ، فاتصلت بالله قلوبهم ، وأصبحت لهم موازين جديدة يستمدونها من واقع إيمانهم ، غير الموازين التي يستمدها الناس من واقع حالهم !
وهنا برزت الفئة المؤمنة . الفئة القليلة المختارة . والفئة ذات الموازين الربانية:
(( قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله . والله مع الصابرين )) ..هكذا .. (( كم من فئة قليلة غلبة فئة كثيرة )) .. بهذا التكثير . فهده هي القاعدة في حس الذين يوقنون أنهم ملاقو الله . القاعدة : أن تكون الغالبة لأنها تتصل بمصدر القوى ، ولأنها تمثل القوة الغالبة .قوة الله الغالب على أمره ،القاهر فوق عباده ، محطم الجبارين، ومخزي الظالمين وقاهر المتكبرين.
وهم يكلون هذا النصر لله : (( بإذن الله )) .. ويعللونه بعلته الحقيقية : (( والله مع الصابرين)) ..فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل ..
ونمضي مع القصة . فإذا الفئة القليلة الواثقة بلقاء الله ، التي تستمد صبرها كله من اليقين بهذا اللقاء ، وتستمد قوتها كلها من إذن الله، وتستمد يقينها كله من الثقة في الله، وأنه مع الصابرين .. إذا هذه الفئة هي التي تقرر مصير المعركة . بعد أن تجدد عهدها مع الله ، وتتجه بقلوبها إليه ، وتطلب النصر منه وحده ، وهي
تواجه الهول الرهيب :
(( ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا : ربنا أفرغ علينا صبرا، وثبت أقدامنا ، وانصرنا على القوم الكافرين. فهزموهم بإذن الله ، وقتل داود جالوت ، وآتاه الله الملك والحكمة، وعلمه مما يشاء )) ..
هكذا .. (( ربنا أفرغ علينا صبرا)) ..وهو تعبير يصور مشهد الصبر فيضا من الله يفرغه عليهم فيغمرهم ، وينسكب عليهم سكينة وطمأنينة واحتمالا للهول والمشقة ، (( وثبت أقدامنا)) .. فهي في يده –سبحانه- يثبتها فلا تتزحزح ولا تتزلزل ولا تميد (( وانصرنا على القوم الكافرين)) .. فقد وضح الموقف .. إيمان تجاه الكفر . وحق إزاء باطل . ودعوة إلى الله لينصر أولياءه المؤمنين على أعدائه الكافرين . فلا تلجلج في الضمير ، ولا غبش في التصور ولا شك في سلامة القصد ووضوح الطريق .
وكانت النتيجة هي التي ترقبوها واستيقنوها :
(( فهزموهم بإذن الله )) ..
ويؤكد النصر هذه الحقيقة : (( بإذن الله )) .. ليعلمها المؤمنون أو ليزدادوا بها علما، وليتضح التصور الكامل لحقيقة ما يجري في هذا الكون ، ولطبيعة القوة التي تجريه .. إن المؤمنين ستار القدرة ، يفعل الله بهم ما يريد ، وينفذ بهم ما يختار ، .. بإذنه .. ليس لهم من الأمر شيء ، ولا حول لهم ولا قوة ، ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته ،فيكون منهم ما يريده بإذنه .. وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين .. إنه عبد الله . اختاره الله لدوره. وهذه منة من الله وفضل , وهو يؤدي هذا الدور المختار، ويحقق قدر الله النافذ . ثم يكرمه الله _ بعد كرامة الاختيار – بفضل الثواب .. ولولا فضل الله ما فعل، ولولا فضل الله ما أثيب.. ثم إنه هو منفذ لمشيئة الله الخيرة قائم بما يريد . استحق هذا كله بالنية الطيبة والعزم على الطاعة والتوجه إلى الله في إخلاص.
ويبرز السياق دور داود عليه السلام:
((وقتل داود جالوت )) ..
