المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تركيا الحاضر والماضي بين الاسلام والعلمانيه


khaledm
11-07-07, 12:14 AM
اقتربت القوات العثمانية من اسوار فيينا، ورفرفت الرايات الاسلامية التي يتصدرها الهلال عالية قبالة المدينة المذعورة الآيلة للسقوط، غير ان حدثاً جللاً وقع في القسطنطينية اوجب علي الجيش الانسحاب، افاقت فيينا ذات فجر فاذا الرايات قد اختفت والعثمانيون قد غادروا، وقبل ان تشرق شمس ذلك اليوم كان الخبازون في المدينة قد عبّروا عن ابتهاجهم بأن وزعوا علي سكانها خبزاً مضافاً اليه السكر علي شكل الهلال، الكرواسان، ومنذ ذلك اليوم وحتي الآن .. لا يزال الاوروبيون يفضلونه علي موائد افطارهم...
في التاريخ اذن امبراطورية عمرها 500 عام تقريباً وصلت الي ابواب فيينا في القلب الاوروبي، ثم يصدر اتاتورك قراراً جمهورياً بنسيان الاسلام ويحرّض علي المساجد وعلي اللغة العربية وكل ما يربط تركيا بمحيطها الاسلامي، بما في ذلك الطربوش او العمامة باعتبارها رمزاً من رموز مرحلة يريد لها ان تنتهي، ولكن هل انتهي الاسلام في تركيا، وهل فقدت تركيا روحها الشرقية؟ هل ذابت تركيا في الغرب بعلمانيته ومنظوماته الفكرية والاخلاقية؟ هل فقد المواطن التركي البسيط الهادي رجل الشارع كما يحلو للسياسيين تسميته، البوصلة فلم يعد يعرف هويته، او حدث له لبس ما في هويته؟
نجزم هنا انه ورغم مرور نحو 85 عاماً علي المحاولة الاتاتوركية لتغريب تركيا فان ذلك لم يحصل ولن يحصل، وهذا المقال سيناقش الحالة التركية وتفاصيل تشابكها مع الحالة العربية في محاولة لشق الطريق امام الباحثين عن مستقبل افضل في الحالتين..
لقد فرضت الجغرافيا في هذه المنطقة علي التاريخ ان يسايرها ان لم نقل ان يسير علي هواها، فقد بدأ التداخل في النسيج المكوّن لشعوبها يقوي مع قيام الدول الاسلامية الكبري، الاموية ثم العبّاسية، وادي الاحتكاك بين العنصر العربي والعنصر الفارسي في تلك الاخيرة الي استجلاب الخلفاء للعنصر التركي ليصبح فاعلاً اساسياً في السياسات والمجتمعات الاسلامية منذ وقت المعتصم، ويعزي انهيار العصر العباسي الي الدور الذي لعبه الاتراك في تنصيب وخلع ملوك ذاك العصر واللعب بهم، وادي ذلك الي انتشار ظاهرة الحركات الانفصالية والاستقلالية عن المركز في بغداد، من المغرب الاقصي الي مصر المحروسة، ونشوء الدول الكثيرة المتناحرة فيما بينها المنقلبة علي بعضها، وهي اللحظة التي ادرك ملوك الغرب وبابواته حتمية انتهازها، فاسقطوا الدويلات الاسلامية في الاندلس وطوروا هجوماتهم بالحروب الصليبية في حملات متتالية، كان العرب في مشرق الوطن العربي ومغاربه قد انهكوا تماماً علي يد الغزاة من وسط آسيا المغول ومن وسط اوروبا، وفي ذلك الوقت كانت القوة التركية تتجمع في الاناضول، ثم ما لبثت ان ظهرت معبّرة عن نفسها بالراية الاسلامية وبالمسمي العثماني، وادرك السلطان سليم الاول اول سلاطين بني عثمان الفاتحين من ذوي الفكر الاستراتيجي الثاقب، ان شرعية امبراطوريته الاسلامية لا تكتسب الا بضم الاقاليم العربية الرئيسية، وهكذا سيطر علي الشام ومصر ومد نفوذه الي الحجاز واليمن واتسعت طموحات العثمانيين الي الشمال الافريقي فضموا ليبيا وتونس والجزائر، ووجد العرب انفسهم ازاء دولة تحمل هويتهم الاسلامية وتحكم بثقافتهم العربية، فانخرطوا فيها طوعاً او كرهاً ودام ذلك لقرون متتالية..
