المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التاريخ بركة خان أول مسلم من ملوك التتار


**ابشر بعزك**
10-05-15, 01:26 AM
انقسمت مملكة جنكيز خان بين بنيه الأربعة: جوجي وجقتاي وأوكتاي وتولوي، وذرياتهم. تسلط تولوي أصغر أبنائه على مغولستان الشرقية، فورث ملك أبيه في مملكته الأصيلة.
وكان من أولاده الذين فتحوا إيران والعراق، وأزالوا الخلافة العباسية من بغداد. وتولى أوكتاي على جونغاريا في أواسط آسيا. وماك جغتاي فيما وراء النهر. وحكم بنو جوجي وهو أكبر بني جنكيز في صحراء القفجاق (دشت قبجاق) وما يجاورها.
- 2 -
وكان جنكيز أعطى ابنه الأكبر جوجي الأرض التي شمالي نهر سيحون حيث قامت من قبل مملكة قراختاي، ولكن جوجي سار صوب الغرب فاتحاً ثم خالف على أبيه، ومات في حياة والده، فورث ملكه ابنه الأكبر أوردا وكان لجوجي أربعة أبناء آخرين: باتو وتوقاتيمور وشيبان ونوغاي، تولوا هم وذرياتهم الملك في شرقي أوربا، صحراء القفجاق وما يتصل بها كما تقدم، وقد دام الملك في شعبة منهم حكمت في القريم حتى نهاية القرن الثاني عشر الهجري (1783م).
وفي شعبة أخرى ملكت في بخارى وخيوه إلى أواخر القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميلادي) وكان أعظمهم شأنا وأوسعهم سلطانا باتو وذريته؛ ودام الملك لهم زهاء قرن ونصف (612 - 760 ق). وكانت دار ملكهم مدينة سراي على نهر إتل (نهر الفلجا)
- 3 -
توفى باتو سنة 653 فخلفه ابنه سرتاق سنة واحدة، ثم تولى بركة (بركاي) عشر سنين بين سنتي 654و664 بركاي حفيد جنكيز وسليل هؤلاء المغول الذي دمروا الحضارة الإسلامية، دخل في أخوة الإسلام، وصار من بناة الحضارة الإسلامية، وحماة علمائها، فلم يعرف بعد باسم بركاي، ولكنه صار (أبا المعالي ناصر الدين بركة خان)، وحالف المسلمين
ولاسيما ملوك مصر على ابن عمه هلاكو ليرد عدوانه عن المسلمين، ويكف يده عن تدمير حضارتهم.
كان إسلامه من بركات الشيخ نجم الدين كبرى الصوفي المعروف؛ فقد بث دعاته في الأقطار للدعوة إلى الإسلام. وكان من تلاميذه الشيخ سيف الدين الباخرزي فأرسله إلى بخارى وأرسل سيف الدين أحد تلاميذه إلى بركاي فدعاه إلى الإسلام، وبين له عقائده وشرائعه، فاستجاب له وأسلم، ثم ذهب إلى الشيخ الباخرزي، فأكرمه وأجله وجدد إسلامه ورجع إلى دار ملكه يدعو إلى الإسلام، ويعظم شعائره، ويبر علماءه، فأسلمت زوجه ججك خاتون واتخذت مسجداً من الخيام يحمل معها إن سارت ..
وكاتب ناصر الدين بركة الخليفة المستعصم وبايعه وأرسل إليه الهدايا. يقول ابن عربشاه وهو عليم بأحوال بركة وأمور مملكته؛ أقام في مدينة سراي دار الملك سنين وتزوج بها وولد له فيها أولاد:
(ولما تشرف بركة خان بخلعة الإسلام، ورفع في أطراف الدشت للدين الحنيفي الأعلام، استدعى العلماء من الأطراف والمشايخ من الآفاق والأكنان، ليوقفوا الناس على معالم دينهم، ويبصروهم بطريق توحيدهم ويقينهم. وبذل على ذلك الرغبات، وأفاض على الوافدين منهم بحار الهبات، وأقام حرمة العلم والعلماء، وعظم شعائر الله وشعائر الأنبياء. وكان عنده في ذلك الزمان وعند أوزبك خان بعده وجاني بك خان، مولانا قطب الدين العلامة الرازي، والشيخ سعد الدين التفتازاني، والشيخ جلال الدين شارح الحاجبية، وغيرهم من الفضلاء الحنفية والشافعية، ثم من بعدهم مولانا حافظ الدين البزازي ومولانا أحمد الخجندي رحمهم الله تعالى. فصارت سراي بواسطة هؤلاء السادات، مجمع العلم ومعدن السعادات، واجتمع فيها من العلماء والفضلاء، والأدباء والظرفاء، ومن كل صاحب فضيلة، وخصلة نبيلة جميلة ما لم يجتمع في سواها، ولا في جامع مصر ولا قراها)
ويقول ابن بطوطة عن مدينة سراي: (وفيها ثلاثة عشر مسجداً لإقامة الجمعة أحدها للشافعية. وأما المساجد سوى ذلك فكثيرة جداً.)