وداود كان فتى صغيرا من بني إسرائيل , وجالوت كان ملكا قويا وقائدا مخوفا .. ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجري بظواهرها ، إنما تجري بحقائقها . وحقائقها يعلمها هو . ومقاديرها في يده وحده . فليس عليهم إلا أن ينهضوا هم بواجبهم ، وفوا الله بعهدهم ، ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده , وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير .. ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف.. ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم .. وكان هنالك حكمة أخرى مغيبة يريدها الله . فلقد قدر أن يكون داود هو الذي يتسلم الملك بعد طالوت ، ويرثه ابنه سليمان ، فيكون عهده هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل ، جزاء انتفاضة العقيد في نفوسهم بعد الضلال والانتكاس والشرود:
(( وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء )) ..
وكان داود ملكا نبيا ، وعلمه الله صناعة الزرد وعدة الحرب مما يفصله القرآن في مواضعه في سورة أخرى .. أما في هذا الموضع فإن السياق يتجه إلى هدف آخر من وراء القصة جميعا.. وحين ينتهي إلى هذه الخاتمة ، ويعلم النصر الأخير للعقيدة الواثقة لا للقوة المادية، ولإرادة المستعلية لا للكثرة العددية .. حينئذ يعلن عن الغاية العليا من اصطراع تلك القوى .. إنها ليست المغانم والأسلاب ، وليست الأمجاد والهالات .. إنما هو الصلاح في الأرض وإنما هو التمكين للخير بالكفاح مع الشر .
(( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض . ولكن الله ذو فضل على العالمين )) ..
وهنا تتوارى الأشخاص والأحداث لتبرز من خلال النص القصير حكمة الله العليا في الأرض من اصطراع القوى وتنافس الطاقات وانطلاق السعي في تيار الحياة المتدفق وزحام إلى الغايات .. ومن ورائها جميعا تلك اليد الحكيمة المدبرة تمسك بالخيوط جميعا ، وتقود الموكب المتزاحم المتصارع المتسابق ،إلى الخير والصلاح والنماء ، في نهاية المطاف ..
لقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفن لولا دفع الله الناس بعضهم بعض .. ولولا أن في طبيعة الناي التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهرية القريبة، لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع ، فتنفض عنها الكسل والخمول ، وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة ، وتظل أبدا يقظة عاملة، مستنبطة لذخائر الأرض مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة ..
وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء ..يكون بقيام الجماعة الخيرة المهتدية المتجردة . تعرف الحق الذي بينه الله لها . وتعرف طريقها إليه والنماء .. يكون بقيام الجماعة الخيرة المهتدية المتجردة . تعرف الحق الذي بينه الله لها . وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب الله إلا أن تنهض بهذا الدور النبيل , وإلا أن تحتمل في سبيله ما تحتمل في الأرض طاعة لله وابتغاء لرضاه.. وهنا يمضي الله أمره ، وينفذ قدره ، ويجعل كلمة الحق والخير والصلاح هي العليا ، ويجعل حصيلة الصراع والتنافس والتدافع في يد القوة الخيرة البانية ، التي استجاش الصراع أنبل ما فيها وأكرمه ، وأبلغها أقصى درجات الكمال والمقدر لها في الحياة .
ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر، ذلك أنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض ، وتمكين الصلاح في الحياة،إنها تنتصر لأنها تمثل غاية تستحق الانتصار .
* * *
وفي النهاية يجيء التعقيب الأخير على القصة:(( تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق ، وإنك لمن المرسلين )) .. تلك الآيات العالية المقام البعيدة الغايات (( نتلوها عليك )) .. الله _سبحانه وتعالى- هو الذي يتلوها وهو أمر هائل عظيم حين يتدبر الإنسان حقيقته العميقة الرهيبة .. (( نتلوها عليك بالحق )) . تحمل معها الحق . ويتلوها من يملك حق تلاوتها وتنزيلها ، وجعلها دستورا للعباد ، مدع ما لا يملك ، مبطل لا يستحق أن يطاع ، فإنما يطاع أمر الله ، وأمر من يهتدي بهدي الله .. دون سواه .. (( وإنك لمن المرسلين )) .. ومن ثم نتلو عليك هذه الآية ، ونزودك بتجارب البشرية كلها في جميع أعصارها ، وتجارب الموكب الإيماني كله في جميع مراحله ، ونورث ميراث المرسلين أجمعين.