الا ان الاوضاع تغيّرت تدريجياً مع الدخول في القرن التاسع عشر، إذ بدأت مرحلة ما بعد الكشوف الجغرافية التي استهلها البرتغاليون واستفاد منها كثيراً الانكليز والفرنسيون، بدأت تفرض الدخول في اجواء ومناخات الاستعمار، فالاوروبيون اتكأوا علي ثروات العالم الذي اكتشفوه لتكديس عوامل انطلاق ثوراتهم الصناعية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية، وفيما كان التنافس بينهم يؤدي الي حروب اوروبية تنتهي بمعاهدات واتفاقات ترضية وتسوية بعد المساجلات الدموية، الا انهم جماعياً رنوا بابصارهم الي تلك القوة العظمي الجنوبية الشرقية التي تقف بازائهم، وهكذا شجعوا النزعات الاستقلالية والانفصالية علي طول الساحل الجنوبي للمتوسط، وابرموا معاهدات تجارية وسياسية مع السلطنة العثمانية ومع الاقاليم التي تتشكل منها، وفي الوقت ذاته بدأت المناوشات العسكرية بينهم وبينها بحرياً وبرياً بدءاً من البلقان، في ذلك الوقت ادرك سلاطين بني عثمان انهم ازاء قوي اكثر تقدماً تقنياً وعلمياً واكثر تنظيماً ادارياً ومجتمعياً، فحاولوا الاستفادة من مفردات الحضارة الاوروبية الناشئة مدنياً وعسكرياً، بالذات عبر الالمان، ولكن ذلك كله كان قد فات اوانه..
وفي مصر، حاول محمد علي باشا الاستفادة من اللحظة التاريخية، اي الصراع بين العثمانيين والقوي الاوروبية، ودعمه الاوروبيون في البداية ضمن منهجهم لتفتيت السلطنة، فارسل ابنه فاتحاً للشام، ثم عندما حاول ان يكرر انجاز صلاح الدين الايوبي حين جعل الوحدة المصرية ـ السورية ركيزة لمواجهة اوروبا، استدار الاوروبيون 180 درجة، ووقفوا مع السلطان محمود الثاني في الأستانة ضده، وخاضوا معركة بحرية ساحقة ضد اسطوله في المياه اليونانية وشجعوا العثمانيين علي العودة الي الشام مرة اخري بعد عام 1840، فالاوروبيون ادركوا خطورة ان تنشأ في الشرق دولة قومية عربية اسلامية، وهم الذين يريدون ابتلاع الدولة الاسلامية ذات الراية التركية، ولعبت روسيا القيصرية دورها في اضعاف الامبراطورية الاسلامية العثمانية، حتي اذا ما اقترب القرن العشرون من الاطلال علي شعوب المنطقة، كانت قد تبلورت في تركيا اتجاهات قومية طورانية معادية للعناصر الاخري داخل السلطنة، فرضت التتريك علي انقاض التعريب، واعملت السيف في الاقاليم بدلاً من السياسة، وقدمت اوروبا الي المنطقة بخطة متكاملة لتتقاسمها فيما بينها، كانت الجزائر قد الحقت بفرنسا، ودخلت جحافل الطليان السواحل الليبية دون مقاومة تذكر من بقايا الحامية العثمانية، وبدأ التمهيد اليهودي لتنفيذ مقررات مؤتمر بازل الصهيوني بنهاية القرن التاسع عشر الخاصة بانتزاع فلسطين، وكانت الحماية البريطانية قد فرضت استعماراً فعلياً في مصر والسودان والعراق، فيما نظيرتها الفرنسية قد سادت في الشام، وفي خضم ذلك وقعت الحرب العالمية الاولي فدشّنت سقوط السلطنة العثمانية، ولعب الاوروبيون وخاصة الانكليز والفرنسيين لعبة خبيثة ضحكوا فيها علي القيادات السياسية للعرب آنذاك، بان وعدوهم بالاستقلال اذا ما وقفوا مع اوروبا ضد العثمانيين، فلما انجلي غبار المعارك كانت الثورة البلشفية قد اخرجت من خزائن القيصر المعاهدات السرية التي كشفت التواطؤ الاوروبي لتقاسم احتلال الاقاليم العربية..
