المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحجر (مدائن صالح) ليست حراما محرما بالدليل


ابوعمااد
02-10-11, 02:14 PM
فتوى تحلل منطقة الحجر (مدائن صالح) للعلامة الفقيةالعالم العامل الشريف عبد الله بن زيد بن عبد الله بن محمد بن راشد بن حمد بن إبراهيم بن محمود بن منصور بن عبد القادر بن محمد بن علي بن حامد. وآل محمود ، وآل حامد – أهل سيح الأفلاج – هما قبيلة واحدة ويرتقي نسبهما إلى الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه .
فهو من أشراف أهل نجد المنسوبين إلى ( اليمامة ) التي هي مسكن الأشراف القدماء الذين ذكرهم إبن عنبة في كتاب عمدة الطالب في نسب أبي طالب ، ومساكنهم هي (( الرياض )) عاصمة المملكة العربية السعودية ، و (( الدرعية )) ، وبلد (( الخرج )) ، وبلد (( المزاحمية )) و(( حوطة بني تميم )) وبلد (( الأفلاج )) وخاصة (( سيح آل حامد )) ثم (( مفيجر )) وهي قرية من بلد (( نعام )) المجاورة لحوطة بني تميم ويسكنها الأشراف آل حسين .
مفتي قطر سابقا المكلف من الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله بعد تزكية العلماء له بتولي هذه المهمة .
حنبلي المذهب سلفي العقيدة والذي فاق علماء عصره بالفتوى وأثنى علية وعلى علمه كبار علماء هذا البلد أمثال شيخة الشيخ/ محمد بن ابراهيم آل الشيخ رحمه الله مفتي السعودية والشيخ بن باز رحمه الله مفتي السعودية والشيخ بن جبرين رحمه الله وغيرهم الكثير :
قال عن الحجر أنه لايوجد دليل يقتضي كراهة السكن فيه فضلا عن التحريم .
هذه هدية لجميع أبناء المنطقة نرفعها شعارا بكل فخر الي كل من لم يصله الدليل . ومن لم يقتنع بالفتوي عليه بالدليل الشرعي والرد على رسالة هذا العالم الجليل رحمه الله. ونحن أمة تبع الدليل .
وليكم رابط الفتوى http://binmahmoud.com/?p=990 (http://binmahmoud.com/?p=990)

ولمعرفة المزيد عن سيرة الشيخ العلامة / عبدالله بن زيد أل محمود رحمه الله .
http://www.alashraf.ws/vb/%BB%BA%B0-...%E3%E6%CF.html (http://www.alashraf.ws/vb/%BB%BA%B0-...%E3%E6%CF.html)

ولاتنسونا من صالح الدعاء [email protected]
وهذه فتوى الشيخ ورسالته رحمه الله في حكم السكن في الحجر مدائن صالح:

الحمد لله، ونصلي ونسلم على رسول الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أما بعد:
فقد وقع الإشكال المستلزم للسؤال عن حجر ثمود، وهذا الإشكال في أمور هي:
المشكلة الأولى: هل يصح السكنى في الحجر وديار ثمود، وما يستلزم السكنى من الحرث والزرع والعمران كسائر بلدان الحضارة؟ وهل نزل النبي صلى الله عليه وسلم فيه عام غزوة تبوك، أم لم ينزل فيه؟.
المشكلة الثانية: نهيه عن الدخول في مساكنهم؛ هل هو للكراهة أو للتحريم؟ وما سبب النهـي؟.
المشكلة الثالثة: هل يصح الشرب من آبار الحجر، سواء كان من بئر الناقة أو غيرها؟ وهل يصح الوضوء به أيضًا؟ وما حكمة اختصاص الشرب من بئر الناقة، ونهيه عن غيرها؟ وكيف أمر الصحابة بأن يعلفوا دوابهم بما عجنوا بمائه ولا يأكلوه؟.
المشكلة الرابعة: هل تصح الصلاة في أرض الحجر أو لا تصح؟ وهل ثبت فيها نهي أم لا؟.
وسنورد الأجوبة على هذه الأسئلة عن طريق الدرس والنشر المرتب، إن شاء الله.
* * *
الحِـجْر

هو بكسر الحاء وإسكان الجيم، يطلق على معان عديدة، منها: العقل. كما قال تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حْجِرٍ *}(
[1] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn1))، أي لذي عقل، سمي العقل حجرًا لكونه يحجر صاحبه عن المحارم وارتكاب المآثم، كما سمي عقلاً لكونه يعقل عن الله مراده: أمره ونهيه، أو لكونه يعقل صاحبه على أفعال الطاعات والفضائل، ويردعه عن منكرات الأخلاق والرذائل، ويطلق الحجر ويراد به: الحرام. ومنه قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا}([2] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn2))، أي حرامًا محرمًا، ويطلق ويراد به: حجر ثمود. كما قال تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ}([3] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn3)).
وحجر ثمود يقع في وادي القرى بين المدينة والشام، وهو داخل في حدود المملكة العربية السعودية وقد مر به النبيصلى عام غزوة تبوك، ومدائن صالح معروفة ومشهورة بهذا الاسم إلى اليوم، وكانت قبيلة ثمود يدينون بعبادة الأوثان، فوعظهم نبي الله صالح – عليه السلام – بأن يتركوا عبادتها ويعبدوا الله وحده فعصوا وعتوا عن أمر ربهم، وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد، وكانوا قد طلبوا من نبيهم آية تصدق نبوته والتزموا أن يطيعوه ويتبعوه وقالوا: إن أخرجت لنا من هذه الصخرة ناقة كالمعجزة آمنا بك وصدقناك، فدعا ربه فأخرج الله لهم من تلك الصخرة ناقة، فقال: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}([4] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn4)).
وهذه الناقة هي غاية في النعمة لكنها نهاية في حلول العقاب بهم والنقمة، ولهذا ورد النهي عن سؤال الآيات لما روى الإمام أحمد عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج وكانت تشرب ماءهم يومًا ويشربون لبنها يومًا، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها، فأخذتهم صيحة أهمد الله من تحت أديم السماء منهم» إسناده صحيح ولم يخرجوه، كانت هذه الناقة إذا وردت شربت الماء وملأت كل ما عندهم من الأواني والقدور من لبنها، ثم تسرح وتعزب، ويكون لهم ورد الماء في اليوم الثاني، فيأخذون منه قدر كفايتهم في حال غيبتها عنهم، فظلوا في سعة رغد ورخاء.