* * *
سورة أل عمران
الله ناصر للمؤمنين حتى لو قل عددهم
الآيات ( آل عمران 12 : 13 )
(قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ 12 قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ 13 )
تشير الآيات الكريمة إلى أحداث غزوة بدر ، وأن الخطاب فيها موجه إلى اليهود، وقد وردت في هذه الرواية عن ابن عباس –رضي الله عنهما – قال: لما أصاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم – قريشا يوم بدر ، وقدم المدينة وجمع اليهود، وقال: أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشا، قالوا: يا محمد : لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش أغمارا لا يعرفون القتال. إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله تعالى في ذلك: (( قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم.. – إلى قوله:- (( فئة تقاتل في سبيل الله _أي ببدر_ وأخرى كافرة )) .. أخرجه أبو داود .
إن الأموال والأولاد منظمة حماية ووقاية،ولكنهما لا يغنيان شيئا في ذلك اليوم الذي لا ريب فيه، لأنه لا إخلاف لميعاد الله.وهم فيه: (( وقود النار )) بل أن الأموال والجاه ومعهما الجاه والسلطان، لا تغني شيئا في الدنيا، ((كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا، لأخذهم الله بذنوبهم ، والله شديد العقاب )) .. إذن فالذين كفروا وكذبوا بدعوة محمد –صلى الله عليه وسلم – وآيات الكتاب الذي نزله عليه بالحق ، معرضون لهذا المصير في الدنيا والآخرة سواء..
ومن ثم يلقن الرسول-صلى الله عليه وسلم –أن ينذرهم هذا المصير في الدارين، وأن يضرب لهم المثل بيوم بدر القريب، فعلهم نسوا مثل فرعون والذين من قبله في التكذيب والأخذ الشديد:
(( قل للذين كفروا: ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد. قد كان لكم آية في فئتين التقيتا: فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، يرونهم مثليهم رأي العين، والله يؤيد بنصره من يشاء . إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ))..
وقوله تعالى: (( يرونهم مثليهم رأي العين)) يحتمل تفسيرين: فإما أن يكون ضمير ((يرون)) راجعا إلى الكفار ، وضمير (( هم )) راجعا إلى المسلمين ، ويكون المعنى أن الكفار على كثرتهم كانوا يرون المسلمين القليلين ((مثليهم)) .. وكان هذا من تدبير الله حيث خيل للمشركين أن المسلمين كثرة وهم قلة ، فتزلزلت قلوبهم وأقدامهم . وإما أن يكون العكس ، ويكون المعنى أن المسلمين كانوا يرون المشركين (( مثليهم))هم –في حني أن المشركين كانوا ثلاثة أمثالهم –ومع هذا ثبتوا وانتصروا.
والمهم هو رجع النصر إلى تأييد الله وتدبيره.. وفي هذا تخذيل للذين كفروا وتهديد . كما أن فيه تثبيتا للذين آمنوا وتهوينا من شأن أعدائهم فلا يرهبونهم .. وكان الموقف-كما ذكرنا في التمهيد للسورة_يقتضي هذا وذاك .. وكان القرآن يعمل هنا وهناك . .
وما يزال القرآن يعم بحقيقته الكبيرة . وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة . إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله، قائم في كل لحظة . ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة- ولو قل عددها-قائم كذلك في كل لحظة . وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ . وسنة ماضية لم تتوقف .
وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة ,تثق في ذلك الوعد ، وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة، وتصبر حتى يأذن الله ، ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله ، المدير بحكمته المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة .
(( إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار )) ..
ولا بد من بصر ينظر وبصيرة تتدبر ،لتبرز العبرة ، وتعيبها القلوب ، وإلا فالعبرة ثمر في كل لحظة في الليل والنهار !
* * *
غزوة أحد
آل عمران ( 121 : 129 )
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 121 إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ 122 وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 123 إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ 124 بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ 125 وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ 126 لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ 127 لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ 128 وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ 129
لم تكن معركة في الميدان وحده:
غزوة أحد لم تكن معركة في الميدان وحده ،إنما كانت معركة كذلك في الضمير.. كانت معركة ميدانها أوسع الميادين.. لأن ميدان القتال فيها لم يكن إلا جانبا واحدا من ميدانها الهائل الذي دارت فيه .. ميدان النفس البشري.. وتصوراتها ومشاعرها، وأطماعها وشهواتها، ودوافعها وكوابحها ، على العموم .. وكان القرآن هناك . يعالج هذه النفس بألطف وأعمق،وبأفعل وأشمل ما يعالج المحاربون أقرانهم في النزال !