خرج العرب والاتراك من الحرب العالمية الاولي اعداءً لبعضهم البعض، ولكن وضع كل منهم كان مختلفاً عن الآخر، الاتراك ارضهم يحتلها الانكليز والفرنسيون واليونانيون، ولكن كيانهم السياسي واحد، واستطاع الضابط كمال اتاتورك ان يثير روحاً قومية هائلة وان يستفيد من بقايا القوة العسكرية التي ورثها عن السلطنة العثمانية في اخراج المحتل وتحرير الاراضي التركية، فحقق بذلك مجده الشخصي كبطل قومي وفي الوقت نفسه ارسي دوراً تاريخياً للمؤسسة العسكرية لمْ تزل مفاعيله السياسية حاضرة حتي الآن، وبمجرد انتصاره اعلن رغبته في اللحاق بالذين كان يقاتلهم، وسعي لانهاء الهوية الاسلامية لتركيا واستبدالها بهوية اوروبية وغربية، واطلق حملة للتحديث في مؤسسات الدولة وتشريعاتها علي النمط الاوروبي السائد، كان ذلك في العام 1923 ولمّا يزل الحلم الاوروبي يراود الاتراك علي الجانب الآخر، خرج العرب من الحرب العالمية الاولي ليشهدوا جزاء سنمار الاوروبي، ولادة انظمة سياسية صنيعة الانتدابات، منعت وحدتهم القومية وعوضتهم بجامعة كأنها ناد سياسي للوفود، وحرمتهم الاستقلال وفرضت عليهم التخلف الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والطبقي، واقتطعت فلسطين من ارضهم لتمنحها للصهيونية العالمية لتقيم عليها كيانا غاصباً دموياً..
هل كان الاتراك علي خطأ عندما صعّدوا القومية الطورانية وشهروها في وجه العرب؟
هل كان العرب علي خطأ عندما شهروا القومية العربية ورفعوها في وجه الاتراك؟
الثابت ان المستفيد الاكبر من محطة العداء التاريخي العربي ـ التركي كان الاستعمار الاوروبي وربيبته الجديدة - آنذاك - المسماة بــ( اسرائيل )..
ونحن بعد نحو قرن من الزمان نحكم علي الاحداث احتكاماً للموضوعية - ما استطعنا الي ذلك سبيلاً - فنجد ان كلا الطرفين وقع في اخطاء قاتلة ومدمرة.
سنبدأ بالطرف العربي، فان ما يجمع العرب الي الاتراك هو اهم وابقي مما يجمعهم باي طرف اوروبي، وكان ينبغي علي قادة تلك المرحلة من السياسيين والزعماء ان يتشبثوا بالدولة الواحدة التي تجمعهم معاً بدلاً من ان يتفرقوا عرباً تحت الانكليز والفرنسيس والطليان والاسبان، وفي الحقيقة فان الوعود بتنصيب عائلات بعينها ملوكاً علي العرب هي اللعبة التي انساقت اليها تلك العائلات وجرّت وراءها الأمة لتصبح رهينة سايكس ـ بيكو ووعد بلفور، وهكذا من اجل حفنة من اولاد الشريف حسين سيصبحون ملوكاً خسرت اقطار عربية حريتها ووحدتها، ثم انقلب الانكليز والامريكان علي الشريف حسين نفسه فيما بعد، ونصبوا عبدالعزيز آل سعود ملكاً علي الحجاز وساعدوه، اما طبقة المثقفين والمناضلين حاملي رتب البكوية والباشوية في بلاد الشام وفي مصر وفي العراق، فمنهم من كان صادقاً في عروبته ودعوته القومية التحررية، ومنهم - وهم الاكثرية - من كان يسعي بدوره الي الوجاهة والسلطة تحت جناح التحديث ودعاواه الاوروبية، ولكنهم ارتكبوا خطأ مميتاً عندما لم ينتبهوا الي اطماع الاستعمار الاوروبي، عندما لم يقرؤوا جيداً مفردات الخطاب السياسي للحكومات المتنافسة في اوروبا علي استعمار المشرق والمغرب العربيين، عندما انساقوا في المجهود الاوروبي ضد الدولة العثمانية فقدّموا اوروبا باعتبارها المنقذ، يعبر عن ذلك افضل تعبير الشاعر العراقي الاشهر جميل صدقي الزهاوي بقصيدة طالب فيها العرب بالتخلي عن ولائهم للترك، وموالاة الانكليز الذين وصفهم بأنهم رجال عدل وصدق في الفعال وفي الكلام.