وكانت الناقة تصيف إذا جاء الحر بظهر الوادي فتهرب منها المواشي، على حسب ما قيل: كأنه من أجل عظم خلقها، فسئموا منها فانبعث أشقاهم فعقرها، يقول الله تعالى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ *وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَال ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ *قَالُوا ياصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ *قَال ياقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ *ويَاقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ *فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ *فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ *وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ *كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِثَمُودَ *}([5] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn5)). أعاد سبحانه وأبدى من ذكر قصة ثمود لتأكيد أمرها والتذكير بشأنها لتكون بمثابة العظة والعبرة، وخير الناس من وعظ بغيره، يقول الله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ *وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ *}([6] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn6)).
ويظهر من صريح القرآن أن ثمود أهل حضارة عريقة في الترف، وأن لهم قصورًا في سهل الأرض ومساكن في الجبال يسكنونها في وقت الحر، وأن بلدهم خصبة وغنية بالماء والزراعة وبالنخيل الباسقة وبالحدائق والبساتين الشيقة، ولهذا ذكرهم نبيهم بهذه النعمة وأمرهم بالتحفظ عليهـا باستدامة شكرها، والاستعانة بها على عبادة الله وحده، وترك الشرك به، فقال تعالى: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ *}([7] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn7))، فمن هذه الآيات وأشباهها يتبين ما هم فيه من طيب طبيعة أرضهم قبل حلول العقاب بهم وأنهم في جنات، أي بساتين تجن الداخل فيها من اشتباك أشجارها، ولا تسمى جنة إلا إذا كانت بهذه الصفة، وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم، وهذه الأوصاف الجميلة لا تكون إلا في البلاد النجيبة، فأرضهم قابلة للزرع والنخل والسكنى والعمران، غنية بالفواكه والخيرات والأقوات من كل ما يعدونه من باب الضروريات، وإنما حصل التخلف منها وعدم الرغبة في سكناها وحرثها من أجل رواج هذه الفكرة التي تمنع من استيطانها وشرب مائها والوضوء به والصلاة في أرضها، ومن المعلوم أن فشو هذا الاعتقاد من لوازمه التباعد عن مثل هذه البلاد لتعارض المانع للمقتضى، مع العلم أنه لا يزال مسكونًا إلى حد الآن، كما سيأتي بيانه فيما يلي.
* * *
المشكلة الأولى
استيطان حجر ثمود، وهل هو جائز أو محظور؟
ثبت في صحيح البخاري من كتاب الأنبياء قال: حدثنا عبد الله بن محمد الجعفي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لمّا مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين». ثم قنَّع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي. ثم قال: حدثنا محمد بن مسكين أبو الحسن، حدثنا يحى بن حسان بن حيان أبو زكرياء، حدثنا سليمان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألاّ يشربوا من آبارها ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها واستقينا، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء. قال: ويروى عن سبرة بن معبد وأبي الشموس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإلقاء الطعام. وفي حديث ابن عمر: أمرهم أن يعلفوا الإبل العجين وأن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة. انتهى من البخاري.
فهذا الباب بمجموع الروايات التي ساقها فيه هي أصح وأكمل ما ورد في القضية، ففيه إثبات نزول النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر والنهـي عن الدخول في مساكن المعذبين إلا أن يكونوا باكين، وفيه أمره لهم بعدم الشرب والاستقاء من الآبار إلا من بئر الناقة وأمرهم أن يعلفوا الإبل العجين، وموضع الاستدلال من الحديث هو إثبات كون النبي صلى الله عليه وسلم نزل بأصحابه الحجر، وأنه لو كان في نزوله حرج أو أنه متأثر بنزول السخط كما يظن بعض الناس لَمَا نزل النبي صلى الله عليه وسلم فيه بأصحابه، وإذًا لأوجب الله على نبيه صالح والمؤمنين معه بأن يهاجروا عنه، فإثبات نزول النبي صلى الله عليه وسلم فيه بأصحابه واستقرار نبي الله صالح والمؤمنين فيه، يتبين بهذين الدليلين صحة السكنى فيه بدليل الكتاب والسنة بدون كراهة لاعتبار أن أرض الحجر هي طرف من أرض الله التي خلقها الله لعباده وبسطها لهم لاستقرارهم عليها وانتفاعهم بها وتمتعهم بخيراتها وأنواع ثمراتها، وأودع فيها الماء والمرعى وجميع ما يحتاج إليه الأنام والأنعام:{كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ}([8] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn8)). {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}([9] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn9))، فهي موهوبة لهم من الله بقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}([10] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn10))، فلم يستثن في هذا العطاء أرضًا دون أرض ولا شيئًا منها محجورًا {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}([11] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn11)).
فأرض الحجر هي من بعض هذه الأراضي التي خلقها الله وبارك فيها وقدر فيها أقواتها وأنبت فيها من كل شيء موزون وكل زوج بهيج وكل زوج كريم وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع النضيد، فجميع الأرض وجميع ما خلق الله فيها من الجبال والبحار والأنهار والعيون والمعادن الجامدة والسيالة وجميع ما أنبته الله فيها من النخل والزرع والشجر وسائر الثمرات والنباتات التي يستخرج منها الأغذية والأدوية والأدهان والألبان، كله من نعم الله على عباده بما لهم فيه من المنافع ودفع المضار وما لهم فيه من الاستدلال والاعتبار على وحدانية صانعه وقدرته وعظمته، يقول الله تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ *وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ *}([12] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn12)). فأرض الحجر هي من جنس هذه الأرض التي أعدها الله لإثبات ما ذكر، وقد أخبر الله أنه أنجى نبيه صالحًا والمؤمنين معه، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ *}([13] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn13)).
وأنهم بعد إنجائهم لم يؤمروا بالخروج من بلادهم الحجر، بل بقوا فيها كحالتهم السابقة يبنون ويغرسون ويزرعون ويأكلون من ثمرها ويشربون من مائها ويتمتعون بخيراتها على سبيل الإباحة المطلقة كحالتهم السابقة شاكرين لنعمة ربهم الذي نصرهم على عدوهم وأورثهم ديارهم وأموالهم، فمتى كان الأمر بهذه الصفة وأن المؤمنين زمن صالح سكنوا في هذه البلاد غير محجور عليهم في شيء من مطاعمها ومشاربها، فإنها تكون مباحة الانتفاع والسكنى لمن بعدهم إلى يوم القيامة، لأن شرع من قبلنا شرع لنا، إذا لم ترد شريعتنا بنسخه ولم يثبت عن رسول الله ما يدل على النهـي عن سكناها، بل قد ثبت ما يدل على إباحة السكنى بها، حيث نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه في غزوة تبوك وأقام بها ما شاء الله أن يقيم إلى حالة أنهم عجنوا العجين لطعامهم، ومن المعلوم أن المسافرين لا يصيرون إلى عجن العجين إلا بعد مضي وقت من نزولهم، ويدل لذلك ما روى الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس عام تبوك الحجر عند بيوت ثمود فاستقى الناس من الآبار التي تشرب منها ثمود فعجنوا أو نصبوا القدور باللحم فأمرهم رسول الله فأهرقوا القدور وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال: «إني أخشى أن يصيبكم ما أصابهم». قال ابن كثير: وهذا الحديث إسناده على شرط الصحيحين ولم يخرجاه.
