حسن خليل
23-09-05, 11:05 PM
الحوار عند السلف:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم=إذا جمعتنا يا جرير المجامع
كانت طريقة الحوار عند السلف أعلم وأحكم وأسلم، فهم خير الأمة وأفضلها بعد نبيها عليه أفضل الصلاة والسلام، لما جاء في قول الرسول صلى الله عليه وسلم خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم حاوروا وناظروا بحكمة ورفق ولين وإخلاص وسلامة قلب، قصدوا نصرة الحق فوفقهم الله وسددهم. وإليكم النموذج الأول من نماذج محاوراتهم مع غيرهم:
النموذج الأول: قصة ابن عباس مع الحرورية:
وعلى هذه المنهاج القديم في المحاورة والمناظرة سار الصحابة الكرام رضي الله عنهم. ومن المناظرات الشهيرة في التاريخ الإسلامي: مناظرة عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - للخوارج.
وقد كان لهذه المناظرة تأثير كبير على سير الأحداث بعد ذلك، حيث تجلت إمامة ابن عباس، وعمق فقهه، وقدرته على المحاورة والمناظرة. وها هو ذا سياق هذه المحاروة:
عن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - قال:
لما اعتزلت الحرورية، قلت لعلي: يا أمير المؤمنين، أبرد عن الصلاة؛ فلعلّي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم.
قال: إني أتخوفهم عليك. قال: قلت: كلا إن شاء الله.
فلبستُ أحسن ما أقدر عليه من هذه اليمانية، ثم دخلت عليهم وهم قائلون في نحر الظهيرة. فدخلتُ على قوم لم أرَ قوماً أكثر اجتهاداً منهم، أيديهم كأنها ثَفنُ الإبل، ووجوههم معلمة من آثار السجود.
قال: فدخلت، فقالوا: مرحباً بك يا ابن عباس، ما جاء بك؟
قال: جئت أحدثكم، على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل الوحي، وهي أعلم بتأويله.
فقال بعضهم: لا تحدثوه ...! وقال بعضهم: لنحدثنه.
قال: قلت: أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وأول من آمن به، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه؟
قالوا: ننقم عليه ثلاثاً.
قلت: ما هن؟
قالوا: أولهن: أنه حكَّم الرجال في دين الله، وقد قال تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ) (1).
قال: قلت: وماذا؟
قالوا: قاتل ولم يسبِِ ولم يغنم. لئن كانوا كفاراً لقد حلت له أموالهم، وإن كانوا مؤمنين فقد حرمت عليه دماؤهم.
قال: وقلت: وماذا؟
قالوا: محا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.
قال: قلت: أرأيتم إن قرأت عليكم كتاب الله المحكم، وحدثتكم عن سنة نبيكم ما لا تنكرون، أترجعون؟!
قالوا: نعم.
قال: قلت: أما قولكم إنه حكَّم الرجال في دين الله، فإن الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (2).
وقال في المرأة وزوجها: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً) (3).
(1) سورة الأنعام (آية رقم 57).
(2) سورة المائدة (آية رقم 95).
(3) سورة النساء (آية رقم 35).
أنشدكم الله، أفحُكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وصلاح ذات بينهم أحق، أم في أرنب ثمنها ربع درهم؟!
قالوا: في حقن دمائهم وصلاح ذات بينهم.
قال: أخرجت من هذه؟!
قالوا: اللهم نعم.
قال: وأما قولكم: قاتل ولم يَسبِ ولم يغنم، أتسبُون أمَّكم ثم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها ليست أُمَّكم فقد كفرتم وخرجتم من الإسلام، إن الله يقول: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً) (1) وأنتم مترددون بين ضلالتين، فاختاروا أيهما شئتم، أخرجت من هذه؟!
قالوا: اللهم نعم.
قال: وأما قولكم: محا نفسه من أمير المؤمنين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قريشاً يوم الحديبية على أن يكتب بينهم وبينه كتاباً، فقال: اكتب، هذا ما قضى عليه محمد رسول الله. فقالوا: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وقاتلناك. ولكن اكتب: محمد بن عبدالله. فقال: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني. اكتب يا علي محمد بن عبدالله، ورسول الله كان أفضل من علي. أخرجت من هذه؟
قالوا: اللهم نعم.
فرجع منهم عشرون ألفاً. وبقي منهم: أربعة آلاف، فقُتلوا.
(1) سورة الأحزاب (آية رقم 6).