بل انه لمن مهازل الحياة السياسية العربية في تلك الفترة، ان دول الاستعمار الاوروبي قد قدّمت نفسها في خطابها الذي تبناه الكثير من المثقفين والسياسيين العرب امثال الزهاوي في العراق، علي انها محررة العرب من النير التركي العثماني، هذه الخدعة التي تلتها الخرافة لمّا تزل تنطلي علي الكثيرين حتي الآن، برهاناً يضاف الي براهين عدة علي قصور الوعي الاستراتيجي عند الانتلجنسيا العربية قديماً وحديثاً..
ولقد ترتب علي ما سبق تكون صورة نمطية عامة شائعة عن العرب عند الاتراك، انهم غدارون منساقون وراء غرائز قياداتهم وزعاماتهم بما فيها الغرائز الشخصية.. وندلف الآن الي الطرف التركي، انطلاقاً وتأكيداً كذلك علي ما سبق واكدناه من ان ما يجمع العرب والاتراك هو اهم وأبقي مما يجمعهم بأي طرف اوروبي..
فالانقلاب الذي احدثه اتاتورك الضابط السابق في جيش السلطنة، كان اخطر من المتغير السياسي، كان انقلاباً علي الهوية الفعلية للاتراك، وبادئ ذي بدء لا يمكن من باب الانصاف ان يحتكر اتاتورك دعاوي التحديث في تركيا، فقبل قرن من الزمان حاول السلاطين العثمانيون الولوج الي التحديث من خلال الاستفادة من معاهدات ابرموها مع اطراف اوروبية كما سبق واشرنا الي ذلك، لقد خاض السلطان معركة تصفية قوات الانكشارية رمز التخلف والجمود، والسلطان احمد الثالث في مطلع القرن الثامن عشر احيا نهضة معمارية اسفرت عن تلك القصور والمساجد الرائعة والتي اراد بها ان يظهر عز السلطنة مقابل القصور الفرنسية في باريس وفرساي ومارلي، والسلطان سليم الثالث في مطلع القرن التاسع عشر بدأ في بناء قوة عسكرية نظامية حديثة التسليح علي نمط جيوش الممالك الاوروبية، فالدعوة الي التحديث سابقة لاتاتورك، وهذا انما جاء بها ليحدث كما اسلفنا انقلاباً علي الهوية، اراد تسخير القومية التركية لتكون رأس حربة ضد الارث الثقافي والديني والروحي الذي يربط تركيا بالاسلام وبالتالي بالعرب، ومن اجل ان تكون دافعاً للانتماء الي علمانية غربية تلحق تركيا بالمحيط الاوروبي، وفي السياق، وضمن التعبئة والتحشيد للقومية التركية اطلق موجة هائلة من التعصب للتتريك وارسي اطروحة نظّر لها مفكرون اتراك بان العنصر التركي هو المصدر الاصلي لكل حضارات العالم، وخرج بنظرية الشمس ذات الاشعة الستة التي يشير كل شعاع منها الي مبدأ، وتحدث عما اسماه بالاصل التركي للغة وان اللغة التركية هي ام لغات العالم فكل حضارة اساسها تركي وكل لغة خرجت من التركية، فمن ناحية وازن بذلك عملية اللحاق التي اجراها عملياً باوروبا وما سيتبعها من ذيلية، ومن جهة ثانية اتخذ هذا التعصب سلاحاً ضد العناصر المكونة لتركيا، ضد العرب وضد الاكراد