وترجم له البخاري فقال: باب نزول النبي بالحجر. فنزول رسول الله فيه بأصحابه دليل على إباحة نزوله إلى يوم القيامة، كما أثبت الله في كتابه استقرار المؤمنين فيه زمن نبي الله صالح فاتفق الكتاب والسنة على إباحة سائر الانتفاع به من الاستيطان والغرس والزرع كسائر بلاد الله ليست حجرًا محجورًا، بل عطاء ربك {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}([14] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn14)). فكما أن الله سبحانه أنجى المؤمنين من شؤم السخط النازل على ثمود، فكذلك ينجي الله أرضهم وماءهم فلا يصل إليهما شيء من شؤم هذا الشر، ولا تتغير حالتهما عن الإباحة الأصلية المطلقة، فإن جميع أرض الله طولها وعرضها، ومشارقها ومغاربها مباحة الانتفاع غير محجور على أحد فيها، لقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}([15] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn15)) {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}([16] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn16)). ولن تجد في أرض الله بقعة يقال إنها محجورة الانتفاع والسكنى بطريق الشرع إلا أن تكون بطبيعتها غير قابلة للانتفاع، كأراضي الثلوج والرمال الغليظة والسباخي ونحوها، كما أنك لن تجد في الدنيا ماء باقيًا على خلقته التي خلقه الله عليها، ثم هو ممنوع الاستعمال في الطهارة أبدًا.
والشبهة التي حصلت لدى بعض العلماء في القول بمنع سكنى الحجر هي مأخوذة من حديث ابن عمر كما رواه البخاري، قال: لمّا مرّ رسول الله ﷺ بالحجر قال: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم» ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي. انتهى.
فالقول بمرور رسول الله بالحجر لا ينفي نزوله به، فإنه يقال مرّ في سفره ببلد كذا وكذا وإن كان نزل بها يومًا أو يومين، وهذا مشهور في خطاب الناس، وحتى ابن حجر في شرحه للبخاري لمّا أتى على هذا الحديث في ترجمة باب الصلاة في أرض الخسف، ثم ساق الحديث بسنده، ثم قال: وأما الاستقرار فالكيفية المذكورة مطلوبة فيه بالأولية، أي أنها تمنع من ذلك، ثم قال: وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم لم ينزل فيه البتة، ووقع له في غزوة تبوك عند شرحه لهذا الحديث حينما أتى على قوله، ثم قنع رسول الله رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي.
قال: فدل على أنه لم ينزل ولم يصل هناك.. انتهى.
لكنه لمّا استبحر في شرح الكتاب ووصل فيه إلى كتاب الأنبياء، حيث ترجم البخاري فيه: باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر، ثم ساق حديث ابن عمر المستوفى مع التوابع له، فعند ذلك تبين له بطريق الجلية أن رسول الله ﷺ نزل بالحجر، فبعد شرحه لحديث ابن عمر المستوفى قال: وزعم بعضهم أنه مرّ بالحجر ولم ينزل به ويرده التصريح في حديث ابن عمر هذا. انتهـى. فسبحان من لا ينام ولا يسهو، فقد استدرك ابن حجر غلطه وقرر ثبات نزول النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر بعد نفيه له.
فهذه الشبهة التي راجت على الحافظ ابن حجر قد راجت على كثير من العلماء، حيث قالوا بمنع السكنى به لظنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بالحجر مسرعًا ولم ينزل به، لكون البخـاري قـد ذكـر هـذا الحديث في ثلاثـة مواضـع من كتابـه، فذكـره في كتاب الصلاة، ثم ذكـره في الغزوات ثم ذكره مبسوطًا مع المتابعات في كتاب الأنبياء على قوله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}([17] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn17)) وترجم عليه فقال: باب نزول النبي بالحجر.
وذكر ابن إسحاق وابن جرير نزوله، وهو دليل واضح على جواز الاستيطان به، إذ لو كان نزوله والسكنى به محظورًا على أمته لما حل به.
وأما تقنيعه لرأسه وإسراعه في سيره حتى أجاز الوادي، فإنه لا يدل على أمر ولا نهي مما يتعلق بالقضية، غير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رؤيته لبلد هؤلاء المعذبين استشعر الخشوع والخشية؛ لأن من كان بالله أعرف كان منه أخوف، وقد زالت شبهة الاستدلال بها بثبات نزوله في الحجر، وأنه لو كان في نزوله حرج أو أنه متأثر بنزول السخط لتباعد عنه النبي صلى الله عليه وسلم ولحذر منه أمته، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، كما أخبر الله عن المؤمنين زمن نبي الله صالح أنه أنجاهم من هذا العذاب، وبقوا في أرضهم كحالتهم السابقة ولم يؤمروا بأن يهاجروا عنها، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ *}([18] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn18)) فاتفق الكتاب والسنة على إباحة الاستيطان بالحجر كسائر بلدان الحضارة، ولم يثبت عن الله ورسوله ما يقتضي النهي عن ذلك.
ثم إن دين الإسلام بمقتضى نصوصه وأصوله يمنع من تعطيل مثل هذه الأرض عن الانتفاع بها؛ لأن الله سبحانه لم يخلق الأرض عبثًا وإنما خلقها للانتفاع بها، فالحكم عليها بعدم سكناها وعمارتها هو حكم بجعلها بمثابة السوائب المعطلة عن الانتفاع والتي حرّمها الإسلام من أجله، فقال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ}([19] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn19)) فالبَحيرة: هي ابنة السائبة يشقون أذنها ثم يسيبونها، والسائبة: هي الناقة التي تسيّب في الجاهلية لنذر ونحوه، والوَصيلة: هي التي تلد عددًا من التوائم الإناث ثم يسيبونها، والحامي: هو الفحل من الإبل يضرب ضرابًا معدودًا أو عشرة أبطن ثم هو حامٍ، أي يحمى ظهره فلا يركب ولا ينتفع منه بشيء. فهذه هي السوائب فلا تحلب ولا تركب ولا يقص وبرها ولا يؤكل لحمها ولا ينتفع منها بشيء، وإنما حرّمها الله لخروجها عن سنة الله في خلقه، فإنما خلقها للانتفاع الشامل قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ *وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ *وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ *}([20] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn20)). وقد رأى النبي ﷺ عمرو بن لحي، يجر قُصْبه([21] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn21)) في النار، لأنه أول من سيّب السوائب([22] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn22)).