وسنكمل في الحلقة القادمة إن شاء الله النموذج الثاني من الحوار عند السلف
أخوكم
حسن خليل
أولئك آبائي فجئني بمثلهم=إذا جمعتنا يا جرير المجامع
كانت طريقة الحوار عند السلف أعلم وأحكم وأسلم، فهم خير الأمة وأفضلها بعد نبيها عليه أفضل الصلاة والسلام، لما جاء في قول الرسول صلى الله عليه وسلم خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم حاوروا وناظروا بحكمة ورفق ولين وإخلاص وسلامة قلب، قصدوا نصرة الحق فوفقهم الله وسددهم. وإليكم النموذج الأول من نماذج محاوراتهم مع غيرهم:
النموذج الأول: قصة ابن عباس مع الحرورية:
وعلى هذه المنهاج القديم في المحاورة والمناظرة سار الصحابة الكرام رضي الله عنهم. ومن المناظرات الشهيرة في التاريخ الإسلامي: مناظرة عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - للخوارج.
وقد كان لهذه المناظرة تأثير كبير على سير الأحداث بعد ذلك، حيث تجلت إمامة ابن عباس، وعمق فقهه، وقدرته على المحاورة والمناظرة. وها هو ذا سياق هذه المحاروة:
عن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - قال:
لما اعتزلت الحرورية، قلت لعلي: يا أمير المؤمنين، أبرد عن الصلاة؛ فلعلّي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم.
قال: إني أتخوفهم عليك. قال: قلت: كلا إن شاء الله.
فلبستُ أحسن ما أقدر عليه من هذه اليمانية، ثم دخلت عليهم وهم قائلون في نحر الظهيرة. فدخلتُ على قوم لم أرَ قوماً أكثر اجتهاداً منهم، أيديهم كأنها ثَفنُ الإبل، ووجوههم معلمة من آثار السجود.
قال: فدخلت، فقالوا: مرحباً بك يا ابن عباس، ما جاء بك؟
قال: جئت أحدثكم، على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل الوحي، وهي أعلم بتأويله.
فقال بعضهم: لا تحدثوه ...! وقال بعضهم: لنحدثنه.
قال: قلت: أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وأول من آمن به، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه؟
قالوا: ننقم عليه ثلاثاً.
قلت: ما هن؟
قالوا: أولهن: أنه حكَّم الرجال في دين الله، وقد قال تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ) (1).
قال: قلت: وماذا؟
قالوا: قاتل ولم يسبِِ ولم يغنم. لئن كانوا كفاراً لقد حلت له أموالهم، وإن كانوا مؤمنين فقد حرمت عليه دماؤهم.
قال: وقلت: وماذا؟
قالوا: محا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.
قال: قلت: أرأيتم إن قرأت عليكم كتاب الله المحكم، وحدثتكم عن سنة نبيكم ما لا تنكرون، أترجعون؟!
قالوا: نعم.
قال: قلت: أما قولكم إنه حكَّم الرجال في دين الله، فإن الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (2).
وقال في المرأة وزوجها: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً) (3).
(1) سورة الأنعام (آية رقم 57).
(2) سورة المائدة (آية رقم 95).
(3) سورة النساء (آية رقم 35).
أنشدكم الله، أفحُكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وصلاح ذات بينهم أحق، أم في أرنب ثمنها ربع درهم؟!
قالوا: في حقن دمائهم وصلاح ذات بينهم.
قال: أخرجت من هذه؟!
قالوا: اللهم نعم.
قال: وأما قولكم: قاتل ولم يَسبِ ولم يغنم، أتسبُون أمَّكم ثم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها ليست أُمَّكم فقد كفرتم وخرجتم من الإسلام، إن الله يقول: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً) (1) وأنتم مترددون بين ضلالتين، فاختاروا أيهما شئتم، أخرجت من هذه؟!
قالوا: اللهم نعم.
قال: وأما قولكم: محا نفسه من أمير المؤمنين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قريشاً يوم الحديبية على أن يكتب بينهم وبينه كتاباً، فقال: اكتب، هذا ما قضى عليه محمد رسول الله. فقالوا: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وقاتلناك. ولكن اكتب: محمد بن عبدالله. فقال: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني. اكتب يا علي محمد بن عبدالله، ورسول الله كان أفضل من علي. أخرجت من هذه؟
قالوا: اللهم نعم.
فرجع منهم عشرون ألفاً. وبقي منهم: أربعة آلاف، فقُتلوا.
(1) سورة الأحزاب (آية رقم 6).
وسنكمل في الحلقة القادمة إن شاء الله النموذج الثاني من الحوار عند السلف
أخوكم
حسن خليل