أسلم بركة فشملته أخوة الإسلام الجامعة، وهدته سننه الرشيدة، وتبنته الحضارة العظيمة التي اجتمعت عليها عقول المسلمين وأيديهم منذ قرون. وتقطعت الأسباب بينه وبين قرابته
من المغول، وانفصمت بينه وبينهم الأواصر، ووقعت العدواة بينه وبين ابن عمه هلاكو، وثارت الحرب بينهما. فأمر بركة جنده الذين كانوا في جيوش ابن عمه أن يخذلوه ويرجعوا فإن لم يستطيعوا فليتوجهوا تلقاء الشام ومصر ليعينوا الملك الظاهر بيبرس على هلاكو. فانظر إلى أمراء المغول الذين شاركوا في تدمير البلاد الإسلامية، وقاتلوا المصريين في عين جالوت وغيرها، يقودهم الإسلام إلى مصر نجدة للمسلمين على حرب هلاكو وأشياعه..
بلغ أمراء بركة دمشق في السابع والعشرين من ذي القعدة سنة ستين وستمائة، وهم زهاء مائة معهم نساؤهم وأولادهم، وأخبروا بانتصار بركة على هلاكو فشاعت البشرى في الشام ومصر، وسر الملك الظاهر بقدومهم، وكتب إلى نوابه في الشام فأكرموا وفادتهم وأرسل إليهم الأقوات والخلع. ثم ساروا إلى مصر، فبلغوا القاهرة يوم الخميس الرابع والعشرين من ذي الحجة، وخرج السلطان للقائهم يوم السبت، وخرج أهل القاهرة والفسطاط لرؤيتهم، واحتفوا بهم حفاوة عظيمة، وانزلوا في دور بنيت لهم في اللوق، وأرسل إليهم السلطان الأموال والخيل والخلع ولعب معهم الكرة وأمر أكابرهم على مائة فارس. وأسلموا وحسن إسلامهم. ولما بلغ التتار ما نال هؤلاء من الكرامة في مصر وفدوا جماعة بعد أخرى. وقدم البريد من حلب في ذي القعدة سنة إحدى وستين بأن جماعة من التتار يزيد عددهم على الألف ومعهم ثلاثمائة فارس من المغل قادمون إلى مصر؛ فأمر السلطان بالحفاوة بهم، ثم استقبلهم حين قدموا كما استقبل إخوانهم من قبل ولحقت بهؤلاء جماعات أخر..
وتوالت الرسائل بين الملك الظاهر بييرس وبين الملك بركة خان وحرضه الظاهر على جهاد هلاكو ومحاربة التتار ولو كانوا أهله (فأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل عشيرته الأقربين وجاهد قريشاً، وليس الإسلام قولاً باللسان، والجهاد أحد ما له من الأركان)
كذلك سبق بنو باتر إلى الإسلام وشرع الدين الحنيف يفتح قلوب التتار، ويدخلهم في اخوته وينظمهم في جماعته ويطبعهم بحضارته. وهزم بالدعوة الظافرين بالسيف، وغلب في السلم الغالبين في الحرب، ولم تستعص قسوة التتار على هدى الإسلام ولا كبرياؤهم على عزته، ولا عداوتهم على مودته، ولا إفسادهم على إصلاحه، ولا تخريبهم على تعميره. وإنها لآية من آيات هذا الدين، وحجة على من زعم أن الناس دخلوا في الإسلام كارهين..
واستمرت المكاتبة والمهاداة بين الملوك من بني جوجر وبين سلاطين مصر زمناً طويلاً، وقد فصلت كتب التاريخ بعض المراسلات بين الدولتين ولا سيما بين بركة والملك الظاهر بيبرس حين كان المسلمون في فزع من التتار وبخاصة هلاكو وأشياعه من الذين غزوا ديار المسلمين حتى استولوا على بغداد ثم تجاوزوا إلى الشام حتى وقف سيلهم بعد موقعة عين جالوت سنة 658هـ
لما بلغت مصر أفواج التتار من أصحاب بركة الذين قدمنا الكلام عنهم، وعلم الملك الظاهر بيبرس بإسلام الملك بركة وعرف أحوال مملكته ومقر ملكه؛ أرسل إليه رسلاً معهم اثنان من التتار الذين قدموا إلى مصر..