وكان النصر أولا، وكانت الهزيمة ثانيا، وكان الانتصار الكبير فيها بعد النصر والهزيمة.. انتصار المعرفة الواضحة والرؤية المستنيرة للحقائق التي جلاها القرآن، واستقرار المشاعر على هذه الحقائق استقرار اليقين . وتمحيص النفوس، والتمييز الصفوف، وانطلاق الجماعة المسلمة-بعد ذلك- متحررة من كثير من غبش التصور، وتميع القيم، وتأرجح المشاعر، في الصف المسلم . وذلك يتميز المنافقين في الصف إلى حد كبير، ووضوح سمات النفاق وسمات الصدق، في القول والفعل، وفي الشعور والسلوك ووضوح تكاليف الإيمان، وتكاليف الدعوة إليه، والحركة به،ومقتضيات ذلك كله من الاستعداد بالتجرد والاستعداد بالتنظيم ، والتزام الطاعة الإتباع بعد هذا كله ، والتوكل على الله وحده، في كل خطوة من خطوات الطريق، ورد الأمر إلى الله وحد في النصر والهزيمة، وفي الموت والحياة، وفي كل أمر وفي كل اتجاه.
وكانت هذه الحصيلة الضخمة التي استقرت في الجماعة المسلمة من وراء الأحداث ، ومن وراء التوجهات القرآنية بعد الأحداث ، أكبر وأخطر-بما لا يقاس- من حصيلة النصر والغنيمة .. لو عاد المسلمون من الغزوة بالنصر والغنيمة.. وقد كانت الجماعة المسلمة إذ ذاك أحوج ما تكون لهذه الحصيلة الضخمة.. كانت أحوج إليها ألف مرة من حصيلة النصر والغنيمة ، وكان الرصيد الباقي منها للأمة المسلمة في كل جيل أهم وأبقى كذلك من حصيلة النصر والغنيمة. وكان تدبير الله العلي من وراء ما بدا في الموقعة من ظواهر النقص والضعف والتميع والغش في الصف المسلم ، ومن وراء الهزيمة التي نشأت عن هذه الظاهرة .. كان تدبير الله العلي من وراء هذا الذي وقع وفق سنة الله الجارية، حسب أسبابه الطبيعية الظاهرة، تدبيرا كله الخير للجماعة المسلمة في ذلك الحين ، لتنال هذه الحصيلة الضخمة من العبرة والتربية ، والوعي والنضج ، والتمحيص والتميز والتنسيق والتنظيم ، وليبقى للأمة المسلمة في أجيالها المتعاقبة هذا الرصيد من التجارب والحقائق والتوجهات التي لا تقدر بثمن. ولو كان هذا الثمن هو النصر والغنيمة!
لقد انتهت المعركة في ميدان الأرض، ليبدأها القرآن في ميدانها الأكبر: ميدان النفس، وميدان الحياة الشاملة للجماعة المسلمة. وصنع بهذه الجماعة ما تصنعه يد الله، عن علم وعن حكمة ، وعن خبرة ، وعن بصيرة، وكان ما شاءه الله وما دبره . وكان فيه الخير العظيم ، من وراء الضر والأذى والابتلاء الشاق المرير .
ولعل مما يلفت النظر في التعقيب القرآني على أحداث المعركة هو ذلك الازدواج العجيب بين استعراض النفوس، وتخليصها من غبش التصور، وتحريرها من ربقة الشهوات، وثقله المطامع، وظلام الأحقاد، وظلمة الخطيئة ، وضعف الحرص الشح . والرغبات الدفينة.
* * *
وقائع المعركة:
كان المسلمون قد انتصروا في بدر ، ذلك الانتصار الكامل، الذي تبدو فيه – في ظل الظروف التي وقع فيها- رائحة المعجزة, وقد قتل الله بأيديهم أئمة الكفر ورءوسه من قريش. فرأس في قريش أبو سفيان بن حرب –بعد ذهاب أشرافهم في بدر- فأخذ يؤلب على المسلمين لأخذ الثأر، وكانت القافلة التي تحمل متاجر قريش قد نجت فلم تقع في أيدي المسلمين، فتآمر المشركون على رصد ما فيها من أموال لحرب المسلمين.