وضد الارمن، فرض علي هذه العناصر جميعاً التتريك، بل لقد لجأ اتاتورك الي خداع الاكراد ابان المعارك التي قادها ضد الانكليز والفرنسيين واليونانيين الذين كانت قواتهم تحتل اراضي تركيا كنتيجة للحرب العالمية الاولي، عقد اتاتورك مؤتمراً في ارضروم، وهي مدينة كردية في الاناضول الشرقي، وعد فيها الاكراد بفدرالية كردية تركية ولكن بعد التحرير واقامة تركيا الحديثة، وصدّق الاكراد ذلك الي حد انهم منحوه مساعداتهم العسكرية في المذابح التي شنها ضد الارمن بعد ان اقنعهم اتاتورك انه في حال انتصار الاوروبيين والارمن فان الارمن سيضمون كردستان لتحقيق حلم حياتهم باقامة ارمينيا الكبري، ثم بعد ان سكتت أصوات المدافع، انهالت عصا التأديب الاتاتوركية علي الاكراد، في الوقت نفسه الذي كان يقتطع فيه لواء الاسكندرون العربي من سورية باتفاق مع الانتداب الفرنسي لا يخلو من الخسّة..
لقد اراد اتاتورك ان يثبت للغرب انه مستغرب حقيقي فقدم وقدم حلفاؤه من بعده اوراق اعتمادهم، كانوا الدولة الاسلامية الوحيدة والاولي التي تعترف بكيان العدو الصهيوني عام 48، وارسلوا قوات لدعم القوات الامريكية في الحرب الكورية عام 1951، وانضموا الي حلف الاطلنطي مستفيدين من موقعهم المتاخم للامبراطورية السوفييتية عام 1952، وانخرطوا في مؤامرات حلف بغداد، عرابين كثيرة لا تحصي ولا تعد قدمتها الدولة التركية الي الغرب لتقول له انها منه واليه، وبذلك رسخ عند العرب في المقابل متخيل ثابت، او صورة سلبية نمطية عن الاتراك انهم طغاة متجبرون، صورة سلبية رديفة للصورة السلبية الاخري التي رسخت عند الاتراك عن العرب..
ثم تطورت الاحداث التاريخية عند كلا الطرفين علي ضوء وعلي وقع تفاعلات الصراع الدولي المستحكم في هذه البقعة التي تجمعهما معاً كجيران، في تركيا مؤسسة عسكرية نصّبت نفسها حارسة علي الدستور العلماني وهو دستور اقصائي فاشي مكتوب بعقلية تحريم الحلال وتحليل الحرام، الي حد الصدام مع المؤسسات المجتمعية والسياسية، فظلت تدير الانقلابات كلما احست بالخطر علي دورها ومكانتها، كل عشر سنوات انقلاب، 60 ، 70 ، 1980، مستمدة شرعيتها من الاتاتوركية المنشئة لتركيا الحديثة، ومتحالفة بقوة مع الغرب في وجه المعسكر السوفييتي، ومعادية للعرب الي حد استخدام الطائرات الامريكية والاسرائيلية للقواعد الجوية في تركيا ضد العرب خلال حربي 67 و73 ، ثم مطورة ذلك العداء للعرب الي حد ابرام شبه حلف عسكري واستراتيجي مع الكيان الصهيوني اتاح للاخير نصب محطات رصد بين تركيا وسورية وتركيا والعراق وتركيا وايران تديرها وتتصل معها شبكة من اقمار التجسس الصناعية الاسرائيلية لتطويق الامن القومي العربي..