وحمل الرسل كتاباً إلى الملك بركة يرغبه في الجهاد ويحثه عليه، ويصف له جند المسلمين وكثرتهم وأجناسهم ويذكر من في طاعة الملك الظاهر من ملوك الأقطار، ومن هادنه وصالحه من ملوك الفرنجة وغيرهم، ويخبره بقدوم التتار من أنصاره إلى الديار المصرية، وأنه لم يأل في إكرامهم والحفاوة بهم، وإنزالهم المنازل الرفيعة..
جمع السلطان الأمراء والأعيان وأمر أن يقرأ عليهم الكتاب، واستشارهم فيه، فاستحسنوه ، يقول القاضي ابن عبد الظاهر كاتب السلطان بيبرس: (ولما كان يوم الخميس ثاني المحرم سنة 661 جلس السلطان مجلساً عاماً فيه جميع الناس، وجماعة التتار الواصلين، ورسل السلطان المتوجهون إلى الملك بركة، وحضر الإمام أمير المؤمنين الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد. . . أمين الخليفة المسترشد بالله. وبايعه السلطان بعد ثبوت نسبه عند قاضي القضاة تاج الدين بن بنت الأعز. وبايعه الأمراء والعامة والتتار الواصلون، والرسل إلى الملك بركة، ولما تمت هذه البيعة المباركة حصل الحديث معه في إنفاذ الرسل إلى الملك بركة فوافق على ذلك ثم قرء الكتاب ثانياً بحضوره وانفصل المجلس)
(ثم أمر السلطان بعمل نسبته الطاهرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكتبت وأذهبت وسيرها إلى الملك بركة) (فلما كان يوم الجمعة ثاني هذا اليوم يعني يوم البيعة، اجتمع الناس وحضر الرسل المتوجهون إلى الملك بركة. فبرز الخليفة وعليه سواده، وصعد المنبر وخطب وصلى الجمعة بالناس ودعا للملك الظاهر وللمسلمين)
(ثم اجتمع الرسل بالخليفة والسلطان وحملهم السلطان من المشافهة ما فيه صلاح الإسلام؛ وعرف أصحابه التتار أحوال عساكره وكثرتها وما هو بصدده من جهاد وما يبذله من الأموال في نصرة الدين، وقتال الأعداء المشركين، وأنه محب للملك بركة وداع له بالنصر على الأعداء، فوافق له على ما فيه صلاح العالم)..
هذه صفحة من التاريخ الإسلامي لم تعط كفاءها من القراءة والتأمل، وفصل من سياسة مصر في جهاد أعداء الإسلام لم ينل نصيبه من الإيضاح والشرح. ها هو ذا الملك الظاهر بيبرس وأمراؤه وعلماء مصر وكبراؤها يحيون الخلافة العباسية ليجمعوا عليها قلوب المسلمين، ويثبتوهم في تلك الفتن المحيرة، والكوارث المروعة. وهاهم أولاء يرسلون الكتب والهدايا والرسل إلى بركة خان ابن عم هولاكو، لينحاز إليهم ويحارب بني عمومته ويفل حدهم، ويكف بأسهم عن البلاد الإسلامية. وليس اختفاء السلطان بمبايعة الخليفة العباسي وإثبات نسبته إلى الرسول وإرسالها إلى الملك بركة، وصلاة الخليفة بالناس، وحضوره مفاوضة السلطان والرسل - ليس هذا كله إلا إعلاء لشأن الخلافة وإيذاناً لبركة بأن الخلافة التي أزالها ابن عمه وخصمه وعدو المسلمين هولاكو، قد حيت في مصر وكتبت إليه تستنجده وتستنصره بالإسلام دينه الذي ارتضاه وأنعم الله به عليه..
وهذه مأثرة لسلاطين مصر في القرن السابع بعد بلائهم المشكور في دفع الصليبيين مائتي عام، وقبل جهادهم لرد تيمور عن الشام ومصر في مفتتح القرن التاسع. وإنها لمفاخر خالدة ومساع محمودة جديرة بعناية مؤرخي الإسلام..