وقد جمع أبو سفيان قريبا من ثلاثة آلاف من قريش وأحلافهم والأحابيش وخرج بهم في شوال من السنة الثالثة للهجرة ، وجاءوا معهم بنسائهم ليحاموا عنهن ولا يفروا. ثم أقبل بهم نحو المدينة ، فنزل قريبا من جبل أحد.
واستشار رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أصحابه: أيخرج إليهم، أم يمكث ف المدينة؟ وكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة، وأن يتحصنوا بها، فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة ،والنساء من فوق البيوت. ووافقه على هذا الرأي عبدالله بن أبي (راس المنافقين) فبادرت جماعة كبيرة من الصحابة_ومعظمهم من الشبان ممن فاتهم يوم بدر- فأشاروا عليه بالخروج وألحوا عليه في ذلك, حتى بدا أن هذا هو الرأي السائد في الجماعة. فنهض –صلى الله عليه وسلم – ودخل بيته- بيت عائشة –رضي الله عنها – ولبس لأمته، وخرج عليهم، وقد انثنى عزم أولئك. وقالوا :أكرهنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم – على الخروج! فقالوا: يا رسول الله ، إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه)) .. وألقى عليهم بذلك درسا نبويا عاليا، فللشورى وقتها حتى إذا انتهت جاء وقت العزم والمضي والتوكل على الله ، ولم يعد هناك مجال للتردد ، وإعادة الشورى والتأرجح بين الآراء .. إنما تمضي الأمور لغاياتها ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء ..
وكان رسول الله –صلى الله عليه وسلم – قد رأى في منامه: أن في سيفه ثلمة، ورأى أن بقرا تذبح ، وأنه أدخل يده في درع حصينة.. فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته. وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون, وتأول الدرع بالمدينة.. وكان إذن يرى عاقبة المعركة . ولكنه في الوقت ذاته كان يمضي نظام الشورى،ونظام الحركة بعد الشورى..لقد كان يربي أمة . والأمم تربى بالأحداث، وبرصيد التجارب فيمضي وفق مواقع هذا القدر، كما يحسها في قلبه الموصول..
وخرج رسول الله –صلى الله عليه وسلم – في ألف من أصحابه، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة. فما صار بين المدينة وأحد ، انعزل رأس النفاق : عبد الله بن أبي بنحو ثلث العسكر. وقال: يخالفني وسمع للفتية! فتبعهم عبدالله بن عمرو بن حرام –والد جابر بن عبدالله – رضي الله عنهما- يوبخهم ويحضهم على الرجوع . ويقول : تعالوا قاتلوا في سبيل الله ، أو ادفعوا. قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع! فرجع عنهم وسبهم .
وسأله قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود.. فأبى –صلى الله عليه وسلم – فالمعركة هي معركة الإيمان والكفر فما ليهود بها ؟ والنصر من عند الله –حين يصح التوكل عليه وتتجرد القلوب له –وقال: (( هل من رجل يخرج بنا على القوم من كثب؟)) فخرج به بعض الأنصار حتى نزل الشعب من أحد في غدوة الوادي، وجعل ظهر إلى أحد ، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم.
فلما أصبح تعبا للقتال في سبعمائة. فيهم خمسون فارسا، واستعمل على الرماة -وكانوا خمسين- عبد الله ابن جبير، وأمره وأصحابه أن يلزموا مركزهم ، وألا يفارقوه ولو رأوا الطير تتخطف العسكر. وكانوا خلف الجيش . وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم.
وظاهر رسول الله –صلى الله عليه وسلم – بين درعين. وأعطى اللواء مصعب بن عمير.. وجعل على إحدى المجنبيتين الزبير بن العوام، وعلى الأخرى المنذر بن عمرو. واستعرض الشبان يومئذ ، فرد من استصغره عن القتال. وكان منهم عبد الله بن عمرو . وأسامة بن زيد، وأسيد بن ظهير، والبراء بن عازب ، وزيد ابن أرقم. وزيد بن ثابت، وعرابة بن أوس ، وعمرو بن حزام ، . وأجاز من رآه مطيقا. وكان منهم سمرة بن جندب ، ورافع بن خديج، ولهما خمسة عشرة سنة !