فالحكم على أرض الحجر بالمنع من الاستيطان والانتفاع هو حكم عليها بجعلها سائبة، ثم هو حكم بضياع ماليتها، فإنها أرض مال، بل كل المال يستخرج منها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: «من كان عنده أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه» حرصًا منه على حراثة الأرض لما يترتب عليها من شمول النفع للعباد والبلاد، كما حث على الغرس والزرع لما روى مسلم في صحيحه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يغرس غرسًا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة».
وروى البخاري ومسلم عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه إنسان أو طير إلا كان له صدقة».
وروى الإمام أحمد عن معاذ بن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من بنى بنيانًا في غير ظلم ولا اعتداء أو غرس غرسًا في غير ظلم، ولا اعتداء إلا كان له أجرًا جاريًا ما انتفع به أحد من خلق الله»، بل قد ورد في مسند الإمام أحمد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها»، فهذه الأحاديث وما في معناها هي غاية في حفز الهمم وتنشيط الأمم وبسط الأيدي على الحرث والعمل؛ لأن دين الإسلام دين سعي وكد وكدح، يجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، يحب المؤمن المحترف ويبغض الفارغ البطال.
المسلم الحق يصلي فرضهويحمل الفأس ويسقي أرضهيجمع بين الشغل والعبادةليكفل الله له السعادة
والقرآن الكريم مملوء بنشر فضائل الأرض وشمول نفعها وما أودع الله فيها، كله خرج مخرج التشويق والتنشيط والترغيب في حراثتها والأكل مما رزقهم منها، قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ *وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ *لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ *}([23] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn23)).
وقال: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ *}([24] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn24)).
وكل ما مدحه الله في كتابه وعلى لسان نبيه أو شوّق إليه وحسنه، فإنه من الدين لكون الدين شاملاً لجميع مصالح الدنيا والآخرة، وروى ابن أبي الدنيا عن ابن عباس مرفوعًا، قال: «طلب الحلال جهاد» وأن الله يحب العبد المؤمن المحترف، وروى الطبراني والبيهقي عن ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «طلب الحلال فريضة بعد الفريضة».
وقد عد العلماء الفلاحة من فروض الكفاية متى أهملتها الأمة ولم يقم من أفرادها من يكفيها أمر الحاجة إليها كانت كلها عاصية مخالفة لدينه وشرعه.
فمتى كان الأمر بهذه الصفة، وأنه لا حرث إلا بأرض طيبة، ولا أرض إلا بأيدٍ عاملة، ولا يتفق هذا كله إلا في بلد حضارة، ومن المعلوم أن أرض الحجر قابلة للماء والنماء وصالحة للعمل والعمران، كما صرح بأوصافها القرآن في قوله حاكيًا عن نبيه صالح أنه قال في موعظة قومه: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ *فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ *وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ *}([25] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn25)) وهذه الأوصاف الجميلة لا تتفق إلا في الأرض النجيبة، فهـي وإن تخلفت هذه الأوصاف عنها لعدم الرغبة في سكناها وحرثها، فإن الله على رجعها لقادر، وإذا تأملت البقاع وجدتها تسقى كما تسقى النفوس وتسعد.
ولم نجد في كتاب الله ولا سنة رسوله آية ولا حديثًا يمنع من سكناها والعمل في أرضها ما عدا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن شرب الماء من آبارها لا من بئر الناقة، وهذا النهي يترجح تعلقه بالصحة والوقاية عن المياه الفاسدة الضارة، ولا يحتمل المعنى غيره؛ لأن حمله على أمر معلوم السبب أولى من حمله على أمر غير معقول المعنى مما يسمونه خلاف القياس، كما بينا ذلك في موضعه، والله أعلم.
* * *
المشكِلة الثانيَة
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن دخول مساكن المعذبين
إلا أن يكونوا باكين
أما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن دخول مساكن المعذبين إلا أن يكونوا باكين، فإن له سببًا؛ وذلك أن الله سبحانه قد أوجب على المؤمنين إذا كانوا مع رسول الله في أمر جامع بألاّ يذهبوا حتى يستأذنوه، وهؤلاء لمّا نزلوا الحجر نفروا إلى النظر في مساكن المعذبين بدون استئذان وبصورة استعجال، نظيره قوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}([26] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn26))، وليس كلهم انفضوا وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أحس منهم شيئًا من عزوب الخشوع والخشية في ذلك المقام وهي أول بلد من بلدان المعذبين، طرقها رسول الله وأصحابه، ولهذا أمرهم بالاجتماع فوعظهم وقال لهم هذا الكلام، كما روى الإمام أحمد عن أبي كبشة الأنماري عن أبيه، قال: لمّا كان غزوة تبوك تسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودي في الناس: الصلاة جامعة. قال: فأتيت رسول الله وهو ممسك بعيره وهو يقول: «ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم؟!»، فناداه رجل فقال: نعجب منهم. فقال: «أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك؛ رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وما هو كائن بعدكم، فاستقيموا وسددوا فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئًا».
يؤيده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسّ من بعض أصحابه بالتثاقل عن هذه الغزوة والكراهية للشخوص نحو هذه الوجهة لكونه أمر بها في زمن عسرة وشدة من الحر وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار وأحب الناس المقام في بلادهم وكرهوا الشخوص عنها على هذه الحال، ومن أجل هذه الأسباب أحب أن يغرس في قلوب أصحابه تعظيم أمر الله ورسوله ووجوب طاعته ولزوم الخشية والخوف من مخالفة أمره ومعصية رسوله.
قال في فتح الباري: ووجه هذه الخشية هو أن البكاء يبعث على التفكر والاعتبار، فكأنه أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء في اختيار أولئك للكفر مع تمكينه لهم في الأرض وإمهاله لهم مدة طويلة، ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه عليهم، وهو سبحانه مقلب القلوب فلا يأمن المؤمن أن يكون مثل أولئك الذين أهملوا عقولهم فيما يوجب الإيمان به والطاعة له فاستحبوا العمى على الهدى، فمن مرّ عليهم ولم يتفكر فيما يوجب البكاء فقد شابههم في إهمالهم، ودل فعله على قساوة قلبه فلا يأمن أن يجره ذلك إلى العمل بأعمالهم فيصيبه ما أصابهم. انتهـى.
والمقصود أنه لا يوجد في الشرع بكاء واجب محمود، بل البكاء كله مذموم إلا البكاء من خشية الله والخشوع له، فإنه مستحب، وقد أثنى الله على الذين إذا تليت عليهم آيات الرحمن خرّوا سجدًا وبكيًّا، فالبكاء الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخول مساكن هؤلاء المعذبين هو من جنس هذا البكاء المستحب، بحيث يثاب عليه فاعله ولا يعاقب تاركه؛ لأن السنة لا تخالف القرآن أبدًا، وقد أمر الله بالسير في الأرض للنظر في مساكن المعذبين المكذبين للرسل وكيف حقت عليهم كلمة العذاب ببغيهم وطغيانهم قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ *}([27] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn27))، وقال: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ *}([28] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn28)).