سار رسل الملك الظاهر حتى بلغوا القسطنطينية فلقوا بها رسل الملك بركة المتوجهين إلى مصر؛ فرجع معهم أحد الرسل المصريين، وهو الفقيه مجد الدين ألجأه المرض إلى العودة. وكتب ملك الروم إلى الظاهر أن رسله قدموا سالمين وتوجهوا إلى الملك بركة في صحبة رسل من عنده. ومؤرخو المسلمين يسمون ملك القسطنطينية في ذلك العصر الأشكري وهو تعريب اسم الأسرة التي سيطرت على مملكة الروم الشرقية في تلك العصور..
ثم يصف القاضي ابن عبد الظاهر مسير الرسل المصريين إلى القرم. ثم رحيلهم عنها إلى أن بلغوا شواطئ نهر إيل (الفلجا) في واحد وعشرين يوما. يقول:
وهو نهر حلو سعته سعة نيل مصر، وفيه مراكب الروسن وهو منزلة الملك بركة. وحملت إليهم (إلى الرسل) الإقامات والأغنام طول هذه الطرقات)
ولما اقتربوا من المخيم (الأردو) قابلهم الوزير شرف الدين القزويني، وهو يحدث بالعربية والتركية وأنزلهم في ضيافة الملك ، ودعاهم الملك بركة من الغد فساروا إلى مضربه في صحبة الوزير شرف الدين. وعرفوا آداب الدخول على الملك يدخلون إلى الجهة اليسرى؛ فإذا أخذت منهم الرسائل ينتقلون إلى اليمن، ويقعدون على الركبتين. ولا يدخل أحد بسيف أو سكين، ولا يطأ عتبة الخيمة. . . الخ.
كان الملك في خيمة عظيمة تسع خمسمائة فارس مكسوة باللباد الأبيض ومبطنة بثياب نفيسة ومزينة بالجواهر، وهو جالس على سرير، واضع رجليه على كرسي فوقه وسادة، لأنه كان مصاباً بالنقرس، وإلى جانبه الخاتون الكبرى، أي كبرى زوجاته (طقطفاي خاتون) - وكان له امرأتان أخريان ججك (زهرة) خاتون دكد (جوهرة) خاتون، وعنده زهاء خمسين أميراً على كراسي. وكان بركة كما روى ابن عبد الظاهر: (كبير الوجه خفيف اللحية في لونه صفرة، يلف شعره عند أذنيه، في أذنه حلقة ذهب فيها جوهر مثمنة. وعليه قباء خطائي وعلى رأسه سراغوج وفي وسطه حياصة ذهب مجوهرة معلق بها صولق بلفاري أخضر، وفي رجليه خف كيمنخت أحمر وليس في وسطه سيف، وفي حياصته قرون سود مقمعة بذهب) ..
دخل الرسل وأدوا رسالة الملك الظاهر فسر بها بركة سروراً عظيما، وأمر الوزير فقرأ الكتاب، وأمر بأن يجلس الرسل من يمينه خلف الأمراء الذين بين يديه، وقدم لهم القمز ثم العسل المطبوخ، ثم اللحم والسمك، ثم أمر بإنزالهم عند زوجه ججك خاتون وانصرفوا آخر النهار من الغد إلى منازلهم..
وكان الملك بركة يدعو الرسل كل يوم يحدثهم ويسألهم عن أخبار مصر وعجائبها: سأل عن النيل والمطر وعن الفيل والزرافة، وقال سمعت أن عظماً لابن آدم ممتد على النيل يعبر عليه الناس فقالوا هذا ما رأيناه ولا هو عندنا. ويقول ابن عبد الظاهر:
(وكان عند الملك بركة رجل فقير من أهل الفيوم اسمه الشيخ أحمد المصري له عنده خدمة كبيرة. ولكل أمير من أمرائه مؤذن وإمام، ولكل خاتون أيضاً مؤذن وإمام. والصغار الذين عندهم لهم مكاتب يتلقنون فيها القرآن العزيز)
ما أعجب الأخوة الإسلامية التي وصلت بين بركة وقومه ووصلته بالمسلمين في بقاع الأرض كلها، وصيرته حليفاً للمصريين على ابن عمه هولاكو، ثم أحاطته بعلماء المسلمين وكبرائهم من غير قومه. فهذا وزيره شرف الدين قزويني يعرف العربية، وهؤلاء علماء من أقطار شتى ينحازون إليه، وهذا رجل مصري من الفيوم يعيش في كنفه ويحظى لديه.
المصدر : مجلة الرسالة لأستاذ أحمد حسن الزيات