وتعبأت قريش للقتال وهم في ثلاثة آلاف. وفيهم مائتا فارس. فجعوا علي ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل .
ودفع رسول الله –صلى الله عليه وسلم – سيفه إلى أبي دجانة سماك بن خرشة. وكان شجاعا بطلا يختال عند الحرب.
وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر الفاسق. وكان يسمى (( الراهب)) فسماه رسول الله –صلى الله عليه وسلم – (( الفاسق)) . وكان رأس الأوس في الجاهلية. فلما جاء الإسلام شرق به ، وجاهر رسول الله –صلى الله عليه وسلم – بالعداوة، فخرج من المدينة، وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضهم على قتاله . ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه. فكان أول من لقي المسلمين. فنادى قومه، وتعرف إليهم. فقالوا له: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق!فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر! ثم قاتل المسلمين قتالا شديدا.
ولما نشب القتال أبلى أبو دجانة الأنصاري بلاء حسنا. هو وطلحة بن عبد الله ، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب ، والنضر بن أنس ، وسعد بن الربيع ..
وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار. حيث قتل من هؤلاء سبعون من صناديدهم، وانهزم أعداء الله وولوا مدبرين، حتى انهوا إلى نسائهم . وحتى شمرت النساء ثيابهن عن أرجلهن هاربات!
فما رأى الرماة هزيمة المشركين انكشافهم، تركوا مراكزهم التي أمرهم رسول الله _صلى الله عليه وسلم – ألا يبرحوها. وقالوا : يا قوم ، الغنيمة ! الغنيمة! فذكرهم أميرهم عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم – لم يسمعوا ، وظنوا أن ليس للمشركين رجعة! فذهبوا في طلب الغنيمة، وأخلوا الثغر في أحد!
عندئذ أدركها خالد، فكر في خيل المشركين،فوجدوا الثغر خاليا فاحتلوه من خلف ظهر المسلمين. ,أقبل المنهزمون من المشركين حين رأوا خالدا والفرسان قد علوا المسلمين ، فأحاطوا بهم !
وانقلبت المعركة ، فدارت الدائبة على المسلمين، ووقع الهرج والمرج في الصف، واستولى الاضطراب والذعر،لهول المفاجأة التي لم يتوقعها أحد . وكثر القتل استشهد من المسلمين من كتب الله له الشهادة. وخلص المشركون إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم – وقد أفرد إلا من نفر يعدون على الأصابع قاتلوا عنه حتى قتلوا.
وقد جرح وجهه-صلى الله عليه وسلم- وكسر سنه الرباعية اليمنى في الفك الأسفل. وهشمت البيضة على رأسه. ورماه المشركون بالحجارة حتى وقع على جنبه، وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق قد حفرها وغطاها! يكيد بها المسلمين. وغاصت حلقتان من حلق المغفر في وجنته.
وفي وسط هذا الهول المحيط بالمسلمين صاح صائح: أن محمدا قتل .. فكانت الطامة التي هدمت ما بقي من قواهم ،فانقلبوا على أعقابهم مهزومين هزيمة منكرة لا يحاولون قتالا، مما أصابهم من اليأس والكلال!
لما انهزم الناس لم ينهزم أنس بن النضر- رضي الله عنه- وقد انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال المهاجرين والأنصار قد ألقوا ما بأيديهم ! فقال: ما يجلسكم؟ فقالوا: قتل رسول الله –صلى الله عليه وسلم – فقال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم – ثم استقبل المشركين ولقي سعد بن معاذ فقال: يا سعد واها لريح الجنة إني أجدها من دون أحد ! فقاتل حتى قتل .. ووجد به بضع وسبعون ضربة . ولم تعرفه إلا أخته . عرفته ببنانه..