بل إن السكنى في مساكن المعذبين مباح في كتابه المبين. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنِا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ *وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ *}([29] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn29)).
فوعد الله رسله والمؤمنين بهم أن يسكنهم مساكن عدوهم ليتم بذلك انتصارهم عليهم؛ لأن العاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين نظيره قوله: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ *}([30] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn30)).
فهذه الآية ليس فيها ذم السكنى في مساكن الذين ظلموا أنفسهم، وإنما فيها الدعاء إلى الاتعاظ والاعتبار بالذين ظلموا أنفسهم، فهو يقول: انظروا إلى عاقبة سوء أعمالهم، حيث سكنتم في مساكنهم وتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا فاعتبروا بهم واحذروا أن تقعوا في مثل أعمالهم فما هي من الظالمين ببعيد.
وقد أخبر الله عن فرعون وملئِه أن الله سبحانه أورث موسى وقومه ديارهم وأموالهم فقال تعالى:{كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ *وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ *وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ *كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ *}([31] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn31))، أي أورثها الله موسى وقومه ومثله قوله في بني قريظة لمّا نقضوا عهد رسول الله، وظاهروا الأحزاب على حربه فأورث الله نبيه وأصحابه ديارهم وقصورهم قال تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا *وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا *}([32] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn32)).
فهـذه الآيات وما في معناها تدل بطريق الوضوح على إباحة السكنى في مساكن المعذبين بلا كراهة، سواء في ذلك بلاد الحجر أو مدين أو غيرهما، فمن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل والمؤمن لدى الحق أسير والله أعلم.
* * *
المشكِلة الثالثة
شرب ماء آبار الحجر والوضوء به
قال البخاري في صحيحه: حدثنا محمد بن مسكين أبو الحسن، حدثنا يحيى بن حسان بن حيان أبو زكريا، حدثنا سليمان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألاّ يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها واستقينا. فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء. قال: ويروى عن سبرة بن معبد وأبي الشموس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإلقاء الطعام. وفي حديث ابن عمر: أمرهم أن يعلفوا الإبل العجين، وأن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة.
أما ابن عمر، فإنه قد شهد القضية وحدث عنها بما سمع ورأى وهو أحد حفاظ الصحابة وهم سبعة: ابن عمر هذا، وأبو سعيد الخدري واسمه سعد بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، وابن عباس، وعائشة- رضي الله عنهم- ولا يعد حافظًا حتى يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم فوق ألف حديث، وقد نظمهم بعضهم، فقال:
سبع من الصحب فوق الألف قد نقلوامن الحديث عن المختار خير مُضَرأبو هريرة سعد جابر أنسصِدِّيقة وابن عباس كذا ابن عمر
وقد ترجم البخاري على حديث ابن عمر هذا فقال: باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر ثم ساقه بسنده، وموضع الإشكال هو نهيه عن الشرب من آبار ثمود إلا من بئر الناقة وأن يعلفوا الإبل العجين الذي عجنوه من مائها، ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق صحيح علة هذا النهي.
وقد أخد الفقهاء بظاهره فقرر بعضهم في المختصرات الفقهية أنه لا يجوز الوضوء من آبار حجر ثمود إلا من بئر الناقة ولم يذكروا علة النهي.
كما أن الصحابة الذين نقلوا حديث الحجر، مثل: ابن عمر وجابر وأبي كبشة الأنماري عن أبيه وسبرة بن معبد وأبي الشموس وأبي ذر وغيرهم، لم يذكر أحد منهم في حديثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الوضوء به، وإنما ورد القول بالنهي عن الوضوء به من طريق ابن إسحاق وهو ضعيف عند أهل الحديث، وقد نقله ابن كثير في البداية والنهاية ص10- ج5 ولفظه: قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر نزلها واستقى الناس من بئرها، فلما راحوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشربوا من مياهها شيئًا، ولا تتوضؤوا منه للصلاة وما كان من عجين عجنتوه فأعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئًا»، هكذا ذكره ابن إسحاق، بغير إسناد.. انتهى. ثم ذكر ابن كثير في موضع آخر ما نصه:
قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن العباس بن سهل بن سعد الساعدي أو عن العباس بن سعد – الشك مني – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مرّ بالحجر ونزلها استقى الناس من بئرها. فلما راحوا منها قال رسول الله للناس: «لا تشربوا من مائها شيئًا ولا تتوضؤوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فأعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئًا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له»، ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله إلا رجلين من بني ساعدة؛ أحدهما خرج لحاجته فاختنق على مذهبه، والآخر خرج لطلب بعيره فاحتملته الريح فألقته بجبل طيىء وأهدته طيىء إلى رسول الله بتبوك.. انتهـى.
فهذه القصة بهذا اللفظ لم يخرجها أحد من أهل الصحاح والسنن والمسانيد ولم يثبت القول بها عن أحد من الصحابة وابن إسحاق مع ضعفه، فإن حديثه هذا مرسل وهو لا يحتج بما وصله فما بالك بما أرسله، فإن العباس بن سهل تابعي وكذا العباس بن سعد، وقد شك فيمن حدثه منهما، ودلائل الوضع لائحة عليه من كل وجوهه، فإن هذا الرجل الذي يزعم أن الريح أطارته حتى رمت به على جبل طيء لم يثبت عن أحد من الصحابة القول به، ولو كان صحيحًا لاشتهر أمره وانتشر خبره من بينهم كلهم فضلاً عن بعضهم لكونها قصة غريبة، وحتى الذين تصدوا للتأليف في إحصاء الصحابة وبيان أسمائهم وأنسابهم مثل: الإصابة لابن حجر والاستيعاب لابن عبد البر و مسبوك الذهب ونحوها لم يذكروا أن أحدًا من الصحابة أطارته الريح، لكن التواريخ مبناها على التساهل في النقل، بحيث ينقل بعضهم عن بعض الحكاية على علاتها، كما قيل:
لا تقبلن من التوارخ كل ماجمع الرواة وخط كل بنان
والمقصود أن النهـي عن الوضوء بماء آبار الحجر أنه جاء عن طريق ابن إسحاق فقط وهو ضعيف لا يحتج به، مع العلم أنه في حديثه هذا لم يفرق بين ماء بئر الناقة ولا غيره، ويظهر أن الفقهاء أخذوا القول بعدم إجزاء الوضوء من آبار ثمود من رواية ابن إسحاق هذا؛ لأننا لم نجد لهذا القول أصلاً عن غيره، والأمر الثابت هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن شرب ماء آبار الحجر إلا من بئر الناقة ولم يَنْهَ عن الوضوء به، ونهيه عن الشرب منه لا يستلزم النهي عن الوضوء به، أشبه ماء البحر يجوز الوضوء به وينهـى عن شرابه، فسقط الاستدلال بموجبه، ولو كان صحيحًا لذكرها الصحابة الذين حضروا القضية؛ لأن ذكرها ألزم من ذكر العجين وغيره، كما أنهم لم يؤمروا بغسل ما أصاب هذا الماء من أجسادهم وثيابهم وأوانيهم، ويفهم من حديث ابن عمر الذي في البخاري أن النهـي عن شرب الماء بلغهم وهم في أرض الحجر لكون النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن ينتقلوا من الآبار إلى بئر الناقة وذلك بعدما شربوا وغسلوا وجوههم وثيابهم إلى حالة أنهم أخذوا يشتغلون بالعجين من هذا الماء، ويترجح أن خبر هذا الماء نزل به الوحي من السماء، وأن النهي عنه إنما هو لمصلحة تعود على صحتهم لعدم صلاحيته لحالهم، فلا ينبغي أن يحمل هذا النهي على كونه نجسًا كالبول، ولا أنه محرم كالخمر والدم، ولا ينبغي أن يحمل أيضًا على تأثره بجريمة ثمود ولا بحلول العقاب بهم {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ *}([33] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn33)).