وفي المقابل، انحسر المد القومي العربي تدريجياً برحيل جمال عبدالناصر، وبصعود الرجعيات العربية الملكية والجمهورية مع الفورة النفطية، وباسقاط اي مشروع وحدوي قومي، وهو الطرح الذي دأبت ليبيا الفاتح من ايلول (سبتمبر) علي الدعوة اليه، وتدرج النظام الرسمي العربي في التفريط حتي في مكتسبات مرحلة الاستقلال التي دشنتها الثورة المصرية اوائل الخمسينات، وبدأت التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية للغرب تصبح منهجاً واضحاً لذلك النظام، وانعكس ذلك علي النظرة الي العدو الصهيوني، فبدأت حالة العداء تستبدل علي الصعيد الرسمي بحالة الاعتراف والتوافق والتلاقي باعتبار ان المرجعية الاساسية لكل من ذلك النظام الرسمي العربي وللكيان الصهيوني هي الغرب نفسه، وامريكا تحديداً، مع افضلية طبيعية للكيان باعتباره في الاساس منشأة غربية مزروعة علي الارض العربية، ومن ثم شهدت العلاقات الرسمية بين الاتراك والعرب تحسناً كبيراً علي مستوي الحكومات، وانما علي صعيد الحوار الحضاري واللقاء الاستراتيجي وعلي مستوي التلاقي الشعبي الذي يتخذ صفة الديمومة ظلت هناك استشكالات عديدة تبحث عن علاج، وظلت رؤي كثيرة تفتش عمن يبلورها وظلت مفاهيم مغلوطة تتلمس طريقها بصعوبة نحو التصحيح..
لقد وصل العرب والاتراك معاً الآن بعد قرن مما يمكن وصفه بالعداء او علي الاقل التشاحن، الي حقيقة ان المصالح التي تجمعهم والروابط التي تضمهم هي اكبر واهم من اي شيء آخر، ووصلا معاً الي الاصطدام بالحقائق المتولدة عن متغيرات الصراع الدولي وصعود القطب الواحد، وفي الداخل التركي تبين بوضوح الآن ان الاتاتوركية لم تحسم نهائياً مسألة الهوية رغم نص الدستور علي ان تركيا علمانية ورغم اجماع الطبقة السياسية الوارثة لاتاتورك ورغم الدور المتجاوز لصلاحياتها الذي تقوم به المؤسسة العسكرية التركية في ردع اي محاولة شعبية او سياسية او حكومية او حزبية تجري في تركيا للانتفاض ضد العلمانية، وينبغي هنا استطراداً الاشارة الي ان علمانية تركيا تفوق علمانيات اوروبا وتتميز عنها بالنفس الاقصائي الاقرب الي العدوانية، والي ان دور المؤسسة العسكرية في تركيا هو دور فريد من نوعه بين الانظمة الليبرالية والبرلمانية في اوروبا، او في العالم، اقول ان ازمة الهوية في تركيا قد بدأت تشهد انتهاء الاتاتوركية عملياً، وتصدّع الدولة العلمانية، وانحسار تدريجي للقوي وللطبقة السياسية التي شكلت الجمهورية الاولي وبدء الولوج في عصر الجمهورية التركية الثانية، ان المؤسسة العسكرية التركية لا زالت قوية حتي الآن ولكن دورها يتراجع والنظرة اليها تختلف، لم تعد تلك العصا الغليظة، في مرحلة ما فعلت تلك المؤسسة في تركيا ما فعله السادات ضد القوميين في مصر عقب توليه الرئاسة، اشاعت ان اليساريين والماركسيين يريدون الانقضاض علي الحكم وموالاة الاتحاد السوفييتي، فرسمت سياسة تشجيع التيار الديني لموازاة اليسار، فحفرت بذلك - كالسادات - قبرها، وانما في تركيا التيار الديني كانت له فرصة سانحة لينظم نفسه في حياة حزبية تتسم بالحراك، فظهر حزب الخلاص الوطني ثم حزب الرفاه وعندما استفاقت المؤسسة العسكرية الي خطورة تنامي شعبية التيار الاسلامي كانت تصطدم بتبلور الرفض الاوروبي والاشمئزاز الامريكي- الضمني- من سياسة الانقلابات العسكرية التي كانت متبعة