وأقبل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- نحو المسلمين . وكان أول من عرفه تحت المغفر ، كعب بن مالك . فصاح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين ، أبشروا. هذا رسول الله-صلى الله عليه وسلم – فأشار بيده/ أن اسكت. واجتمع إليه المسلمون . ونهضوا معه إلى الشعب . وفيهم أبو بكر وعمر والحارث بن الصمة الأنصاري وغيرهم.. فما امتدوا صعودا في الجبل أدرك رسول الله _ صلى الله عليه وسلم – أبي بن خلف على جواه له اسمه العود. كان يطعمه في مكة ويقول: أقتل عليه محمد. فلما سمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بن أنا أقتفه إنشاء الله .. فما أدركه تناول_ صلى الله عليه وسلم – الحربة من الحارث وطعن بها عدو الله في ترقوته . فذهب يخور كالثور، وقد أيقن أنه مقتول.. كان قال رسول الله صلى الله علين وسلم – من قبل! ومات بالفعل في طريق عودته!
وأشرف أبو سفيان على الجبل فنادى : أفيكم محمد؟ فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم – لا تجيبوه. فقال: أفيكم أبن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم عم بن الخطاب؟ فيم يجيبوه. ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة . فقال مخاطبا قومه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم. فلم يملك عم –رضي الله عنه – نفسه أن قال: يا عدو الله . إن الذين ذكرتهم أحياء . وقد أبقى الله لك ما يسوؤك! فقال: قد كان في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني! (يشير بذلك إلى ما صنعته زوجه هند بجثمان حمزة- رضي الله عنه- بعد أن قتله وحشي.
حين بقرت بطنه ، واستخرجت كبده . فلاكتها ثم لفظتها !
ثم قال: اعل هبل ! فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم – ألا تجيبونه؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل. قال : لنا العزى ولا عزى لكم! قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ألا تجيبونه؟ قالوا. بماذا نجيبه؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم .. قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال. فقال عمر –رضي الله عنه -: لا سواء . قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
حمراء الأسد:
ولما انقضت المعركة انصرف المشركون، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لسبي الذراري وإحراز الأموال. فشق ذلك عليهم .فقال النبي-صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب –رضي الله عنه- (( اخرج في آثار القوم ، فانظر ماذا يصنعون ، وماذا يريدون . فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة . وإن كانوا ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة.فوالذي نفيس بيده لو أرادوها لأسيرن إليهم ثم لأناجزهم فيها)) ..
قال علي : فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون . فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ، ووجهوا مكة.
فلما كانوا في بعض الطريق تلاوموا فيما بينهم ، وقال بعضهم : لم تصنعوا شيئا، أصبتم شوكتهم وحدهم، ثم تركتموهم وقد قي منهم رؤوس يجمعون لكم . فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم.. فبلغ ذلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم – فنادى في الناس. وندبهم ،إلى المسير إلى لقاء عدوهم وقال: (( لا يخرج معنا إلا من شهد القتال. فقال له عبدا لله بن أبي : أركب معك ، قال: لا . فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد والخوف، وقالوا : سمعا وطاعة. واستأذنه جابر بن عبدالله . وقال : يا رسول الله إني أحب ألا تشهد مشهدا إلا كنت معك، وإنما خلفني أبي على بناته يوم أحد، فإذن لي أسير معك، فأذن له ، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد ، وأقبل معبد بن أبي معبد الخز اعي إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذله،فلحقه بالروحاء، ولم يعلم بإسلامه فقال: وما وراءك يا معبد؟ فقال: محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم، وخرجوا في جمع لم يخرجوا في مثله، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم، فقال: ما تقول؟ فقال : ما أرى أن ترتحل حتى يطلع الجيش وراء هذه الأكمة! فقال أبو سفيان : والله لق أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم . قال:فلا تفعل فإني لك ناصح! فرجعوا على أعقابهم إلى مكة .
ولق أبو سفيان بعض المشركين يريدون المدينة، فقال : هل لك أن تبلغ محمدا رسالة ، وأوقر لك راحلتك زبيبا إذا أتيت إلى مكة ؟ قال: نعم . قال : أبلغ محمدا أنا قد جمعنا الكرة لنستأصله ونستأصل أصحابه، فلما بلغهم قوله قالوا: حسبنا الله وعم الوكيل. ولم يفت ذلك في عضدهم. وأقاموا ثلاثة أيام ينتظرون . ثم عرفوا أ، المشركين. أبعدوا في طريقهم إلى مكة منصرفين . فعادوا إلى المدينة..