وقد عرف الفقهاء الماء الطاهر الذي يرفع به الحدث ويزال به الخبث بأنه الباقي على خلقته، كما نزل من السماء أو نبع من الأرض، وهذا الوصف منطبق على مياه آبار الحجر، إذ جميع المياه في هذه الآبار وفي غيرها نازلة من السماء.
كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ *}([34] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn34)).
وفي الآية الأخرى: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ}([35] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn35)) فكل المياه الموجودة على وجه الأرض من آبار وعيون وبحار كلها طاهرة مباحة يرفع بها الحدث ويزال بها الخبث ما لم يتغير شيء من أحد أوصافها بالنجاسة، سواء في ذلك آبار الحجر وغيرها، وقد مكث نبي الله صالح عليه السلام والمؤمنون معه يتمتعون بخيرات بلادهم ويشربون من ماء آبارهم غير محجور عليهم في شيء وذلك بعد نزول العقاب بثمود وشرع من قبلنا شرع لنا، ما لم ترد شريعتنا بنسخه. إذا ثبت هذا، فإن النهي الصادر من النبي ﷺ يجب أن يحمل على أمر حسي معقول المعنى، وذلك مما يتعلق بحفظ الصحة والوقاية عن المياه الوبيئة، وأنه قد ظهر للنبي ﷺ في ذلك الزمان من فساد بعض المياه وضررها على الصحة ما لم يظهر لغيره إلا بعد أزمان طويلة، وهذه الآبار التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب من مائها يترجح بأنها آبار مهجورة عن الاستعمال، ولهذا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتركوها ويستقوا من بئر الناقة من أجل صحة مائها، لكون الناس يردونها ويستقون منها إلى هذا الزمان، وإلا فإن الكل آبار ثمود حتى بئر الناقة، يقول الله: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}([36] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn36)).
ومن المشاهد بالتجربة أن الآبار المهجورة يتكون فيها مواد من الغازات السامة يسمونها بـ (كلوريد الهيدروجين) وهو من العناصر التي اكتشفها الطب الحديث من عهد قريب وتكثر فيها أنواع الغازات السامة والأبخرة التي تنفصل من مواد الأرض وتختلف كثرة ضررها وقلته باختلاف القرب والبعد من الأرض ويعظم خطرها بالإكتام وعدم اتصال الهواء بها، كما يشاهد ذلك في الفحم وغازاته السامة، حيث يقضي بالاختناق ثم الموت، ومثله السرج ذات الفتائل في موضع الاكتتام ومن المشاهد بالتجربة أن المستعجل إلى الوقوع في مثل هذه المياه المهجورة للاغتسال ونحوه قبل أن يختبرها، فإنه يصاب بالاختناق من ساعته، ثم ينزل إليه الثاني لإنقاذه فيصيبه ما أصابه، ثم الثالث والرابع، فيهلكون جميعًا، وقد وقعت قضايا متعددة في كل بلد من نحو ذلك، لهذا نرى أهل الطب والذكاء والمعرفة يحذرون أشد التحذير عن قربان مثل هذه القلبان إلا بعد اختبارها بإلقاء الأدوية المفسدة لهذه الغازات السامة، ثم تحريكها التحريك القوي بالدلاء ونحوها، هذا كله قد أصبح من الأمر المشهور المعروف الذي يوصي الناس بعضهم بعضًا بموجبه، وقد عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي قبل أن يعرفه هؤلاء بألف سنة، فحذر منه أصحابه وأصبح في علم الطب الحديث أن المياه تختلف في الضرر والصحة اختلافًا عظيمًا، فهم يحكمون على بعض الآبار بأن ماءها فاسد ضار وخطر على الصحة، كما يحكمون على بعضها بالصحة والنقاوة وأنه يحلل الحصا من الكلى ونحو ذلك. أدركوا هذه المنافع والمضار بالوسائل الدقيقة من المناظير المكبرة التي تبرز لهم الميكروبات عيانًا وهي أجسام حية والتي تضر آكلها وشاربها حتى ولو عجن بمائها العجين، ورسول الله هو طبيب الأديان والأبدان فمتى نزل عليه الوحي بخبر ضرر هذا الماء وعدم صلاحيته للأجساد أفنحكم عليه والحالة هذه بعدم جواز استعماله في الطهارة بدون سبب يزيله عن طهوريته، ثم إن هذا الماء في هذه الآبار يكون فاسدًا ضارًّا للصحة في وقت ثم يكون صالحًا للشرب في وقت آخر، على حسب ما يزاول به من الأدوية التي تنفي الضرر عنه وتمحضه للصحة أو يكون منهورًا ومورودًا يستقى منه على الدوام؛ لأن هذا من الأسباب التي تزيل عنه الضرر ويكون صحيحًا صالحًا للاستعمال.