زمن الوجود السوفييتي علي الحدود التركية بل وكانت مبلوعة ان جاز التعبير من الغرب، وهكذا لجأت المؤسسة العسكرية الي البديل، شن الحرب ضد الاسلاميين باعتبارهم خارجين عن الدستور، كان الجيش التركي ينتهز كل فرصة يصعد فيه حظ الاسلاميين لتولي السلطة ليحشد الدسائس الحزبية في الداخل من جهة، وليصعد من مستوي علاقاته مع الكيان الصهيوني من جهة اخري، وهكذا شهد العام الذي تولي فيه نجم الدين اربكان رئاسة الحكومة - بالشرعية المستندة الي نتائج الانتخابات - اكبر عدد من الاتفاقات والزيارات المتبادلة بين العسكر في تاريخ العلاقات بين تركيا والكيان الصهيوني، اتفاق عسكري استراتيجي ابرم في 23/ 2/ 1996 تم تدعيمه باتفاق في 28/8/96 يتعلق بتحديث الصهاينة لـ54 طائرة تركية (اف - 4) وتمول ذلك المصارف الصهيونية، ثم اتفاق ثالث في 1/12/96 بشأن مناورات مشتركة واتفاق رابع في 8/4/97 بشأن ما اسماه الطرفان تقدير مخاطر سورية وايران، كل ذلك من اجل احراج اربكان ودفعه للخروج من دائرة السلطة وهو الذي كان يدعو لتعزيز العلاقات مع الجوار العربي وصاحب الدعوة الي مؤتمر الثمانية الكبار من الدول الاسلامية وصاحب فكرة احياء آلية للتجدد الاسلامي داخل وخارج تركيا، ارادت المؤسسة العسكرية التركية آنذاك ارساء واقع علاقات قوية بالصهاينة لا يمكن حتي لمن يأتي بعد اربكان تجاوزها، باتفاقيات للتصنيع وللتحديث والتعاون الامني بعيد الاجل، رغم ذلك فرض الاسلاميون وجودهم كتعبير عن القاعدة الشعبية الاعرض في تركيا تسندهم في ذلك ذرائع قدمها حلفاء المؤسسة العسكرية الامريكان والاوروبيون والصهاينة انفسهم.
نبدأ باوروبا، رغم كل القرابين التي قدمها اتاتورك ومن جاء بعده الي الاوروبيين والغرب بصفة عامة، فان تغريب تركيا اصطدم بالرفض الاوروبي لأوربتها، في الاصل يستند الموقف الاوروبي الي اساس له صلة بالجانب العقائدي، اوروبا التي تفطر كل صباح علـي كرواسان وتتذكر الرايات العثمانية المرسوم عليها الهلال خارج اسوار فيينا، ترفض قبول الدولة المسؤولة عن توصيل الاسلام الي عمقها، ولكن ذلك لا يقال، وانما تقال اشياء اخري تتخذ كسدود وموانع لقبول تركيا في الاتحاد الاوروبي، وقبل ذلك كانت المؤسسة العسكرية التركية قد اصطدمت برد الفعل الاوروبي العنيف ضد الاحتلال التركي لشمال قبرص، والذي تسميه تركيا الي الآن ارسال قوات لحماية الجالية التركية، هذا الرفض كان الرد عليه منتصف السبعينات في القرن الماضي دخول تركيا الي المؤتمر الاسلامي، وبدأت قيادات سياسية بل وعسكرية تركية كثيرة تراجع مواقفها وافكارها عن اللحاق باوروبا، ثم ان اوروبا عندما ازداد الالحاح التركي بعد اسقاط اربكان وخلال فترة رئاسة كل من طانسو تشيللر ومسعود يلماظ للحكومة، وبذلهما كل ما بوسعهما - بتنسيق مع العسكر- للانضمام الي الاتحاد الاوروبي، ردت اوروبا بشهر سلاح الرفض للسياسة التركية تجاه الاكراد، وبتذكر المذابح التي كانت قد وقعت ضد الارمن، ارادت اوروبا ان تغلّف رفضها لتركيا داخلها بهذين الغلافين، ولكنها كانت في الواقع توجه ضربة في الصميم الي المؤسسة العسكرية التركية واطروحاتها، اذ انها هي رأس الحربة التركية في كلا الموضوعين الاكراد والارمن، باعتبارهما شأناً داخلياً تركياً محضاً وانها قد تحتاج الي 15 عاماً اخري للتفكير في قبول تركيا عضواً فيها..