* * *
مثل وعبرة :
وبعد فإن هذا الملخص لأحداث الغزوة لا يصور لكم جوانبها، ولا يسجل كل ما وقع فيها..مما هو موضع المثل والعبرة . ومن ثم نذكر بعض الوقائع الموحية، تكملة لرسم الجو واستحيائه:
كان عمرو بن قيمئة من المشركين خلصوا إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم – حين أفرد ف فترة اضطراب المعركة،عقب تخلي الرماة عن أماكنهم ، وإحاطة الكفار بالمسلمين ، والصيحة بأن محمدا قتل ، وما صنعه في صفوف المسلمين وعزائمهم .
وفي هذه الثغرة التي يطيش فيها الحليم كانت أم عمارة نسيبة بن كعب المازنية تقاتل عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قتالا شديدا . وقد ضربت عمر بن قميئة بسيفها ضربات عدة ، ولكن وقته درعان كانتا عليه . وضربها هو بالسيف فجرحها جرحا شديدا على عاتقها..
وكان أبو دجانة يترس بظهره على رسول الله –صلى الله عليه وسلم – والنبل يقع فيه ، وهو لا يتحرك ولا يكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان طلحة بن عبيد الله يثوب سريعا إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم – ويقف دونه وحده، حتى يصرع .. في صحيح ابن حيان عن عائشة قالت: قال أبو بكر الصديق : لما كان يوم أحد، انصرف الناس لكهم عن النبي –صلى الله عليه وسلم – فكنت أول من فاء إلى النبي –صلى الله عليه وسلم – فرأيت بين يديه رجلا يقاتل عنه ويحميه، قلت : كن طلحة ! فداك أبي وأمي ! كن طلحة! فداك أبي وأمي ! فم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح، وإذا هو يشتد كأنه طير، حتى لحقني ، فدفعنا إلى النبي –صلى الله عليه وسلم – فإذا طلحة بين يديه صريعا، فقال صلى الله عليه وسلم : (( دونكم أخاكم فقد أوجب)) . وقد رمي النبي صلى الله عليه وسلم في وجنته، حتى عابت حلقة من حلق المغفر في وجنته، فذهبت لأنزعها عن النبي-صلى الله عليه وسلم – فقال أبو عبيدة : نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني! قال: فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه، فجعل يضنضنه كراهة أن يؤذي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ثم استل السهم بفيه، فندرت ثنية أبي عبيدة . قال أبو بكر : ثم ذهبت لآخذ الآخر ، فقال أبو عبيدة: نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني ! قال : فأخذه ، فجعل يضنضنه حتى استله ، فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى.. ثم قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم –(( دونكم أخاكم فقد أوجب)) قال: فأقبلنا على طلحة نعالجه. وقد أصابته بضع عشرة ضربة.
وجاء علي_كرم الله وجه_ بالماء لغسل جرح رسول الله _ صلى الله عليه وسلم- فكان يصب الماء على الجرح، وفاطمة_ رضي الله عنها_ تغسله. فلما رأت أن الدم لا يكف،أخذت قطعة من حصير ، فأحرقتها، فألصقتها بالجرح فاستمسك الدم .
وقد مص مالك والد أبي سعيد الخدري جرح رسول الله _صلى الله عليه وسلم – حتى أنقاه . فقال له: (( مجه)) فقال: والله لا أمجه أبدا! ثم ذهب، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم :(( من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا ))..
وفي صحيح مسلم أنه – صلى الله عليه وسلم – أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش . فلما رهقوه قال : (( من يردهم عني وله الجنة ؟)) ..فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قلت. ثم رهقوه فقال: (( من يردهم فله الجنة وهو رفيقي في الجنة)). فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة. فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-(( ما أنصفنا أصحابنا)) .. ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه. وترس عليه أبو دجانة بظهره كما أسلفنا، حتى انجلت الكربة .. وقد بلغ الإعياء برسول الله –صلى الله عليه وسلم – أنه وهو يصعد الجبل والمشركون يتبعونه أراد أن يعلو صخرة فلم يستطع لما به ، فجلس طلحة تحته حتى صعدها. وحانت الصلاة . فصلى بهم جالسا.
|