وفي الحديث: «ما من داء إلا وله دواء علمه من علمه وجهله من جهله»([37] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn37)) لهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يشربوا من بئر الناقة، من أجل أنها منهورة ومستعملة فهي سالمة من الغازات السامة، وإلا فإن الكل آبار ثمود، فحمل هذا النهي عن شربه على أمر معلوم سببه أولى من حمله على أمر غير معقول المعنى مما يسمونه خلاف القياس؛ لأنه ليس في السنة الصحيحة ما يخالف القياس الصحيح، كما حقق ذلك شيخ الإسلام وابن القيم في الإعلام نظير هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة نفسها قال لأصحابه. «إنكم ستأتون غدًا عين تبوك فمن جاء فلا يمس من مائها شيئًا حتى آتي»([38] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn38))، حتى إنه لمّا سبقه رجلان إلى عين تبوك فشربا منها أغلظ عليهما بالكلام وقال: «ألم أنهكم أن يسبقني إليها أحد». فنهيه عن ماء آبار ثمود هو نظير نهيه عن ماء بئر تبوك على السواء، وهذا دليل على حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وحمايته لهم عن الاستعجال عن موارد المياه المجهولة المهجورة إلا بعد اختياره لها، ولا يبعد هذا النهي عن نهيه عن الشرب من آبار ثمود لمّا تبين له فسادها.
فهو يحاذر على أصحابه من علوق الوباء والوقوع في البلاء، كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إنه ما من نبي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، ويحذرهم عن شر ما يعلمه لهم»([39] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn39))، ولمّا كان غالب أصحابه الذين غزوا معه تلك الغزوة هم حديثو عهد بدخولهم في الإسلام؛ لأن العرب لم يتوسعوا في دخول الإسلام إلا بعد فتح مكة في السنة الثامنة وفي السنة التاسعة دخلوا في الدين أفواجًا أفواجًا وهم حديثو عهد ببادية لا يحتفلون بالأسباب ولا يعرفون النافع من الضار، لهذا نهاهم رسول الله عما يضرهم منها، كما أن عادة الزعيم ينهى قومه عن الوقوع في البلاء ومراتع الوباء.
ومن المشاهد من مضار هذه المياه أنه يوجد آبار في مكان يسمى ماوان وهي مزارع لأهل بلد حوطة بني تميم، وتقع في المنتصف بين الرياض والحوطة، فخرج أهلها إليها يريدون زراعتها بعد تركهم لها أزمانًا طويلة فعملوا عملهم في حراثتها وقلب أرضها ووضعوا البذور فيها وركبوا آلات السقي وعملوا عملهم، فبعد ما حركوا الماء أصيبوا بالحمى القتالة فهربوا وتركوا زروعهم فمات بعضهم وبقي بعضهم عليلاً زمانًا طويلاً.
والحادثة الثانية: هو أنه خرج جماعة من صنعاء يريدون التوجه إلى الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية، قالوا: فنزلنا على حي من العرب، نريد أن نستوضحهم الطريق، فتصدى لإرشادنا رجل عاقل من الحي. قال: إنكم ستأتون في مكان كذا واديًا معترضًا وفي الوادي ماء فلا تشربوا من مائه ولا تناموا فيه لئلا تصيبكم الحمى. قالوا: فلما أتينا الوادي وجدناه كما وصفه لنا ووجدنا الماء حلوًا عذبًا والوادي سهلاً لينًا. وقلنا: هذا رجل متطير. وتوكلنا على الله، فلم نحتفل بكلامه وشربنا من الماء ونمنا في الوادي ولم نقم من النوم إلا وقد علقت بنا الحمى القتالة فمات بعضنا وبقي بعضنا عليلاً زمانًا طويلاً، وكم قتلت أرض جاهلها، ومن المشاهد بالتجربة أن المسافرين يردون بعض المياه ثم يقوضون منها وقد أصيبوا بشيء من الأضرار أقلها الزكام الشديد، كله من أجل فساد الماء.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل من الطعام ما عرض عليه، فلا يتكلف مفقودًا ولا يرد موجودًا، أما الماء فكان يحرص على نقاوته، ولهذا كان يستعذب له الماء من السقيا، وهي تقع على أربعة أميال من المدينة.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم مع قوة إيمانه وتوكله على الله كان يتقي أسباب البلاء ويأمر بالتباعد عن مواقع الوباء، ويقول: «لا يورد ممرض على مصح»([40] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn40))، وقال: «إذا وقع الوباء بأرض فلا تقدموا عليه»([41] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn41))، وقال: «فِرّ من المجذوم فِرارك من الأسد»([42] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn42))، وجاءه قوم وقالوا: يا رسول الله إن لنا بلدًا هي ريفنا ومصيفنا وإنا إذا نزلناها نحفت أجسامنا وقل عددنا. فقال رسول الله: «اتركوها ذميمة فإن من القرف التلف»([43] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn43))، فهذه تعتبر من باب اجتناب الأسباب التي جعلها الله أسبابًا للهلاك والأذى، والعبد مأمور باتقاء أسباب البلاء إذا كان في عافية منها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن من القرف التلف، يعني أن مقاربة الإنسان للأشياء المعدية والضارة بطبعها أنها سبب مقارفة الجسم لها، بحيث تعلق به ثم يهلك، وقد قيل: الوقاية خير من العلاج، والدفع أيسر من الرفع، والشفاء قبل الإشفاء.
فكل الأدوية والعقاقير التي يستعملها الأطباء للوقاية عن رفع البلاء أو دفع الوباء هي بالحقيقة من مخلوقات الله التي أنبتها في أرضه إحسانًا منه لهم بإيصال نفعها إليهم، وخص كل نوع منها بنوع من المرض يزول به ويشفيه، وركب في الإنسان العقل والسمع والبصر ليتم بذلك استعداده لتناول منافعه ومصالحه واستعمالها في وقاية صحته وحفظ بنيته؛ لأن الله سبحانه «لم ينزل من داء إلا وأنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله»([44] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn44)).
وكل الأمم على اختلاف أديانهم وأوطانهم قد جربوا وقاية التطعيم عن الأمراض المعدية، مثل: الجدري والكوليرا وغيرهما، فوجدوا لها من التأثير على الوقاية من الأمراض القتالة ما يشهد الواقع بصحته ولا طبيب إلا ذو تجربة، فخلفاء الرسل يحاربون القدر بالقدر ويفرون من القدر إلى القدر، ويحكمون الأمر على القدر.
لهذا، نجد بعض الناس يتكاسل ويتقاعس عن استعمال الوقايات المجربة والأدوية النافعة توكلا منهم بزعمهم فيجعلون عجزهم توكلا، وإنما المتوكل هو من يستعمل أسباب الوقاية المجربة والأدوية النافعة، ثم يتوكل على ربه.