اما امريكا فخيبة امل اخري كبيرة للمؤسسة العسكرية وللسياسة التركية القديمة التي افرزتها الاتاتوركية، كذلك رغم كل القرابين التي قدمتها تركيا للولايات المتحدة، لاحلافها ولسياساتها ولمغامراتها، رغم القواعد الامريكية التي زرعتها في ارضها لتحاصر وترصد الاتحاد السوفييتي، رغم كونها خط الدفاع الاول عن الغرب كله طيلة 45 عاماً هي زمن الحرب الباردة، فان النظرة الاستراتيجية الامريكية الي تركيا تغيرت بمجرد انتهاء الاتحاد السوفييتي وبالتالي بدأت البرودة تسري في اوصال العلاقات بين تركيا وامريكا، وكان للعراق وللمسألة الكردية دوران حاسمان في تباعد البلدين، فالسياسة التركية الخارجة من صدمتها في اوروبا ومن صدمتها في تبدل النظرة الامريكية لاهميتها الاستراتيجية عقب سقوط الشيوعية، ارادت ان تحتفظ لنفسها بمسافة عن المخطط الامريكي المستجد ضد العراق وايران، وهكذا وجدنا رفضا تركيا لاستعمال قاعدة انجرليك في اجتياح العراق واحتلاله قبل اربع سنوات، مما اضطر الامريكيين الي التركيز علي البدائل في قواعدها بالخليج العربي، خصوصاً في قطر، وبعد التفاهم الاستراتيجي الذي ابرمه الرئيس حافظ الاسد مع المسؤولين الاتراك قبيل وفاته، والذي وجد فيه العسكريون الاتراك ومؤسستهم ما ينزع اي فتيل ويلغي اي مبرر لحالة الاستعداء ضد سورية رفضت السياسة التركية الانجرار وراء التطبيقات الامريكية لعزل وحصار وتهديد سورية، مما حدا بالامريكيين للحديث منذ وقت مبكر، في 2003 تحديداً، عن نيتهم في استبدال قاعدة انجرليك جنوب تركيا بقاعدة اخري في المشرق العربي ..
من جهة اخري فقد وجدت تركيا تجاوباً عربياً رسمياً، مع مخاوفها وهواجسها الامنية بسبب عمليات حزب العمال الكردستاني وقائده عبدالله اوجلان، الرجل الذي يرجع اليه الفضل في الحقيقة بتعريف العالم بالقضية الكردية، ففي ظل حكم الرئيس الشهيد صدام حسين، سمحت الدولة العراقية للقوات التركية بالتوغل داخل اراضيها لتعقب وضرب قواعد الامداد التي يقيمها الحزب في الجبال الحدودية، ووجدت المؤسسة العسكرية التركية مطلقة اليد في الشمال العراقي الي 50 كيلومتراً من الحدود الدولية، وانهي الرئيس الاسد كما سبق واشرنا كل وجود لحزب العمال الكردستاني في سورية متجاوباً مع التمني التركي، في مقابل هذا التجاوب من العرب، وجدت تركيا والمؤسسة العسكرية فيها تبنياً امريكياً متزايداً للاكراد علي ضوء حاجتها اليهم في مشروعها لضرب العراق وتهديد وحصار سورية، وهكذا امتعض الجنرالات في انقرة وهم يرون مسعود بارزاني كتفاً بكتف الي جوار بوش، وكادوا يتقيأون قرفاً وهم يرون امريكا تختار طالباني رئيسا للعراق..

khaledm
12-07-07, 03:15 PM
الحمد لله رب العالمين