وعاجز الرأي مضياع لفرصتهحتى إذا فات أمر عاتب القدرا
* * *
المشكِلة الرابعَة
الصلاة في أرض الحجر هل هي جائزة أو غير جائزة
إن أرض الحجر هي طرف من أرض الله التي خلقها وبسطها وجعلها للناس مستقرًّا ومسكنًا وجعلها مسجدًا وترابها طهورًا، كما في صحيح البخاري ومسلم عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسًا لم يعطها نبي قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلّت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجُعلتْ لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ – وفي رواية: فعنده مسجده وطهوره – وأُعطيتُ الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس كافة»، فهذا الحديث صريح في أن أرض الحجر مسجد وتربته طهور، وكذلك ماؤه طهور، حيث لم يوجد ما يقتضي سلبه الطهورية ولا النهـى عن الوضوء به بطريق صحيح.
وقد ترجم البخاري في صحيحه فقال: باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب، قال: يذكر عن علي أنه كره الصلاة في خسف بابل. ثم ساق بسنده إلى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين» الحديث. ويفهم من وضع الترجمة وسوقه للحديث المذكور أنه يرى كراهية الصلاة في الحجر، حيث استدل على ذلك بسياقه للأثر عن علي رضي الله عنه أنه كره الصلاة في خسف بابل، وهذا رأي منه وليس برواية، والرأي يخطئ ويصيب، وكان الصحابة يرد بعضهم على بعض في الآراء التي ليس لها سند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عندنا من سنة رسول الله ما يمنع الصلاة بها، بل ولم يثبت القول بذلك عن أحد من الصحابة وحتى الوضوء من آبار الحجر لم يثبت عن أحد من الصحابة القول بعدم الاجتزاء به، وكل الذين ذكروا حديث الحجر، مثل: ابن عمر وجابر بن عبد الله وأبي كبشة الأنماري عن أبيه وسبرة بن معبد وأبي ذر، لم يذكر أحد في حديثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الوضوء بمائه أو الصلاة في أرضه، وقال في الفتح بعد شرحه لحديث النهـي عن دخول مساكن هؤلاء المعذبين «إلا أن تكونوا باكين»([45] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn45))، قال ابن بطال: وهذا يدل على إباحة الصلاة بها، لأنها موضع بكاء وتضرع. انتهى. والقول بتأثر الأرض أو الماء بنزول السخط على ثمود بعيد جدًّا إذ لو كان صحيحًا لأوجب الله على نبيه صالح والمؤمنين معه بأن يهاجروا عنها، ولما استباح النبي صلى الله عليه وسلم النزول بها ولو ساعة واحدة والله أعلم.
* * *
مَديَنة مَديَن وَهم قومُ شعَيب عليه السلام
يقول الله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}([46] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn46))، وقد أخبر الله تعالى في عدد من سور القرآن بعبادتهم غير الله وإفسادهم في الأرض وبخسهم للكيل والوزن وقد بالغ نبي الله شعيب في نصحهم فأصروا واستكبروا وعَتَوْا عتوًّا كبيرًا. قال في أعلام القرآن ص353: ومدين اسم قرية كانت على البحر الأحمر وبها البئر التي استقى منها موسى عليه السلام لبنات شعيب. وقال في معجم البلدان رقم 417- ج7: مدين بفتح أوله وسكون ثانيه، تقع على بحر القلزم محاذية لتبوك على نحو من ست مراحل وهي أكبر من تبوك وبها البئر التي استقى منها موسى لسائمة شعيب عليهما السلام قال: وقد رأيت هذه البئر مغطاة قد بني عليها بيت ونماء أهلها من عين تجري، ومدين اسم القبيلة سميت بمدين بن إبراهيم عليه السلام. انتهـى.
وأقول: إن مدين تقع الآن في حدود المملكة العربية السعودية، وبها سكن وزروع وسمعت بأنه يوجد بها نخل، فهذه من بلدان الأمم المعذبة، ويقال فيها ما يقال في الحجر جوازًا ومنعًا، يقول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ *}([47] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn47)) {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ *كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِثَمُودَ *}([48] (http://binmahmoud.com/?p=990#_ftn48))، فأخبر الله سبحانه أنه أنجى نبيه شعيبًا والذين آمنوا معه من هذا العذاب النازل على قومهم وأنهم بقوا في أرضهم يتمتعون بخيراتها ويأكلون من طعامها وشرابها ويعبدون الله في أرضها كحالتهم السابقة أو أحسن وأرض مدين هي شقيقة أرض الحجر، فالسخط النازل على أهلها لا تعلق له بأرضها ومائها، ولا تزال هذه البلدة مسكونة ومعمورة إلى وقت الآن، كما أن بلد الحجر لا يزال مسكونًا إلى وقت الآن، إذ الأصل الإباحة ولم يثبت ما يقتضي الكراهة، فضلا عن التحريم، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * *
([1]) سورة الفجر: 5.

([2]) سورة الفرقان: 22.
([3]) سورة الحجر: 80.
([4]) سورة الأعراف: 73.
([5]) سورة هود: 61-68.
([6]) سورة فصلت: 16-18.
([7]) سورة الشعراء: 146-154.
([8]) سورة سبأ: 15.
([9]) سورة الملك: 15.
([10]) سورة البقرة: 29.
([11]) سورة الإسراء: 20.
([12]) سورة الحجر: 19-20.
([13]) سورة هود: 66.
([14]) سورة الإسراء:20.
([15]) سورة البقرة: 29.
([16]) سورة الملك: 15.
([17]) سورة هود: 61.
([18]) سورة هود: 66.
([19]) سورة المائدة: 103.
([20]) سورة يس: 71-73.
([21]) القصب: الأمعاء.
([22]) متفق عليه بنحوه من حديث أبي هريرة.
([23]) سورة يس: 33-35.
([24]) سورة الأنعام: 141.
([25]) سورة الشعراء: 146-148.
([26]) سورة الجمعة: 11.
([27]) سورة النمل: 69.
([28]) سورة الروم: 9.
([29]) سورة إبراهيم: 13-14.
([30]) سورة إبراهيم: 45.
([31]) سورة الدخان: 25-28.
([32]) سورة الأحزاب: 26-27.
([33]) سورة البقرة: 134.
([34]) سورة المؤمنون: 18.
([35]) سورة الزمر: 21.
([36]) سورة الشعراء: 155.
([37]) أخرجه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود.
([38]) أخرجه مسلم من حديث معاذ.
([39]) أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو.
([40]) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
([41]) متفق عليه من حديث عبد الرحمن بن عوف.
([42]) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة.
([43]) أخرجه أبو داود من حديث فروة بن مسيك بلفظ: «دعها عنك».
([44]) أخرجه أحمد من حديث ابن عباس والبخاري بنحوه من حديث أبي هريرة.
([45]) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر.
([46]) سورة الأعراف: 85.
([47]) سورة هود: 58.
([48]) سورة هود: 67-68.
موقع الشيخ رحمه الله http://www.ibn-mahmoud.com/index.php?op=letters (http://www.ibn-mahmoud.com/index.php?op=letters)